"الـزّول" الطـَيـِّب : رَجُـلٌ لكـلِّ الفـُـصـول
الـدكتـور عبـد القـادر حسين ياسين


قبل 35 عـامـا وقعت يدي بالصدفة على رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال".
في ذلك الوقت كنت قد تعرفت على أغلب الكتاب العرب،
واكتشفت سحر الأدب الفـرنسي متمثلا في فلوبير ،
وستاندال وبودلير ورامبو وسارتر وأندريه جيد ،
وعظمة الأدب الروسي مجسّدا في قـصص أنطوان تشيكوف ونيـكولاي غـوغـول ،

وفي روايات ليـو  تولسوي وبيوتور دوستويفسكي .


وكنت قد قرأت روائع من الأدب الأمريكي مثل "الصخـب والـعــنـف" لوليام فوكنر،
و"رجال وفـئران" لجون شتايـنـبـيك و"طريق التبغ" لأرسكين كالدويل،
و"وداعاً للسلاح" لارنست هـمنغـواي...


غير أنى لم أكن أعـرف أن في السودان ،الغامض بالنسبة لي،
كاتباً عـملاقاً مثل الطيب صالح ، وما أتذكره هو أن الكتاب شـدّني منذ الجملة الأولى ،
فإذا بي أنسى نفسي ، وأرحل إلى عوالم مذهلة ،
لم أعرف إلا القليل منها فى الأدب العربي الحديث.


وها أنا أعيش مغامرات "مصطفى سعـيد" ،
وهو "يخلع حزام العـفـة" عـن نساء لندن الشبقات ،
ماضياً في عـربداته ومغامراته الجنونية ،
دون أن يخشى لا عـقـاباً بشرياً ولا عـقـاباً إلهياً.
ثم ها أنا أعـود معه إلى تلك القـرية السودانية الهادئة،
على ضـفـة النيل لأقاسمه حياته الرتيبة ،
مع المزارعـين البسطاء والأميين محاولا دفن ماضيه..


وعـندما غـرق في النيل انتابتني رجـفة هزّت كامل جسدي،
فكما لو أنني فـقـدت فجأة رفـيق رحلة محفوفة بالمخاطر.
وعندما انتهـيـت من قراءة الكتاب ،
وجدتني بعيداً جدّاً عن نفسي وعن وجودي.
ومنذ ذلك الحين أصبح الطيب صالح من كتـَّابي المفـضلين،
وقد دأبت على نصح أصدقائي من أحباء الأدب ،
بقراءة "موسم الهجرة إلى الشـمـال" و"دومة ولد حامد" .


وكانت سعادتي شديدة بلقاء الطيب صالح ،
خلال فعاليات مؤتمر الأدباء العرب في تونس ،
الذي حضره عـدد وفـير من رجال الأدب والفكر فى العالم العربي.
وكان الطيب صالح رجلا وسيماً وأنيقاً للغاية،
يلازم الصمت غالب الوقـت ولا يتكلم إلا فى ما ندر ...


وعلى مدى ثلاثة أيام لم أجـد الشجاعة الكافية،
للاقتراب منه والتحدث إليه.
لكن بعد انتهاء عرض مسرحية "الـزنج" ،
التي كتب نصّها عـزالدين المدني، وأخرجها المنصف السويسي ،

والتي كانت هـديّة تونس لضيوفها العرب ،
وجدتني أمامه وجهاً لوجه أمام المسرح البلدي ،
حيث عرضت المسرحية المذكورة ،  فـشددت على يده بحبّ واحترام كبيرين ،
وحـدثـتـه عن إعجابي الشديد بـ"موسم الهجرة إلى الشمال" وبـ"دومة ولد حامد" .


وعـنـد قراءتي لبقـية أعماله مثل "ضوء البيت" و"مريود" و"بندر شاه" ،

تبيّن لي أن ذلك السوداني كاتب عملاق بالفعـل،
لذا لم أعـد أملّ من إعادة قـراءة مختلف أعماله ،
كلما احتجت إلى "إعادة الروح" إلى لغـتي،
وتغذية خيالي في أوقات الجفاف والعـقـم.


ثم توثـقـت صلتي بالطيب صالح عـنـدما إلـتـقـيـنا في مدينـة أصيلة،
لحضور فعاليات مهرجانها الثـقـافي ،الذي كان أحد ضيوفه المرموقين .
وكانت لقاءاتنا تزداد أنساً وحميمية عـندما نسهر فى مطاعم أصيلة،
أو فى بيت الشـاعر المغربي المناضل عبـداللطيف اللعـبي .


وغالباً ما كان الطيب صالح يـُـتحـفـنـا ،
بقراءة أبيات من عـيون الشعـر العـربي القديم الذي يعرفه جيّداً ،
أو يحدثـنا عن كـُتـَّابه المفـضلين من الأدباء الغـربيين من أمثال وليم فوكنر ،
وإرنست همنغـواي ، وجيمس جويس ، وسكوت فيتزجيرالد ،
وارسكين كالدويل ، وبيوتور دستويفسكي ،  وفرجينيا وولف ،
وهنرى ميللر... وغيرهـم .


ومرة كنتُ في لندن فهتـفـت له لأحيـيه ، وأسأل عن أحواله ،
غير أنه أصرّ على تناول طعام الغـداء معي في وسط لندن ،
حيث عاش بطله "مصطفى سعـيد" مغامراته الجنونيّة .
وفى المطعم الايطالي الرفيع راح الطيب صالح يتحدث،
بلباقـته المعهودة عن الأدب وعن الحياة .


بعـدها طاف بي في بعض الشوارع التى يـُحب ،وفي بعض المكتبات القديمة.
وفى عام 2000، جاء إلى ميونيخ ، عـقـب صدورالترجمة الألمانية لرائعـته،
"موسم الهجرة إلى الشمال" ، وكانت سهرة ممتعة للغاية ،
تلك التى أمضيتها معه فى مطعم هـنغـاري.


وكنت سعـيداً جـدّا عـندما مـُنـحَ الطيب صالح جائزة الرواية العربية ،

فالرجل ـ رغم قـلة انتاجه ـ أحدث ثورة فعـليّة فى الرواية العربية،
شكلا ومضموناً ، ولغة وأسلوباً ، وقدّم لنا ، فى صورة شاعرية عالية ،
ذلك السوداني البسيط ، الساذج ، الضاحك، الزاهـد، الصبور،الشبق،
اللاهي عـلى شاطئ النيل ، كما لو أنه طفل ،
غير عابئ بما تفرضه عليه الحياة من شقاء ومحن ...


وبرغم إسهامه الكبير هـذا، فإن الطيب صالح ظلّ متواضعـاً تواضع القـديسيين ،

مبتعـداً عن كل ما يمكن أن يـُدنـِّس حياته البسيطة الهادئة أو يلوثها.

إنـه كاتب عملاق بالفعـل، وصاحب رؤية فلسفية وفكرية عميقة،
تعكس الواقع العربي برمّـته .


وكم كانت فـرحتي كبيرة عـندما بعـث اليَّ أحـد الأصـدقـاء ،
الكتاب الأول من "مختارات" الطيب صالح الذى نشرته دار "رياض نجيب الريـِّس" ،
وهو بعـنوان : "منسي : إنسان نادر على طريقته"،

وفيه وصف دقيق لسيرة صديق قديم للطيب صالح  ،
يدعى منسي، وإسمه الكامل أحمد منسي يوسف مايكل بسطاوروس،
واستكشاف لأسرار حياته الغريبة المتقلبة ، ولمغامراته العجيبة والطريفة ،
ولتقلباته السريعة التي تصيب الإنسان المتوازن نفسياً واجتماعياً بالدوران والهلع.


في مطلع الكتاب يقدم لنا الطيب صالح منسي العجيب الغـريب هـذا ،
والذي يشبه ، فى جوانب كثيرة ، بطله الشهير "مصطفى سعـيد" قائلا :
"في مثل هذا الوقت من العام الماضي، توفي رجل لم يكن مهمّا بموازين الدنيا،
ولكنه كان مهمّاً في عـُرف ناس قـلـيلين مثلي، قبلوه على عواهـنه وأحـبوه على علاته .
رجل قطع رحلة الحياة القصيرة وثباً، وشغـل مساحة أكبر مما كان متاحاً له،
وأحدث في حدود العالم الذي تحرّك فيه ضوضاء عظيمة" .


وقد حمل منسي هـذا أسماء متعـدّدة، عربية وأجنبيّة،
وانتحل صفات عدة، وشغل وظائف مختلفة،
فعـمل حمّالا وممرّضاً ومدرّساً وممثلا ، ومترجـماً وكاتباً وأستاذاً جامعـياً ورجل أعمال ،
وكان صعـيدياً مسيحـياً غير أنه أسلم ، وطاف بالكعـبة بصحبة الطيب صالح.
وعندما مات بسرطان في الكبد مخـلفا ثروة هائلة،
ترك أرملة مسلمة وأبناء مسلمين ...


ويقول الطيب صالح أنه تعـَرَّفَ على منسي في عام 1953 ،
عندما كان يعمل في "هـيـئة الإذاعـة الـبـريطانية" ،

وأنه ظل مرتبطا به بعلاقة حميمة حتى وفاته ،
وذلك برغم الاختلاف البيّن بينهما فى السلوك ، وفى النظرة إلى الحياة.


ثم يعـرض علينا بعـضاً من خصاله ويقول لنا إنه ، أي منسي ،
كان يعطف على الـفـقـراء وكان يمتلك قدرة خارقة على التعـرف على الناس ،
وكسب صداقات تبدأ من نادل المقهى ، وسائق سيارة الأجرة ،
في لندن أو باريس أو القاهرة أو دلهى الجديدة أو الرياض ،
وتنتهي بالسفير والوزير والطبيب الذي يحظى بشهرة عالمية،
والكاتب الذائع الصيت مثل صموئيل بيكت ،

رغم أن هذا الأخير كان منغـلقا على نفسه مثل قـنـفـذ ،
ولا يسمح إلاّ لعـدد قـليل من أصدقائه المقربين ،
الذين يعـدون على أصابع اليد ، بالدخول إلى قلعـته الحصينة...

بل أن منسي انـتـحـل ذات مرة صفة رئيس الوفـد المصري ،
واسـتأجر بدلة فاخرة ليقـتـحم القصر الملكي في لندن،
ويقـبل يد الملكة ويعابثها ، وينـتـقـد حياتها الرتيبة داخل القـصور المغلقة!!


ولم يكن صاحبنا يخشى شيئا ، لذا كان يسمح لنفسه بارتكاب أفعال خطرة ،
وهو يضحك ويلعـب وكأن شيئا لم يكن.
ولأنه كان يتقـن اللغة الانجليزية فإنه كان يتجرأ على الخوض ،
في الحديث فى مواضيع وقضايا ليست من اختصاصه ،
أو هـو لا يعرف عنها إلا القـلـيل القـلـيـل،
بل ويتمكن في غالب الأحيان من الانتصار ،
على من هم يتفوقون عليه علمـاً ومعرفـة واطلاعـاً  ،
وعلى أهل الاختصاص فى هذا المجال أو ذاك..

وعلى الـرغـم من الاختلاف الشاسع بينه وبين منسي، كما سبق وأن ذكرت،
فإن الطيب صالح بدا متعاطفـاً جـداً معه، لذا كتب عـنه بصدق وحب ،
وحميمية نادرة في الأدب العربي المعاصر ، راوياً لنا ،
بطريقة طريفة وساخرة ،  الاحراجات والمشاكل الكثيرة التى سببها له ،
أيام كان يعمل فى "هيئة الإذاعة البريطانية"  ،
أو عـندما كان مستشاراً فى وزارة الاعلام القـطرية ،
أو خلال رحلة الى الهند، وأوستراليا والى بيروت ،
فى الأيام الأولى لانفجار الحرب الأهلية اللبنانية.


وبـوفـاتـه في لـنـدن عن عمر ناهز الثمانين عاما ،
بعد رحلة طويلة مع المرض، فـقـد الأدب العربي أحد أشهر رموزه في القرن العشرين.


كان صدور روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" ،
والنجاح الذي حقـقـته سببا مباشرا في التعريف بـه،
وجعـله في متناول القارئ العربي في كل مكان.
وتعد الروايـة من الأعمال العربية الأولى التي تناولت لقاء الثقافات وتفاعلها،
وصورة الآخر بعيون العربي والشرقي بعيون الآخر ،
الذي ينظر اليه كشخص قادم من عالم رومانسي يسوده السحر ويكتنفه الغموض.


وكانت السلطات السودانية قد منعت تداول هذه الرواية ،
في التسعينيات من القرن الماضي بحجة تضمنها ،
"مشاهـد ذات طابع جـنـسي" [كــذا...!!] .
ومن رواياته التي اكتسبت شهرة رواية "عـرس الزين" ،
التي تنقل الى القارئ أجواء الريف السوداني وشخصياته ونوادره.


وعلى غرار أعمال كبار الأدباء ترجمت العديد من روايات الطيب صالح،
إلى أكثر من ثلاثين لغة .
وأكسب الترحال الكثير الطيب صالح خبرة واسعة ،
بأحوال العالم من حوله،وبأحوال أمته،
فوظف هذه الخبرة في كتاباته وأعماله الروائية.


في عـام 2002 تـمَّ اختيار رواية "موسم الهجرة الى الشمال" ،
ضمن "أفضل مئة رواية في التاريخ الإنساني" ،
وفق قرار اتخذه مئة من كبار الكتّاب الذين ينتمون الى 54 دولة.


وقـد رُشـِّحَ غير مرة للفوز بجائزة نـوبل للآداب ،
إلا أن الطيب صالح لم يكن مهتماً بأمر الجائزة ،
إذ قال في مقابلة أجريت مـعـه:
"جائزة نوبل هذه، وبحسب مولانا أبو الطيب المتنبي،
"أنا الغني وأموالي المواعيد"...
لا أشغل بها نفسي وأشك في أنني سأحصل عليها،
وليس مهماً عندي ذلك، لأن هناك في العالم ،
عشرات الكتّاب الكبار الذين يستحقون نوبل، لم يمنحوا جائزة نوبل.
إذاً هي كاليانصيب ولن تأتي في الغالب... ،
ولو جاءتني سأفرح بها ولا أزعم أني فوق هذا،
ولكن في الحقيقة لا أشغل نفسي بها".


في الثامن عـشـر من شـباط 2009 ،انتهت رحلة عُمرٍ خصب في لـندن،
تركت لنا صفحات ثمينة من الرأي الحصيف، ومن الرؤية الثاقبة.
مات "الـزّول الطيب" في منفاه الاختياري،
قبل أن ينطق بالجملة الأخيرة، بالعربية الفُصحى،
التي لم يتخل عنها، فباتت جزءاً من شخصيته!


ذلك السوداني الهائل، بانتمائه وبطموحه وبأطروحاته،في الثقافة الوطنية والعالمية،
تَـوَحَّـد مع اللغة العربية الفصحى، فما كان يتحدث الا بها،
بقـواعـدها، بنحوها، بصرفها، وبمصطلحاتها...


في عـواصم عربية وعالمية، اجتذب المثقفين والكتاب والمفكرين،
كان مؤمناً بتفاعل الفكر الانساني، لصالح الإنسان ،
في مواجهة العنصرية والاحتلال، وسيطرة القوى الكبرى الغاشمة،
عـلى مقدرات الشعوب المناضلة من اجل الحرية والإسـتـقـلال.


لقد فـقـدت الثـقـافـة العربيـة برحيلـه عـلماً فكرياً وثقافياً.
ذهب الرجل على إيقاع الأيام المطفأة، عبر أنفاق السبات والذكرى.
ستظل آثاره سراجاً يُشعل ضوءاً أبدياً، لا تُطفئه دموع الغيم، ولا أنواء البحر.