لماذا نحـن أغــراب...؟!
د. عبد القادر حسين ياسين

ما من مرة سمعت فيها بنشاط إنساني يتعلق باللاجئين،

إلا وتبادر إلى ذهـني سؤال متسرع :

وهل يوجد في الدنيا لاجئون سوانا؟!..

ثم أستدرك أن التشريد والتطهير العرقي واللجوء الجمعي،
هي من أكثر الظواهر الناجمة عن العـدوان والاستعمار شيوعاً.

في إفـريقيا، في آسيا، بل إن أوروبا عرفت ذلك النوع من التشريد،

ولم تكن البوسـنة والهـرسك إلا مثالاً، من غير أن يغيب عن الذاكرة،
تلك المآسي التي صنعها النازي.

وإذا كان ما تقدم صحيحاً، وهو صحيح ما في ذلك شك،
فمن أين يأتينا الإحساس بأن اللاجئين كلمة خاصة بالـفـلسطـيـنـيـيـن؟

تنفـرج الذاكرة عن صور قاتمة مليئة بالدموع والحسرة...
كان الأهل يعرضونها على مسامعـنا حتى نكاد نراها.

فكأنهم كانوا على موعـد مع معـنى اللجوء منذ لحظة الهجرة الأولى.

وقد أزيد فأتـذكر أول مرة سمعـت فيهـا بإسم الشاعـر إبراهيم طوقان،

متبوعاً بأنه فـلسطيني من نابلس. فاستغربت سائلاً مُـربي الـصـف:
كيف يكون إبراهيم طوقان شاعـراً، وهو ليس لاجئاً مثلنا؟ !
فاللاجئ في مخيلة الطفل الذي كنت هـو الفـلسطيني بالضرورة،

وطبيعي أن أكون قد طرحت سؤالي البريء قبل هزيمة 1967.

وكان علي أن أتذكر دائماً، وبصورة يومية،

صفوف تلاميذ مدرستنا الابتدائية،
وهم ينشدون فلسطين ويؤكدون أننا "عـائدون..."

ومن خلال ظاهرة اللاجئين، إسـتـولـت الفجيعة على المشهد الشعري الفلسطيني،

ولا سيما في تلك السنوات العجاف التي سبقت ظهور منظمة التحرير الفـلسطينية.

وكانت الإشارة إلى اللاجئين تبدأ بعـناوين مجموعات بعـض الشعـراء.

فهذا أبو سلمى يصدر ديوان "المُـشـرَّد"،

أما يوسف الخطيب، فإن عـنوان مجموعته المبكرة، هو "عائدون".

ولعل أول مجموعة فـلسطينية تنطلق من مأساة اللاجئين،

كانت للشاعـر هارون هاشم رشيد، وهي "مع الغرباء"، وقد صدرت عام 1954.

وهناك مجموعات تشير عـناوينها إلى الجرح الفلسطيني بصورة مطلقة،

مثل "فـلسطين على الصليب" للشاعـر معين بسيسو،

و"حيفا في سواد العيون" للشاعـر حسن البحيري.


وإذا كان الوطن الذي يبتعـد عن أنظار اللاجئين،

يحـل عـميقاً في قـلوبهم،

فإن الابتعاد عن الوطن سيخلق واقعاً جديداً.

لقد ولـَّـت أيام اليـُـسر والبحبوحة.

وها هي سلمى الخضراء الجيوسي ،
التي كانت تردد مع أمها ذلك الغـناء المزدهي بصفـد ،
تجد نفسها، وهي لاجئة، جديدة العهد بالغـربة،

لا تستطيع أن تمنح المتسول صدقة،

لأنها أصبحت في حاجة إلى تلك الدراهم ،
التي كانت تتصدق بها عن سعة وبسعادة.

ويلتقط هـارون هاشـم رشـيـد سؤال الطفل البريء،

المتوجه إلى أبيه اللاجئ، مستغرباً أنهم يعيشون خلافاً للآخرين،

غرباء مشردين:
"لماذا نحن يا أبتي؟  
لماذا نحن أغـراب؟!
أليس لنا بهذا الكون
أصحاب وأحباب؟!"

ولكن هـذا لا يعـني أن زلزال النكبة لم يعـصف بشـعـراء فـلـسـطين،

وأن مأساة اللاجئين لم تزعـزعهم.

على أن أشعارهم في ذلك لم تقف عـند رصد لحظة اللجوء وتصويرها،

بل حولت الخيمة إلى رمز للهزيمة التي يجب تجاوزها.

وحين يكون الجرح على هـذه الدرجة من الفـداحة،

فإن الألم ـ قبل التعالي على النكبة والبحث عن سبل التغـلـب على عواملها ـ

سيأخذ مداه في الحنين إلى فـلسطين،

لا كفردوس أندلسي مفقود،

بل كوطن لا تزال صورته ماثلة في الروح.

وسيكثر في هذا الشعر ترديد الخيام ، وتشخيص معاناة اللاجئين ويقينهم أنهم عائدون.

كما في قول هارون هاشم رشيد:
"أخي مهما أدلـهـم الليل سوف نطالع الفجـرا
فـلـسطين التي ذهـبـت سترجع مرة أخرى..!"