الـرَّحـَّـالة الـظـُـرفـاء الـمـَـنـبـوذون الدكـتـور عـبـد القـادر حـسين ياسين
تاريخهم حافل بالإثارة والغموض معاً ،وحاضرهم يثير العديد من الأسئلة،
فهم قوم عـٌرفوا بمواهبهم الموسيقية والغنائية وبقراءتهم للطالع،
إلى جانب الرقـص والأعمال البهلوانية والتسول،
لم يعرفوا الاستقـرار، أثروا وتأثروا بالثقافات المحيطة بهم ،
ولا تزال لهم سماتهم ومزاياهم التي تميزهم عن المجتمعات المحيطة بهم
يرصـد هـذا الكتـاب "الغجـر: الـرحـَّـالة الـظـرفـاء الـمـنـبوذون" ،
تاريخ الـغـجـر ويصور حاضرهم.
نشرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1995 ،
وأعـيدت طباعـتها ثلاث مرات.
وفي كل إصدار جديد كان المؤلف يـقـوم بإدخال تعديلات،
متعلقة بالمتغيرات السياسية التي طرأت على أوروبا الشرقية ،
والتي أدت إلى ظهور العديد من المضايقات ضد الغجر في كثير من الدول.
حـيـاتـهم... بـيـن المـدّ والجـزر
عـَرف الغجر في ظل الدولة العثمانية الحياة الحرة ،
وفي عام  1530 أصـدر السلطان سليم فرماناً ،
يضبط فيه بقاء الغجر في عدد محدد من مقاطعات الإمبراطورية،
وأعـفى ابنه السلطان سليم الثاني الغجر العاملين في مناجم البوسنة من الضرائب،
ولكن مع تراجع موارد الدولة العثمانية في أواخر القرن السابع عشر ،
ازدادت الضرائب عليهم حتى أثقلتهم، إلا أن حياتهم بقيت في ترحال مستمر،
وتعددت أعمالهم ، وتحوّلت من الصناعات التعدينية إلى صناعة المكانس ،
وتنظيف مداخن المنازل، كما عملوا موسيقيين وراقصين ومدربي دببة وحدّادين.
تأثر بحياتهم بعض الشعـراء، وأبرزهم الشاعـر الأردني مصطفى وهـبي التل،
المعروف بـ "عـرار" ، وهو أشهر مَن وصف حياة (النَّوَر) - اسم آخر لهم - ،
وخاصة بعـدما أغـرم بسلمى ، الراقصة الغجرية الممشوقة القـد والقوام حتى قال:
ليتَ الوقوف بوادي السّير إجـباري
وليت جارك يا وادي الشتا جاري
ولا أبالي إذا لاحـت مضاربهـم  
مقالة السوء في تأويل مشواري
بين الخرابـيـش لا عـبـد ولا أمة
ولا أرقـاء في أزيـاء أحـرارِ
الكـل زط مـساواة محـقـقـة
تـنـفي الـفـوارق بـيـن الجـار والجـار
وقد تعـدد الشعراء الذين مدحوا "النَّور"،
لكنهم لم يصرّحوا بأسمائهم،
خجلاً أو خشية الاضطهاد رغم مسالمتهم الدائمة في كل رحلاتهم.
الغـجـر في أوروبا
امتلأت نفوس الأوروبيين بالكره نحوهم ،
حتى أنهم اتهموهم بـنـقـل الأوبئة وإشعال الحرائق ،
ونشر الحيوانات الضارة كالفئران، وبحرق الغابات والقيام بأعمال الشعوذة.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أخذت الدول الأوروبية تلفظهم خارجا،
وتسنت لهم فرصة البقاء في دول البلقان فقط، فتكاثرت أعدادهم بشكل كبير هناك،
ولكن تجمعاتهم لم تعفهم من الاضطهاد الصريح غالبا،
وفي رومانيا الحديثة لاقـوا الأهوال في عصر الرئيس تشاوشيسكو ،
الذي استعـبدهم في أعمال قـذرة، وفي مختلف دول أوروبا الشرقية ،
حرمتهم الحكومات من تداول الثقافة الغجرية ، وحظرت عليهم التحدث بلغتهم.
ولما غـذيت نار الكراهية الدينية والعـنصرية في البلقان ،
انصبّ كره الجميع وحقـدهم على الغجر.
في نيسـان عام 1971 انعقد المؤتمر العالمي للغجر،
وانتخب الشاعـر الغجري اليوغسلافي سلوبودان بربرسكي،
أول رئيس له اعترافاً بجهوده من أجل الحقوق الخاصة بهم.
رفـض الغجر طوال قـرون الانخراط ، في حياة المجتمعات التي يعيشون فيها،
وظلوا قوماً ذوي ثقافة وعادات تحوم حولها الشبهات والملابسات،
يتمسكون بهويتهم المستقلة ، ويمعـنون في رفض المألوف.
مع نهاية القرن الرابع عشر، يـقول المؤلف ، أصبحت المجر القوة العظمى الأوروبية ،
التي تواجه العثمانيين... توسعت هذه المملكة لتتجاوز الحدود المعروفة الآن للمجر،
لتشمل ترانسيلفانيا وأجزاء كبيرة مما كان يعرف باسم يوغـوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا.
لم يعرف حتى الآن على وجه التحديد زمن ظهور الغجر في هذه المناطق،
إلا أن اسم الغجر ارتبط أحياناً بأسماء عائلات وأسماء قرى.
ويروي المؤلف كيف تحول الشكل الغجري إلى رمز للغرابة والغموض،
ويعدد الكثير من الرسومات المعبرة عن هذا الاتجاه ، خاصة في إيطاليا.
وخلال المائتي سنة التالية، من منتصف القرن السادس عشر إلى نهاية القرن العشرين،
إستمرت ذات النظرة المريبة تجاه الغجر، بل وزادت الضغوط عليهم ،
حتى أن السلطات الرسمية لم تستطع التأقلم والتعامل معهم فازدادت المعاملة سوءا،
وتعددت أشكال الاضطهاد.
لم يعن الاستقرار بالضرورة اندماج هؤلاء القوم داخل المجتمعات التي يعيشون فيها،
ولكن يمكن الإشارة إلى أنهم اكتسبوا بعض خصائص هذه المجتمعات.
ورويداً رويداً بـدأ العـديـد من الغـجـر بإرسال أولادهم إلى المدارس
لم يختلف كثيراً الموقف العدائي للكنائس ،
سواء الأرثوذكسية أو الكاثوليكية أو البروتستانتية،
من الغجر حيث اعتبرتهم الكنائس "قوماً بلا دين"،
ولم تبدأ في الاهتمام بهم إلا في القرن التاسع عشر ،
وبالأخص مع ظهور الإرساليات التبشيرية.
يصف المؤلف موقف الغجر المتحيز في مواجهة الشعوب التي يتعايشون معها،
مما عرضهم للاستعـباد والمضايقات والخروج عن القانون والمطاردات.
وبالرغم من كل المعوقات ، فإنهم نجحوا في الاستمرار في الحياة ،
والحفاظ على تراثهم وثقافتهم المتميزة التي اجتازت كل الحدود القومية.
اختـلفـت الأراء حول مفهوم اسم الغجر (Gypsy) ،
حيث أطلق على أعضاء من الجوالين، من جذور هندية،
ظهروا أول ما ظهروا في بريطانيا في بداية القرن السادس عشر،
وجاء وصفهم كما يلي: "يتميزون ببشرة صفراء داكنة وشعر أسود.
يطلق على لغتهم اسم (Romany) ، وهي عـبارة عن لغة عامية ،
مفككة للغة الـHindi  ، ممزوجة بالعـديد من الكلمات من لغات أوروبية مختلفة،
وقد اتسعت فيما بعد كلمة غجر لتشير إلى أي مجموعة من الرحل ،
أو الخارجة على الأنماط السائدة للمجتمع.
لم يـُكـتـَب شيء يذكر عن الغجر خلال النصف الأول من تاريخهم،
لاسيما بعض الكتابات التي ساهمت في تتبع خط سير الغجر،
ورويداً رويداً تعددت الكتابات التي قام بها أشخاص من خارج مجتمعات الغجر ،
والتي حملت في معظمها جهلاً بتاريخ الغجر ، وتحاملاً عليهم وعـدم إدراك لهويتهم.
ثم بدأ الباحثون في الاتجاه نحو دراسة لغة الغجر،
باعتبارها قادرة على كشف الكثير من الجذور والتطورات،
فكانت هناك صعـوبات تواجه هذا المسـار البحثي ،
حيث لم تكن هناك لغة مكتوبة ، بل كان هناك مزيج من اللهجات،
وإن وجدت بعد ذلك بعض الكتابات التي خضعت للدراسات المقارنة ،
ودراسة عـلم الصوتيات حيث تداخلت اللغات المستخدمة.
الغجـر والاستــقـرار
بدأت في العقود الماضية تهب رياح التغيير والتطور فيما يتعلق بالغجر،
حيث تأسست مجموعة من المؤسسات تهدف إلى إعادة صياغة النظرة إلى قضية الغجر،
وقد واكب هذه المتغيرات تحولات في العديد من القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية،
التي ساهمت في التأثير على هجرات الغجر ، وعلى وضعهم الاجتماعي في مجتمعاتهم،
خاصة أنه قد تبدلت الحياة الريفية والمدنية في كثير من الدول مع بداية العصر الصناعي،
وتبدل الحرف والوظائف وتـفـتـت الإقـطاعيات الكبرى،
ولكن وبالرغم من كل ذلك، حافظ الغجر على نوع معين من الحياة المنفصلة،
مع استمرارهم في إمداد الحياة الاقتصادية بإنتاجهم المتنوع الخاص.
و يشير المؤلف إلى أن الموهبة الموسيقية والغنائية ،
كانت من العناصر الأساسية في تقبل المجتمعات لهؤلاء القوم.
وقد تركت الحرب العالمية الثانية الغجر في حالة من التشتت والتفتت،
وفي عام 1925 اعـترف الاتحاد السوفـيـيتي بالغجر باعتبارهم من الأقليات القومية.
ثم أدمجت بولندا في عام 1950 هؤلاء الرحل داخل المجتمع،
لكن مظاهر الاستقرار تلك سرعان ما انهارت مرة أخرى في العديد من الدول،
ففي المجر ظهرت مشكلات اجتماعية كبيرة ،
متعلقة بزيادة نسبة المواليد لدى الغجر،
مما أدى إلى مزيد من الاضطرابات والتوترات.
في الفصل الأخير من الكتاب ، يرسم المؤلف صورة للغجر ،
فيشبههم بلوحة من الفسيفساء ،وقد أثروا وتأثروا بالثقافات المحيطة من حولهم ،
وكيف أنهم لا يزالون يحتفظون بخصائص تميّزهم عن المجتمعات المحيطة بهم،
فبالرغم من اتخاذهم لصفات متعددة ممن حولهم ،
فإنهم نجحوا في صبغها بأسلوبهم الخاص.
هذه جوانب من حياة الغجر أولاها الكتاب الاهتمام ،
إلى جانب العادات والتقاليد الغجرية وأحوال المرأة،
وكيف يعيش الأطفال في تجمّعات الغجر،
ويشد الكتاب القارئ بالصور الملوّنة لحياة الغجر ،
وهم ينشطون في مختلف النواحي، حياة مليئة بالبؤس والفرح معاً.