تـأمـلات فـي التأريخ واختلاق التاريخ
د. عبد القادر حسين ياسين
التأريخ، بهـمـز الألـف، يعني تأطير حدث ما بزمن محدد،
وروايته أو تسجيله كما حدث،
حسب وعي الراوي وإدراكه ومصلحته ،
ودرجة تأهيله ومكانته الاجتماعية وطبيعة الحدث....
كما في حالة تنظيم بعض الوثائق المتعلقة بالولادات،
وشهادات التخرج من دور العلم، وتسجيل العقارات والمركبات،
وتدوين المعطيات المتعلقة بإصدار كتاب ما،
أو إنجاز بحث عن حادثة بعينها..... إلى آخر ما يتطلب التوثيق.


وعلى هذا لا تكون كتابة اسم المولود بصورة خاطئة إملائياً تزويراً،
وإنما هي ضعـف في تأهيل الموظف،
حتى وإن أدى ذلك إلى مشكلات ترافق المولود في مراحل حياته القادمة.‏


أما التاريخ، دون هـمـز الألف، فيعني ما جرى في سياق الزمن من أحداث،
خاصة وعامة، طبيعية كانت أم إنسانية،
وهذه الأحداث جرت بطريقة معينة، ولمرة وحيدة وفريدة لا يمكن العبث بها،


أما ما يبدو وكأنه تلاعـب وتزوير فـناجم عن التأريخ (بهمز الألف)،
أي عن تدخل الإنسان (المؤرخ) الذي يروي تلك الأحداث ،
كما فهمها ووعاها وأدركها، أو كما طلبت منه سلطة ما أن يفعل،
أو كما يلبي مصلحته، أو كما أُتيح له أن يطّلع على تلك الأحداث،
بحسب موقعه الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي....


ويمكن أن نضيف قائلين :
إن التاريخ هو ذلك الفرع المعروف من العلوم الإنسانية،
الذي يروي جملة ما حدث في سياق الزمن، في ضوء مناهج محددة،
تعتمد على الشواهد والقرائن والوثائق.


ورواية ما حدث، من قبل المؤرخ،
قد تكون وصفاً ورصداً.. أو دراسة.. أو تحليلاً.. أو تبريراً أو تسويغاً....
وبذلك تحولت رواية التاريخ إلى حرفة قائمة بذاتها،
على من يمارسها أن يتلقى تأهيلاً خاصاً في المعاهد المتخصصة ،
وفي أقسام التاريخ في كليات الآداب والعلوم الإنسانية.‏


وأزعم بأن رواية التاريخ، أياً كان راويها، رواية مجروحة وموضع شك وريبة،
وبحاجة لأن توضع فوق غـربال النقد دائماً،
ولا يجوز أن تؤخذ كما هي وكأنها حقيقة مسلم بصحتها ثقةً براويها.


صحيح أن الحوادث قد جرت بكيفية محددة لا يمكن تزويرها ولا إنكار حدوثها،
لكن الصحيح أيضاً أن وصف تلك الحوادث وتفسيرها وتحليلها وقراءتها...
لا يمكن أن يكون بريئاً أو محايداً أو نزيهاً أو موضوعياً...
ولا يثق برواية مؤرخ ما ثقة مطلقة إلا صاحب مصلحة،
الأمر الذي يجعله لا ينتبه إلى الثغرات في تلك الرواية،
أو يدفعه إلى التدليس والتغاضي عن تلك الثغرات،
وإلى رفع الأساطير والترهات إلى مستوى الحقائق الملموسة،
كما هو الأمر مع الصهاينة مثلاً.‏


وهكذا، فإن كل إعادة لكتابة التاريخ،
هي في الحقيقة إعادة قراءة أحداثه،
أي إعادة إنتاج تلك الأحداث وتركيبها بصورة ملفقة،
تلبي الاحتياجات الذاتية للمؤرخ وما يمثله من المصالح...


فما يسمى بإعادة كتابة التاريخ، إذاً، ليس أكثر من إحلال ذاتية جديدة ،
محل ذاتية كانت قد عبرت عن نفسها من قبل،
حين روت الأحداث بطريقتها الخاصة المستجيبة لمصالحها.


قد يقول قائل : أليس من حقنا أن نفهم الأحداث كما وقعت فعلاً،
وليس كما نقلها إلينا الكتبة المقربون من السلطات المختلفة؟؟!!
وأقول: نعم، ولكن شرط أن نعترف بأننا نقوم بتركيب الأحداث،
بصورة أقرب إلى ما نظن أنه الحقيقة، كما فعل غيرنا من قبل؛
وشرط أن نتواضع ونعلن أن ما نكتبه يمثل روايتنا نحن للأحداث،
وليس الرواية الموضوعية الوحيدة.


فكل ما يُطْلَبُ من أية رواية أن تكون مقنعة ومبررة ومتماسكة منطقياً،
مع أن بعض ما جرى من أحداث لم يكن مبرراً ولا منطقـياً (ويا للمفارقة).‏


فهل يعني هذا أن إعادة كتابة التاريخ،
أعني إعادة قراءة أحداثه، تزوير للتاريخ،
وأن ما نعرفه عن أحداث الماضي مجرد قراءات وتحليلات وشهادات زور؟!


أكاد أقول: نعم، فكل منا يعرف عن الماضي ما يحب أن يعرف،
وتعجبه روايات ولا تعجبه أخرى،
وتكوين صورة دقيقة وكلية شاملة لأي حدث من الأمور غير الممكنة،
دون أن تخدعنا كثرة الوثائق والشواهد التي يحشدها المؤرخ لتأييد روايته،
لأنه ربما قام بإخفاء عدد أكبر من الوثائق والشواهد والقرائن،
بعد أن قام بعملية اصطفاء مشبوهة اختار من خلالها بعض الوثائق وغيّب أخرى،
هذا إذا لم ننس أن الوثائق ذاتها قد تكون غير حقيقية،
فعمليات تزوير الوثائق وتزييفها معروفة منذ أقدم العصور،
ومازالت تجري أمام أعيننا، على الرغم من أننا نعيش عصر التقانة ،
والشفافية والعلنية والسرعة،
ومازالت الأحداث تكتب وتروى من وجهة نظر السلطة فقط؟!


ولفهم ما أذهب إليه أدعو القارئ الكريم إلى مراقبة كيفية عرض الحدث الواحد،
من فضائيات متناقضة المصالح والأيديولوجيات،
وعندها سيكتشف الكم الهائل من التدليس والتضليل الذي يتعرض له المشاهد،
مع أن كلاً من تلك الفضائيات يستخدم لغة الصورة والمشهد،
لكن الزوايا تختلف، وعمليات المونتاج والقص واللصق،
تتكفل بتقديم صورة يدعي منتجوها أنها حقيقية وما هي كذلك.‏


أعود لأقول : إن التأريخ خاص بتأطير حادثة محددة،
أما التاريخ فيتعلق بمجمل النشاط الإنساني الذي جرى في الماضي،
ويهتم بالتتابع الزمني لوجود الإنسان على الأرض،
فهو سجل للحوادث كما أدركها الإنسان ووعاها وليس الحوادث ذاتها،
فالتاريخ، بهذا المعنى، هو ما يمكن تزويره،
رغم ادعاء من يدعي أنه علم ذو منهاج محدد،
بل إن كونه كذلك لا يمنحه شهادة بالموضوعية والنزاهة،
وإنما يشير إلى إمكانية تعليمه وتعلمه في المدارس والجامعات،
حيث يكتسب بعض الأفراد حرفة التأريخ،
ويغدو واحدهم مؤرخاً، أي قادراً على تزوير التاريخ،
عبر قراءته للأحداث قراءة منحازة بالضرورة.


وعدم نزاهة القراءة قد تكون مقصودة،
بقصد استخدامها في الخطاب الأيديولوجي الرث والمتهافت ،
كما يفعل المؤرخون الصهاينة.
وقد تكون غير مقصودة، نتيجة وقوع المؤرخ تحت ضغوط أيديولوجية بصورة لا شعورية،
تدفعه للاستيهام، أي لإصدار أحكام تبدو له حقيقية في حين أنها ليست كذلك.‏


واختلاق الأحداث أسوأ أنواع التزوير،
وقد يكون هذا الاختلاق كلياً وقد يكون جزئياً،
فالكلي والعام ما يقوم به الصهاينة من المؤرخين مثلاً،
الذين يكتبون التاريخ من وجهة نظر أسطورية،
وهم على وعي تام بما يقومون به،
حين لا يكتفون بتغييب الوثائق وتضخيم وثائق أخرى واختراع وثائق مزيفة...
وإنما يقومون، بالإضافة إلى ذلك، برفع الأساطير والترهات منتهية الصلاحية المعرفية،
إلى مستوى يفوق قيمة الوثائق الملموسة ذاتها،


وقد أصدر الدكـتـور شـلـومـو سـانـد ،
أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب ،
كـتـابـاً بعنوان: "إخـتـراع الشعب اليهودي"،
والعنوان ذو دلالة واضحة تؤيد ما نذهب إليه،
كما أشـار أحد المؤرخين البريـطـانـيـيـن من قبل ،
متهكماً على أسطورة دولة إسرائيل قائلاً :
"إن تلك الدولة لم تكن أكثر من هامش صغير على تاريخ المنطقة."


وقد اعـترف دافـيـد بن غوريون بالاعتماد على الأسطورة قائلاً :
"إن الأسطورة ليست أقـل من التاريخ من حيث كونها حقيقة،
ولكنها حقيقة إضافية، حقيقة مختلفة،
حقيقة موجودة بإزاء الحقيقة، حقيقة إنسانية غير موضوعية،
بيد أنها حقيقة تشق طريقها صوب الحـقـيـقـة التاريخية... " [ هـكذا إذاً...؟!].‏


واضح أنه ما كان لاختلاق التاريخ الذي تقترفه الصهيونية ،
أن ينجز واقعاً على الأرض لولا قوة جانب وضعف الجانب المقابل،
في اختلال فاقع لموازين القوى...
ولكن التاريخ، الذي نحن بصدد الحديث عنه، قد عـلـَّـمـنا ،
أن هذه الموازين لن تستمر في الاختلال إلى الأبد.


وربما يكون من المفيد أن أشير إلى ظهور ما يسمى بالمؤرخين اليهود الجدد،
الذين لم يستطيعوا أن يهـضموا ما تختلقه الصهيونية من أحداث،
وما ترويه من روايات... فأعادوا لبعض الحقائق التاريخية اعتبارها،
لجلب بعض المصداقية لما يكتبونه من تاريخ مختلق،
ومع ذلك فإن فعلهم هذا يعد خروجاً مؤذياً على الأيديولوجية الصهيونية،
المتزمتة والصلفة بطبيعتها، مما عرّض أحدهم مؤخراً للإيذاء على يد غلاة المستوطنين.‏


وكمثال على الاختلاق الجزئي للتاريخ ،
ما تقوم به بعض الأنظمة الاستبدادية والشمولية ،
عبر مناهج التعليم ووسائل الإعلام وأنشطة المؤسسات التابعة لها،
حيث حذفت بعض الأحداث والوقائع وأضافت بعض الأحداث والوقائع المختلقة...
وهذا ما فعلته النازية والفاشية وسواها من الأنظمة الشمولية،
حين رغبت في صنع تاريخ على مقياس أيديولوجياتها ورغبات المتنفذين فيها.


بل لقد وصل الأمر ببعضهم إلى درجة العبث بالآثار والنصب التذكارية،
فأضافوا إليها وحذفوا منها، في عملية تدليس موصوفة.
ولقد تم ذلك منذ فراعـنة مصر،
وسيستمر ما استمر وجود فراعـنة.‏
د. عبد القادر حسين ياسين