نشأت في عائلة فقيرة، وفي بيت صغير…

قريتنا، كانت بلا طرقات معبّدة، ولا كهرباء، ولا ماء …


وكان علينا أن نقطع مسافة طويلة طويلة، عبر دروب جبلـيّة متشعبة حتى نبلغ أوّل مدرسة…

وقد كان علينا نحن الأطفال أن نصطحب النسوة في طلب الماء من عين بعيدة ظمأى…

وكان علينا أن نتحول أيام العطل إلى رعاة لقطعان من الماعز نحرسها من سطوة ذئاب كانت أبدا أوسع حيلة منا…

ما كان لنا أن نحلم بألعاب أو هدايا أو ملابس أنيقة…

فنحن لم نعرف من اللعب غير الطين نطوعه أشكالا ثم نسميها سيارات وطائرات وعصافير…

أو نعمد إلى خرق من القماش، نلفها بإحكام، ثم نسفح شطر يومنا في العدو وراءها خفافا بلا أحذية… أو نتخير عصيا نمتطيها جيادا…

وننطلق في سباقات محمومة لا تنتهي…

أما الملابس فهي ما يخلف الكبير للأوسط،

ثم ما يخلف الأوسط للصغير…

وأما الهدايا، فلا هدايا…

لقد كان علينا أن نكبر قبل الأوان ..!

في المدرسة ، لزمت المسجد،

حتى أصبح في حوزتي مفاتيح خزائن الكتب التي فيه…

فكنت أمضي جل أوقات فراغي في حفظ القرآن وقراءة كتب التراث.

خربشاتي الأولى بدأتها لأعبر عن مشاعر صغيرة، آنية وذاتية…

أما اليوم، فـ”ما عـدت أميز بين الكتابة والحياة” ، كما يقول غابرئيل غارسيا ماركيز…

لذلك، صرت أكتب من أجل تحقيق توازن داخلي أعرف سلفا أنه لن يتحقق…

أكتب من أجل الانتصار على طمأنينة زائفة تعتريني أحيانا…

أكتب في النهاية حتى أكون…

وحده النص العابق بوهج الحياة هو المؤهل للخلود…

أما النص المحايد فيولد باردا، مضعـضعاً لا نبض فيه…

والكتابة ـ في رأيي المتواضع ـ لا يمكن أن تستقيم مع الطمأنينة أبدا…

فـ”الطمأنينة دناءة روحية” على حدّ تعبير ليو تولستوي…

والاستكانة والثبات على نمط واحد من الكتابة لا يمكن أن ينتج أدبا عظيما…

أكتب هذه السـطور لأول مـرّة منـذ أن أصـبـت بـنـزيف حـاد في الـدمـاغ نـقـلت على أثره الى مسـتـشـفى جامـعـة غـوثـنـبـيـرغ التخصصي… لإسـتـئـصـال بـقـايا الـدم الـمـتـخـثـر في خلايا الـدمـاغ…

وطوال هذه الأِشهر حاولت أن أكتب يوميات تكون مختلفة عن كل ما كتبت سابقا…

يوميات تكتبني…

يوميات تقولني…

يوميات أجد نفسي فيها بكل شتاتي وتوزعي وأوجاعي…

على امتداد أشـهـر حاولت أن أكتب نصا آخر جديدا،

لكني كنت أخفق في كل مرة…

أشرع في الكتابة،

ثم لا يستقر رأيي على ما كتبت فأمزقه،

وأمضي إلى شأن آخر…

أعود إلى الكتابة من جديد،

وقبل أن يستوي النص،

أشعر أن ما أكتبه الآن كنت قد كتبته سابقا،

أشعر أني أكاد أكرر ذاتي،

وحتى لا أظل مشدودا إلى نفس الدائرة ،

فإني أهرب مني ومن قلمي…

وأعود إلى القراءة…

يملأني هلع كبير،

أصاب بالإحباط،

فأهرب مني،

ومن قلمي ،

ومن القراءة أيضا…