القارب
 
        هناك عند ارتطام الموج بالصخر الجاثم في شموخ و جبروت على البحر الهائج وبجانب بقايا منزل ربما كان في يوم من الأيام سكنا لأحد البحارة ، مركب مهترئ غاصت مقدمته في الرمل ميمما وجهته نحو البحر وكأني به يتلهف   للانطلاق من جديد ، ويتحسر على أيام كانت شفتاه تلعق فيها ملوحة الماء  وخاصرته تعانق الموج . سكينته تبعث الأسى في النفس ومجذافه  المرمى في قعره يعبر عن أقصى درجات الاستسلام . إنه احتضار إن لم اقل موت.                    
لكنه يأبى إلا أن يتشبث بخيوط واهية من حياة انتزعت منه قسرا .. فهناك على خاصرته بقايا اسم أنثوي احتفظ له ببعض الدماء التي جفت منذ زمان في شرايينه .                                                                                           
     حين ألمس المركب بأناملي وأضعها على حروف ربما هو من بقايا اسم أنثوي طلي تحت وجه وسيم لم يتبق منه سوى عينين نجلاوين .. "ر" .. هل كانت رغد ؟ ريم ؟ رهف ؟.. لمساتي تجعلني أحس به يرتعش ، يتهادى ، يتنفس وأجد نفسي أترنم :                                                                                                                           
في بحار تئن فيه الرياح
ضاع فيها المجذاف و الملاح
        منذ ذلك الصباح الملبد بالضباب ، صارت عادتي أن أقصد باكرا هذه الناحية المقفرة من الشاطئ حيث لا أثر لأي إنسان .. النوارس وحدها تحلق عابرة نحو الأفق أو نحو الجهة الأخرى من هذا الشاطئ المترامي الأطراف ، الغارق في صمته كأنه يتعبد في خشوع لا يعكر صفوه أحد ولاشيء .
       أجلس بجانب المركب وأسند ظهري إلى مقدمته وقد اشرأبت إلى عرض البحر كأنها تتوق لمعانقته من جديد ، وأستظل بها من وهج شمس الظهيرة المتوهجة ، فأحس بالسكينة والطمأنينة ..                                                
       في البداية حملت منشفة وأزلت ما علق بجانب القارب من رمل وطحالب . ثم بدا لي أن أطلي واجهته بنفس الطلاء الباهت الذي يكاد ينمحي .. يا إلهي كم أحسست به يهتز على وقع فرشاتي وينتشي بطلائها . ثم يسري في حناياه خدر وأنا أعيد كتابة الحرف الأنثوي وقد أصابتني عدوى الخدر ، فشرد ذهني إلى وأنا أتخيل من قد تكون صاحبة هذا الاسم أو على الأصح هذا الحرف الأول من اسم تمنيت لو كان مكتملا على واجهة القارب .. كنت كمن يعيش حلما يحملني وإياها على ظهره وقد استعاد عافيته ، بل حياته بعد أن كان على شفا الاحتضار .                                                    
       يمر بعض المصطافين ، ويتوقف بعضهم متأملا انغماسي في العناية بالمركب ، لكني لا أبالي إن كانوا معجبين أو ساخرين ، بل إني لا أحس بتواجدهم من حولي .. فشرودي أخذني بعيدا وصار المركب حلمي . لقد منحني مركبي يقينا بأن حلمي سيتحقق يوما ما وأبحر على متنه في رحلة البحث عن صاحبة الاسم  المنقوش على خاصرته .