الـمَـعِـيـن الـذي لا يـنـضـَب    الدكتور عـبد القادر حسين ياسين

حفلت الذّاكرةُ الصّهيونيَّة على مدار عـقودٍ بحكاية "المحرقة" (الهولوكوست)
تأصيلاً، وأدباً، ودراما، وتعليماً ...
ليسَ غريباً هذا كلُّه، بل هو أقلّ القليل ممّا يَسِمُنا بل يَصِمُنا!
أينَ هي الدّراما العربيَّة، بل الفـلسطينيَّة، التي تُعالجُ النّكبةَ؟
أليسَت مِمّا يُبْحَثُ عنه بمُجْهِر؟
أتساءَلُ عن هـذا قُبالةَ أمرينِ اثنين:
عشراتِ الأفلام السينمائيّة العالميّة التي أُنتِجَت على مستوى رفيعٍ،
تحملُ الروايةَ الصّهيونيَّةَ لحكاية "المحرقة"،
وترسِّخ الرؤيةَ الصهيونيَّة لما حدثَ في فلسطين ويحدُث،
وهي ليست من إنتاج إسرائيليّ محض، فبعضُها من إنتاج أوروبيّ أو أمريكيّ...
لماذا لَم تفعل بعضُ رؤوس الأموال العربيَّة، والفلسطينيَّة خصوصاً،
شيئاً ما بسيطاً جدّا في هذا الاتّجاه أيضاً، بـدلا من الملايين التي تـبـددهـا القياداتُ الفلسطينيَّة،
على أزيائها وسيّاراتها وفـيلاّتها وحراساتِها الأمنيّة،
بل على سهراتِها واحتفالاتِها على مدار عـقـود من الزّمن،
وشراء ذمـم الصحفـيّين والكتّاب لتبييضِ الوجوهِ قبل الأموال؟
لم تسمح الحركةُ الصّهيونيّة بنفوذها في العالم،
وإسرائيلُ بنفوذها السياسيّ و"الأخلاقيّ"،
يوماً لأحدٍ بالتّشكيكِ في حكاية "المحرقة"،
ولا بالرواية الإسرائيليّة لما حدث في فلسطين من إقـتلاعِ شعبٍ من أرضِه.
وأخبارُ محاكمةِ كُتّاب غـربيّين ومؤرّخين وفـنّانين شكّكوا في "المحرقة"،
أو في الروايةِ الصّهيونيّة لما حدث في فـلسطين أكثرُ من أن تُحْصَى...
فأينَ نحنُ من كتّابٍ أو أدباء عـربٍ يروّجونَ أنّ الفلسطينيَّ خرجَ من أرضِه باختيارِه،
وتركَ بلادَه لأنّه غيرُ منتَمٍ إليها؟
وأينَ نحنُ من بعضِ العربِ حين يفصِّلونَ الروايةَ الصّهيونيَّة تماماً،
بل يُفيضونَ في تزويقِها وتبهيرِها،
فـيسمونَ الفلسطينيَّ بـ "الخائنِ الذي باعَ أرضَهُ للصّهاينةِ مقابلَ سهرةٍ على شاطئ يافا" ؟
وأينَ نحنُ من أمثالِهم ممَّن يروّجونَ الروايةَ الصّهيونيَّة عن "أرضِ الميعادِ" ،
و"شعب الله المختار" و"أبناء العُمومة" و"الهيكل"؟
وهذا كلُّه يأتِي بعد أن كتب مـفـكـر بريطانيّ الجنسية، يهوديّ الدّيانة،
آرثر كُويْسْتْلر، كتابه الذي طُوردَ بسببِه طويلاً ،
The Thirteenth Tribe("القبيلة الثالثة عشرة"،)،
ثُمّ وُجِد مع زوجتِه في منزلهِما بلندن جثَّتين هامدتَين سنةَ 1983،
وقُـيِّدت المسألةُ بوصفِها "انتحاراً".
أثبت كويستلر أنّ كلّ من ينتمي إلى "الأشكينازيم" ،اليهـود الغربيّين ،
لا علاقةَ له البتَّةَ بموسى ولا ببني إسرائيل.
وهذا كلُّه بعد أن كتبَ الفـيـلـسـوف الفرنسيّ روجيه غارودي  ،
كتابه "الأساطير المؤسسة لإسرائيل الحديثة"،
وفـنـَّـد فيه جلّ المزاعم الصّهونيّة التي أسّست لقيام إسرائيل في الوجدان الغربيّ،
وأهـمّها حكاية "المحرقة"، وكانَ أن استصدرت الحركة الصهيونيّة وإسرائيل،
قراراً من المحاكم بحظر توزيع الكتاب سنة 1998،
وغُـرِّم غارودي بمبلغ 240 ألف فرنك فرنسيّ،
وحُكِم بالسّجن سنوات مع وقف التنفيذ!
هذا كلُّه بعدَ كِتاباتِ نعُـوم تْشُومْسْكِي، وعددٍ من المؤرّخين الجدد من اليهود أنفسهم،
مثل إيلان بايبه في كتابه "التّطهير العرقيّ لفلسطين" (2006)،
الذي عالجَ فيه أحداث 1948 بوصفها تنفيذاً منهجيّاً للخطّة "دال"،
المبنيَّة على خطواتٍ منهجيّة مدروسة لتطهيرٍ عرقيّ للفلسطينيّين سنة 1948،
داحضاً الكذبةَ الكُبرى المتمثّلة بالحديثِ عن تلكَ المجازرِ وذلك التّشريدِ،
بوصفِهما حرباً، أو بصفتهما حربَ تحريرٍ لأرضِ الميعاد؛
وكذلك المؤرّخ نورمان فِـنْكِلْسْتَايْن الذي ما يزالَ يُحاضرُ حول العالم،
وفي جامعاتِ العالَمِ "الحرِّ" ومنتدياتِه حولَ حكاية "المحرقةِ" ،
وأساطيرَ أخرى وظّفتها الصّهيونيَّة من أجل ترسيخِ مزاعمِها بحقوقٍ تاريخيَّة في فلسطين،
أو حقوقٍ أخلاقيَّةٍ لحلّ مشكلة "الشّعب اليهوديّ المظلوم" في العالم!
فما الذي نفعلُه نحنُ حِيالَ ذلك؟
تقرر السـلـطـة الفلسطينيّة تدريسَ الرواية والرُّؤيةِ الصهيونيَّتين ،
للصِّراعِ على فلسطين (أي تحديداً لما حدثَ سنة 1948) ،
في المناهج الدراسيّة في الصفوف الدّنيا،
في حين تَبحثُ عن أيّ أثرٍ للنّكبةِ في المناهجِ الدراسيّة العربيّة فتكادُ لا تجدُ شيئاً!
وحينَ تنظرُ في أكثرِ الصُّحف والمجلاّت والإذاعاتِ ،
والفضائيّات العربيَّة تُصابُ بالدّهشة، بل الذُّعـر!
تـحـل الـذكرى الـتـاسـعـة والستّون للـنـكـبـة دونَ أن يحسّ بها أحد،
وحينما تحدّث بهذا بعضَ أهل الرّأي والخبرة والمعرفة،
تجدُ عُـزوفاً عن الخوضِ في الموضوع،
وهروباً حـدّ الاتّهامِ، واعـتزالاً حـدّ الشُّبهة!
ولَولا ما حدثَ يوم الخامسَ عشرَ من أيّار لما كان لأكثرِ الإعلامِ العربيِّ،
أن يذكُرَ شيئاً إلاّ على استحياء!
في عـام 1953أقامَ الإسرائيليّون مؤسسةً تُعنى بحكاية "المحرقة"،
تسمّى "ياد فَاشيم" (اليد والاسم)، بموجب قانون يحمل الاسم نفسه،
أقرّه البرلمان الإسرائيليّ، وهي مؤسسة تذكاريّة خاصّة بـ"المحرقة"،
تقع على قطعة أرض مساحتها 180 ألف متر مربّع من أراضي القدس،
وتضمّ: مُتحف تاريخ المحرقة، ومواقع تذكاريّة مثل تذكاريّة الطفولة،
وقاعة لإحياء الذّكرى، ومتحف فن للمحرقة، وقاعة للمنحوتات،
وكنيساً، ومركزاً للمحفوظات، ومعهد البحوث والمكتبة،
ومواقع تذكارية مفتوحة، ودار نشر، ومعهدا دوليّا لدراسات المحرقة،
والمحفوظات غير اليهوديّة الخاصّة بالمحرقة...
ويعدّ المركز ثاني أكثر المواقع السياحيّة زيارةً في إسرائيل.
وقد زاره سنة 2015 أكثر من 900 ألف زائر، وزيارتُه مجّانيّة.
ومن المدهش أنّ مراسم زيارات رؤساء الدّول والحكومات إلى إسرائيل،
عادةً ما تتضمَّن زيارةَ هذه المؤسسة، وإقامة الشعائر فيها.
هذا إضافةً إلى أنّ الدّولةَ كلّها تحيي طُقوساً خاصّةً بذكرى "المحرقة" سنويّاً،
ولا يخلو منها كتابٌ من كُتبهم التعليميّة في المدارس،
حتّى العربيّة منها التي مُنِع مؤخّراً تدريسُ أيّ شيء عن النّكبة فيها،
أو تضمين الكُتب فيها أيّ نصّ عن النّكبة،
كما مُنِع الفلسطينيّون أنفسُهم من إحياء ذكرى النّكبة بأيّ صورة من الصّور،
في الوقتِ الذي تحتفلُ فيهِ إسرائيلُ بذكرى قيامِها!
أينُ نحنُ إذن؟ وفي أيّ وادٍ نَهِيم؟
ولماذا يُثيرُ بعضُ العـرب قضيّة وجودِ اللاجئينَ الفلسطنيّين في لـبـنان ،
بصورةٍ أقربَ إلى الابتذال، حينَما يجعَلُونَ من اللجوء الفلسطينيِّ مُشكلةً تُواجهها هذه الدول،
ويتناسَوْنَ الحديثَ عن أصلِ المشكلةِ؛
أي عن احتلالِ الأرضِ وطردِ النّاس منها بالمجازرِ،
وأكثرُهم لا يبذُلُ شَرْوَى نقـيرٍ في تثبيتِ الحقّ الفلسطينيّ،
في العودةِ إلى الأراضي التي احتُلَّت سنةَ 1948،
بل يكتفي بالحديثِ عن أراضي 1967؟
قد يكونُ للسياسيّين أسبابُهم وظُروفُهم،
ولكنْ كيفَ نفهمُ أسبابَ المفكّرينَ والأكاديميّين والمثقّـفـين،
والأدباء والمنظّرين من حزبيّين وغيرِهم؟
الأدهى من هذا كلِّه أن يتناسى الفلسطينيّون النّكبةَ،
ويكتفوا بتذكُّرِ النّكسة وتبعاتِها،
وكأنّ ما حدثَ أصبحَ تحصيلَ حاصل،
وأمراً مُبْرَماً، وقضاءً نافـذاً لا رادَّ له!
لماذا تناسى المؤرّخون العـربُ النّكبةَ ؟
في الوقتِ الذي بدأ فيهِ كثيرٌ من المؤرّخينَ العالميّين يهتمّون بها؟
ما دورُ المؤسساتِ التّعليميَّة من المدارسِ إلى الجامعاتِ ،
ومراكز البحوث والدراساتِ في هذا الإهمالِ: مقصوداً أو غيرَ مقصود؟
ألَمْ تمَسَّ النّكبةُ بآثارِها سائرَ الـدول العربيَّة؟
فلماذا عزفَ المؤرّخونَ العرب عن دراسةِ آثارِها وسُبُلِ علاجِ تلك الآثار،
ولماذا تجـنـّبوا الخوضَ فيها ؟
ولماذا - في المقابلِ - لَم يتناسَ الصّهاينةُ روايةَ حكايةِ "المحرقة"،
وقد مضى على مزاعِـمها 72 سنة؟
ولماذا ما يزالون يضطهدونَ الذّاكرةَ الأوروبيَّةَ بتلك الأهـوالِ،
ويجلدونَ أيّ مفكِّرٍ أو سياسيّ أو صحفيّ أو أديبٍ أوروبيّ،
يُنكرُ وجودَ "المحرقة"، أو يهوِّنُ من مزاعمِهم حولَها،
في الوقتِ الذي يُمَنْهَجُ تَناسِي النّكبة وأحداثِها المرعبةِ من مجازرَ وحشيَّة،
ودَمارٍ كُلّيّ، واستيلاءٍ حقيقيّ ثابتٍ راسخٍ قائمٍ لا يقبلُ جدالاً ولا طَعْناً،
وتشريدٍ قَسْرِيٍّ للنّاس، وتغييرٍ للمعالمِ الجغرافيّة والطبيعيَّة،
وتهويدٍ للأماكنِ والشوارعِ والذّاكرة؟
فكيفَ نلجأُ نحنُ إلى طَمْسِ ما حدث؟
بل نلجأ إلى تدريس روايتِهم لأحداثِ النّكبة،
ومزاعِمهم بأنّ فلسطين "أرضٌ بلا شعـب، لشعـبٍ بلا أرض"،
وأنّها أرضُ اللهِ الموعودة، وأنّهم شعـب الله المختار،
وأنّهم اضطُهِدُوا وظُلِمُوا في أوروبا، وتعرّضوا لمجازر "المحرقة"؟
إذا كانَ اللجوءُ الفلسطينيّ مشكلةً لأحدٍ،
فهو للفلسطينيّ قبل كلّ أحدٍ غيرِه،
وإذا كانَ يمثّل مشكلةً لأحدٍ غيرِه ،
فينبغي أن يُعينَ الفلسطينيّ على استعادةِ حقوقِه،
لا أن يُعينَ على مزيدٍ من استلابِ الحقوقِ،
ثمّ يلوي حديثَه ليصبحَ اللجوءُ عبئاً مُضاعفاً..
أنجزالـمـؤرخ الفـلسـطيني عارف العارف "موسوعة النّكبة" في ستّة مجلّدات،
وهي من أفضل ما كُتب تفـصيلاً عن النّكبة،
وأنجزالمفـكـر المصري الـراحـل ، الـدكتور عـبـد الوهـاب المسيري "الموسوعة الصّهيونيّة"،
في ثمانية مجلّدات، وهي أفضل ما أُنجِز عن الحركة الصهيونيّة ،
وتحليل الشخصيّة الصهيونيّة وتاريخها،
وأنجزالـمـخـرج الفلـسـطـيـني وليد سيف مسلسل "التغـريبة الـفـلـسـطـيـنـيـة"،
بإنتاج وتفاصيل متميّزة مستوحاةٍ من قصّة عائليّة،
ولدينا أعمالٌ متناثرة في السينما والدراما التلفزيونية والتّأريخ،
والفنّ والمسرح والرواية والشعر والتوثيق،
ولكنّ هذا كلَّه تجسيدٌ للضّياع لأنّه صنيعةُ أفراد،
ولا يقدّمُ شيئاً إلاّ بمقدار ما يقدّم لمنجِزِيهِ أحياناً من مادّةٍ تُرضي الذّات،
أو تثيرُ في النّفوسِ أشياءَ آنيَّةً ظرفيَّة.
إنَّ الجهودَ المطلوبةَ من أجلِ الاحتفاظِ بأبعادِ النّكبةِ في الذّاكرة،
وحقّ اللاجئين الفلسطينيّين في الـعـودة إلى أراضيهِم ،
وتعويضِهم عن التّشريدِ في أصقاعِ الأرضِ ظُلماً وقهراً وعُدواناً،
ليس أقلّ من عملٍ مؤسّسيّ تقومُ عليه مؤسّسة كُبرى،
تؤطّر الأعمالَ والجُهودَ لتصبَّ في مسارٍ واحد،
وتهتمّ بدراسات النّكبة وآثارها وأبعادِها ،
والمشكلاتِ التي خلقتها للفلسطينيّين أنفسهم وللعربِ جميعاً.
وبـعــد ؛
إذا كانت النّكبةُ قد أدّت إلى ما أدّت إليه،
فإنّ أسوأ ما قد يكونُ هو نسيانُها،
بما يحقّق حُلمَ دافـيـد  بِن غُـورْيُون ومَن بعـدَه قادة الحركة الصهـيـونيّة:
"إذا تذكّر الجيلُ الحاليّ، فالأجيالُ القادمةُ ستنسى فـلسطين،
القضيّة قضيّة زمن ..."
الذاكرةُ أهمّ من الفعلِ نفـسه،
لأنّها مصدرُه ومَعِـينُه الذي لا ينضَب.
ومع كلّ ما تعـرّضت له الأمّة منذ نكبتِها حتّى الآن،
وكلّ ما أصابَها وسُلِّط عليها،
أو وقعَت فيه هي من الإرباكاتِ والاختلالاتِ،
فإنّ المحافظةَ على وعيٍ ناصعٍ بالحقّ وقُـوَّته،
وتسليطَ الضّوء عليه دائماً،
سيبقيان مشعَـلَها الهادي لاستعادةِ ما ضاعَ اغـتصاباً.