لم أكن أعـرف أحداً في تلك الأصقـاع الشمالية المتجمدة ، ولم أكن أعـرف كيف أصل الى بلدة (تروند)أو أين هي ”تروند”أصـلا ، وكم تبعـد عن العاصمة الآيسلندية ريكيافيك .
لذلك إرتميت متعـباً في المقعـد الخلفي من سيارة الأجرة الصغيرة ، وقلت للسائق : ”إلى فندق تروندال من فضلك ،إنني لا اعـرف العـنوان…”
كنت قد سمعـتُ بـفـنـدق ”التروندال”من الصديقة البـاحـثـة الـفـلـسـطـيـنـيـة الدكتورة إبتسام الخطيب ، وكانت الدكتورة الخطيب قد حذرتني من أن ”التروندال” هو ”أغـلى فـنادق المدينة”… وقلت يومها : ”كلها ليلة واحدة ، وأنت غـريب في بلد لاتعـرفه ،  فـلـمَ لا ؛ أين سـتـذهب في هذا الصقيع ؟!”
سـألت موظفة الاستقبال الحسناء عن أجرة الغـرفة ، فقالت لي،  بأدب جـَمّ اشتهرَ به أهلُ  الشمال :”ستمائة كراون آيسلندي ، يا سيدي”[أي ما يعادل 120 دولاراً أمريكيـاُ.]” ؛ أما إذا رغـبت في قضاء أسبوع أو اكثر فإن الأجرة ستكون خمسمائة كراون في الليلة الواحدة” … ولم تنسَ أن تذكريني بان هذه الأجرة تشمل الفطور فقط…!
سـَحـَرتني ”تروند”  ، وكدت ، وأنا امشي على شواطئ ”ألفيورد” الذي يشطرهـا ، وأشاهدجبال الجليد التي تنتصبُ كوحوش الأساطير في الميثولوجيا الآيسلندية، كدت أنسى أنني جئت إلى هنا بدعـوة من ”المعهد الآيسلندي للشؤون الدولية” للمشاركة في ندوة حول ”الصراعات العـقائدية في العالم الثالث” …
وكان كل من رآني يسـألني بتهذيب شـديد :”هل أنت قادم من وراء البحار يا سيدي؟”  وعندما كنت  أجيب بأنني قادم من تلك البـقعة الساخنة من العـالم المسماة ”الشرق الاوسط” ،  كان الجميع يتنهدون في تعجب ، ويعـرضون عليّ الضيافة ، ويرحـبون بي كما كان اهل تمبكـتـو يرحـبون بتجار التوابل القادمين من الهند.
كان من المفروض أن أجـد مندوباً عن المعهد بانتظاري في المطار ، ولكن عاصفة ثلجية أدت إلى تأخر وصول طائرتي من أوسلو خمس ساعات كاملة …
ويبدو ان الصورة النمطية للعـرب ، وعـدم إحترامهم لعـنصر الوقت ولآداب السلوك في أذهان شعوب الشمال ، دفعت الرجل  ـ كما أخبرني فـيما بعـد ـ إلى الاعتـقاد بأنني ربما قررت عـدم الحضور ، ولو كلــَّف نفسه عـناء السؤال لعـرف السبب ، ووفـَّر عليّ مشـقة القيام بتوضيح الصورة…
لكن كان لابد لي من أن أنسى سحـر ”تروند ” ، وأن أتحرك …..
ولكن كيف ؟
ومن أين أبـدأ؟
ومن أعـرف هـنا؟
وبينما كنت أطرح على نفسي هـذه التساؤلاتوأنا أعـبرُ الشارع العام  ، لمحتُ بالنيون العـريض إسم صحيفة ”نور ليس”(الأنوار الشمالية) ،  وقلت في نفسي : فـُرجـَت… لا شك في أن أحـد المحـررين يعرف مكان الندوة ، أو عـلى الأقل عـنوان ”المعهد الآيسلنديللشؤون الدولية” ،  وسـيـتـفـضل مشكوراً بارشادي إلى المكان…
وقـفـتُ عند البوابة حيث وضع ”كاونتر” خاص للإعلانات المبوبة  ، ثم تـقـدمت من احدى الحسناوات هناك ، ورويت لها مشكلتي …
وابتسمت… وقالت : ”ليس في استطاعـتي عمل أي شيء ،  لكن أقـترح أن تقابل محرر الشؤون المحلية ، فهو لا شك سـيـفـيـدك”…
واتصلت بالمحرر ، وقالت له : ”ثمة غـريب غـريب الأطوار، وصل لتوه إلى ”تـرونـد” ، وهو يريد مساعدتك…”  وقالت لي اسم المحرر ، لكن لكثرة خجلي وشدة تسرعي لم اسمع الاسم جيدا … وصعدتُإلى الطابق السابع ، فوجدتُ في انتظاري عملاقاً ضخم الجـثة ، كثيف الشعر، وكأنهواحدٌ من محاربي ”الفايكنغ”Viking الذين تتحدث عنهم الاسـاطير .
رحـَّب بي الرجـل بحرارة ، وأجلسني إلى جانبه ، ودون أن يكلف نفسه عـناء السؤال ، تناول زجاجة من “الاكوافـيـت”Aqua Vit، المشروب الوطني الآيسلندي الذي تبلغ نسبة الكحول فيه 68%فقط ، وقال : ”انك تكاد تـتجمد (كانت درجة الحرارة 35 درجة مئوية تحت الصفـر) … تناول كاساً واحدة من الاكوافيت وستشعر بالدفء !”
شكرته وقلت له انني لا أتناول الكحول على الاطلاق …
طلب إلى السكرتير ة ان تـُعـدَّ لي فنجانا من الشاي ، وأخـذ يشرح لي فوائد ”الأكوافـيت”  قائلا : ”الكأس الأولى تـنـقـلـك من الدائرة القـطـبـيـة الشمالية إلى خط الاستواء …، أما الثالثة فـتـنـقـلـك إلى جهنم والعالم الاخر…!”
قلت له أنني تاخرت في الوصول إلى ريكيافيك لأسباب قاهرة ، وانني أجهل مكان الندوة ، او حتى عـنوان المعهد ، وقال الرجل في كل بساطة  وتهذيب :
”سوف أوصلك بنفسي إلى مكان الندوة ، فانا مكلف بتغطيتها … وأعتقـد أنك أول عـربي تـطـأ قدماه ”مدينة” تروند ، وأود أن أحيـطـك علـمـاً بأننا على موعـدمع الانتخابات البلـدية في الأسـبوع المقبـل ، ويشـارك في هـذه الانتخـابات  خمسة أحزاب يتنافس ممـثلوها للفوز بمقاعـد المجلس البلدي والحكومة المحلية…(بالمناسبة ، لمن يـهـمـه الأمر ، يبلغ عـدد سكان آيسلندة 300 ألف نسـمـة… وتبين لي ، فيما بعـد ، أن عدد سكان ”المدينة” لا يزيد عـن ثلاثة آلاف نسمة) ”وربما كان من المفيد لرجل مثلك الاطلاع  على تجربتنا الانتخابية …
”هل تعلم أن ابن رئيس البلـدية الذي يمثـل الحـزب الشـيوعي ينافس والـده المسيحي المحـافـظ؟ ، وهل تعلم أن الحكومة [المحلية] الحالية تضم خمس نساء احداهـن في السبعـين من عمرها؟!”… شكرته ودخلت إلى قاعـة المعهـد .
خرجت من الفندق قاصداً مسرح ”هنريك إبسـن”.  اشتريت بطاقتين واحدة لي والأخرى للدكتورة ابتسام الخطيب ، لعـلـنا نشاهـد المسرحية معاً. يبدأ العرض في الساعة السـابعة مساءا… ما زالت أمامي ثلاث ساعات ونصف الساعة . اتصلت بالدكتورة الخطيب لأحيطها علماً بأنني سأكون بانتظارها… إعتذرت عن الحضور لانها مضطرة لانجازعمل متراكم منذ اسبوع،  ووعـدت بأن نـشاهـد المسرحية في اليوم التالي…
وقـفـت أنظر إلى الطابور الطويل أمام شباك التذاكر . ليس ثمة شك في أن أي واحد من هؤلاء الناس سيكون مسروراً للحصول على بطاقة؛  فهو ـ على الاقـل ـ  سيوفر على نفسه مشقة الانتظار في هذا الجـو الذي بلغت فيه درجة الحرارة 30 درجة تحت الصفر.
في آخر الطابور رأيت فتاة تقف بانتظار دورها وهي تتململ …فجاة لمعـت في ذهني فكرة ؛ تقدمت اليها وقلت لها بأدب أنه يسرني جداًأن أدعـوها لمشاهـدة المسرحية معاً… نظرت اليَّ مليـَّـاً ، ووافـقـت وهيتبـتـسم…
قرأت في عـيـنـيـها الزرقـاوين علامات الرضى والاطمئـنان لهذا الغريب … ما زال أمامناساعة ونصف الساعة قبل بدء العـرض .  دعوتها لتناول فنجان من القهوة في كافتيريا المسرح ، فوافقـت على الفور ، وتعارفـنا…
“إلسهElse ، في الثلاثين من العمر ، أعد لنيل الماجستير في الفلسفة الإغـريـقـية وأعمل في دار الكتب الوطنية بالعاصمة ريكيافيك .”
”عـبـد القادر،  فـلسطيني ؛ حضرت الى ريكيافيك بدعـوة المعهد الآيسلندي للشؤون الدولية لالقاء محاضرة حول الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي… هذه أول زيارة أقوم بها لهذه القارة المتجمدة التي أحاطني أهـلها بالرعاية والدفء…”
قالت وهي تبتسم : ”منذ أن رأيتك وأنا أحاول أن أتذكر أين شاهـدتك من قبل . لقد تذكرت الآن … مساء أمس في البرنامج التلفزيوني بانوراما… لقد بـدَّدَ حديثك الكثير من الأوهام العالقة في أذهاننا حول الديموقراطيةفي اسرائيل…”
وتحدثنا طوال ساعة كاملة في مواضيع شتى عن قضـيـة فلسطين ، والمشكلة اليهودية ، والديانات ، وحقوق الانسان ، والـفـلـسـفـة الاغـريقية ، و”الإرهاب” ،  والعالم الآخر …
وفجأة ، وبدون مقدمات ، سألتني : ”هل لديك شكوك ؟”
شكوك ؟
”نعم ؛ لقد اتضح لي من حديثك أنك واسع الاطلاع في الفلسفة وفي الديانات القديمة ، وقد حدثـتـني بأمور لم اكن أعـرفها عن باروخ سبينوزا ورينيـه ديكارت وغـوتــفـريـد فـيـلهلـم فـون لايـبـنـتـس ، وغيرهم من الفلاسفة في الشرق والغرب … هل لديك شكوك ؟
وأعترف بأن سؤالها هذا أخـذني على حين غـرَّة .
لقد أربكـني فعلا…  نظرت عبر النافذة في محاولة لأتغلب على الحيرة والارتباك اللذين أوقعـني فيهما سؤالها المفاجئ ، وقلت لها :
”في الواقع ، هـذه هي  المرة الأولى التي أجـد فيها نفسي أمام إمتحان من هذا النوع … إن مثل هـذا السـؤال لم يخطر ببالي من قبـل ، ولكني سأجيـبـك على سؤالك:  كلا ؛ ليس لديّ شكوك ، ولكن عـنـدي الـكـثيـر مـن التساؤلات …”
ولكي أنقـذها من نظرات الحيرة التي بـدت في عينيها أكملت حديثي موضحا :
”ان التساؤلات هي الأسئلة غير المحـلولة بعـد ،  وهي تعـبير عن مستوى المعـرفة الذي وصل اليـه الانسـان ، ولمـَّـا كانت المعـرفـة غير محدودة ؛ فلا بد أن يكون لدى الانسان ـ وعـلمه محـدود بالضرورة ، بالـقياس إلى بحر المعـرفة الذي بدون شطآنـ هامشٌللجهـل… إن التساؤل هو الرغـبة في التغـلب على هذا الجهـل ، وأعـتقـد أن التساؤل طريقٌ لا مناصمنه للوصول إلى الحقـيقة…إنني اؤمن ايماناً راسخاً بالـفـلـسـفـة العلمية ، ولا يساورني أدنى شك في صحتها…إن الشـك يـُزعـزع أركان العـقـيـدة ، ولا أسـتطبع أن أزعـم  ـ ”وما أوتيت من العـلـم الا قـليلا” ـ أنني أحطت بكل مسائل الفلسفـة..”
قاطعـتـني بأدب جـَمّ :
”لقد فهمت…أشكرك جزيل الشكر لهذا التوضيح القـيـَّم…”
بعـد مشاهدة المسرحـية افـترقـنا ، وذهب كلٌ منا في طريق …
ولم التق إلسه بعد تلك الرفـقـة التي أهدتني إياها الصدفة ، وكلما تذكرتها يغـمرني شعـور بالرضى والامـتـنان لتـلـك الفـتاة الآيسلندية الذكية الطيبة الجميلة التي أتاحت لي أن أفهم الـفـرق بين الشك والتساؤل …وليس هذا فحسب  ، بل وأن أحب التساؤل دائما…