الأيـَّـام : أوَّل سـيـرة ذاتـيـة في الأدب الـعـربي

د. عبد القادر حسين ياسين

بعد مضيّ أكثر من خمس وسبعين سنة على صدور" الأيـَّـام"،  
هذا الكتاب الذي شاءه طه حسين بمثابة سيرة ذاتية،  
نشأت عليه أجيال تلو أجيال، وعليه تعلم الكثيرون أصول الأدب وفـن النثر الإبداعي،  
يبدو منعه في مصر مجحفاً لا بحق عـميد الأدب العربي فـقـط ،

وإنما بحق الأجيال الآتية التي لن يتسنى لها ،

اكتشاف هذا الكتاب الفريد على مقاعد الدراسة،  
والتعـلم منه لغـوياً وأدبياً وإنسانياً...


هـذه قضية كان يظن الجميع أنها أضحت من الماضي ،
بعدما كُرِّس كتاب "الأيام" أدبياً ،
واعتبر أول سيرة ذاتية يشهدها الأدب العربي،

وبعـدما اسـتـتـبّ أيضاً عصر طه حسين ،

على الرغم  من كل التهم التي كيلت له.

ويبدو منع "الأيام" الذي جاء متأخراً جداً،

ضرباً من العبث الذي بات يهيمن على الثقافة العربية المعاصرة.


مثل هذا الكتاب يحتاجه الطلاب مثلما يحتاجه الأدباء أنفسهم والقرّاء عموماً.

"الأيام" إحدى ذرى الأدب العربي المعاصر ،
ويمكن العرب أن يتباهوا به عالمياً، نظراً إلى فرادته ،
وإلى الثورة التي أحدثها في تاريخ الأدب العربي،

وإلى البعد الإنساني العميق الذي تحلّى به ،
من خلال مسألة العماء والتجليات التي تبدّت من خلالها.


هذا الكتاب لا يُقـرأ مرّة واحدة بل مرَّات ومرَّات ، وفي أعمار مختلفة.

سيرة ذاتية تتوارى خلفها هذه "الأنا" التي تروي، بصراحة تامة،

وقائع حياة لا تشبه الحياة، وحكاية ألمٍ طويل وصراع مرير،
مع العالم الذي يمكن وصفه بـ "المجهول".



لغة بديعة وأسلوب فيه الكثير من القـوة والجمال،

وعالم باهـر ببراءته وغـرابته وإلـفـتـه...

"بطل" ليس كالأبطال يسرد تفاصيل حياته في بيئة فقيرة ،
لم يتواصل معها إلا بالسمع والشم واللمس.

وعبر هـذه الحواس والذاكرة استطاع هذا الفـتى أن يلتقط صورة العالم.



وما أجمل تلك الصفحات التي يتحدث فيها ،
عن الكتّاب والبيت الصعـيدي والسياج الذي كان يأسره والمزرعة والقناة...



يصف الراوي ذلك العالم وكأنه يبصره،

بل هو يغدو في أحيان أبرع من المبصرين ،
في "تخيّل" ذلك العالم وتجسيده سردياً.



هكذا كان لهذا الفـتى أن يحفظ القـرآن الكريم في التاسعة من عمره ،
وأن يعكف لاحقاً على "ألـفـيـة" ابن مالك الحافلة بالصعاب،

ناهيك بـ "المتون" وقصص الغـزوات والفتوحـات،  
وأخبار عنترة والظاهر بيبرس...

كلّ هذا قبل أن يقوده أشقاؤه إلى الأزهـر.


تبدو "الأنا" ، التي تروي وتسرد وتتذكر،

على قـدْر كبير من الانسحاق.


الكتابة الإملائية هـنا تخلو من أي تبجح،

إنها كتابة صادقة تمام الصدق وصريحة كل الصراحة.



كتابة عارية إلا من الفتنة والبراعة والفن اللغوي.

اعترافات جريئة طالعة من عمق التجربة الأليمة،
التي خاضها هذا الكاتب الكبير.



فـنّ طه حسين لا يضاهـيه فـنّ آخر وأدبه نسيج وحـده،

نسيج الذاكرة والمخـيّلة محـفـوفـتـيـن بالأصوات ،
والروائح والتلمسات والأفكار، الأفكار التي تطوف في لـيـل الوجدان.


وصف طه حسين كتابه في المـقـدمة بأنه ،
"حديث" أملاه في بعض أوقات الفراغ،

ويـعـترف أنه لم يكن يريد أن يصدره "في كتاب يقرأه الناس". ويقول:

"إنما أمليته لأتخلّص من بعض الهموم الثقال ،والخواطر المحزنة ،
التي كثيراً ما تعتري الناس بين حين وحين...".



كتب طه حسين هـذا الكتاب في حال من القلق.

لم يكن يدرك سرّ عودته إلى ذكريات الصبا ،
مستعـيداً إياها في نصّ بهيّ، لم يكتبه لأحد،

نصّ كتبه كي يتحدث إلى نفسه وينسى، كما يقول.



ولم يفـتـه أن المكفـوفـين الذين سيقرأون هذا "الحديث" (بحسب تعبيره) ،
"سيرون فيه حياة صديق لهم في أيام الصبا".

قال: "سيرون"، لم يقـل: سيسمعـون أو سيدركون.

إنه هاجس البصر الذي انقلب هاجس بصيرة لدى هذا الكاتب الكبير،

المتمرّد والثائر، الأصيل والحديث.



فـرادة كتاب "الأيـَّـام" لا تكمن في كونه يمثل ،
أول سيرة ذاتية في الأدب العـربي فـقـط،

بل في كونه أيضاً من أجمل ما يمكن أن يُكتب في هذا الميدان.

وقد زاد عـماء طه حسين من بهاء هذه السيرة ،ومن جمال لغـتها.



كاتب في السابعة والثلاثين يواجه الطفل الأعمى الذي كانه،

وعـبر عـماء هذا الطفـل يواجه العالم ويحفر في اللغة صورة له،

حزينة وقاسية، جميلة ولطيفة في آن واحد.

لكن الكاتب الذي لم يـبـصر بعـينيه أبصر جيداً ببصيرته،

وعلى ضوئها تخيل الحروف والكلمات والجمل ،

وكتب كما لو أنّه تحت شلال من النور.


كتاب "الأيام" سيظل كتاب الأجيال المقبلة ،
التي سيشتدّ هاجسها في البحث عن الضوء،

وهل أجمل من الضوء الذي صاغ به طه حسين ،
هذه "الأيام" المشرقة من أعماق القلب والذاكرة؟!
د. عبد القادر حسين ياسين