جـرعة قـوية من النقـد الذاتي / الدكتور عبدالقادرحسين ياسين
عـرفت الدكتور مصطفى السَّـمان قبل ربع قـرن!
عـرفته فتى نحيلاً خجولاً.. مهذباً بالغ التهذيب..
يرتدي نظارة طبية سميكة ،
لعلها جاءت من طول التحديق في الكتب..


ثم فرقتنا الأيام... بعد أن ضاقت بنا أرض العرب بما رحبت...
وانتهى بي المطاف في الدائرة القطبية الشمالية...
وحَـطَّ مصطفى رحالـه في مسـتنقـعات أوسـتراليا...
واكتشفت، فجأة ، أن الفتى النحيل الخجول يملك موهبة أدبية جرّت عليه بعض المشكلات..


"ما من موهبة تمرّ دون عقاب!".. هكذا قال محمد الماغوط..
وأقول: "وبقدر ما تقترن الموهبة بالجرأة بقدر ما يزيد العقاب...
وخاصة في دنيا العروبة"..


وتبين أن الفتى النحيل الخجول لديه الكثير من الجرأة.
وكان ما كان....


وقبل مُدة، قرأت لمصطفى السـَّمان مقابلة في صحيفة "العـرب" الصادرة في لندن.
وهو لا يجري مقابلات إلا في النادر....
ولعل مقابلته تلك كانت "بيضة الديك".

وأشار إلى مؤلفات له مُـنعـت في معظمم الدول العربية ،
وكالعادة مع كل ممنوع مرغـوب..


تحرّك الفضول...
واستنجـدت بالصديق الدكتور نبيل أبوغزالـة في عمـَّـان ،
أرجوه أن يرسل لي المؤلفات الممنوعة.
فالرجل قـريب من صانعي القرارالسياسي والأمني...


ووصلت الكتب... وقرأتها...
وأعجبت بما قرأت...
وسأكتفي بالإشارة ـ الإشارة فقط! ـ إلى واحد منها،
مجموعة قـصصية اسمها "قـمعـسـتان"..


قبل أن أبدأ الحديث عن هذه المجموعة أودّ أن أقول ،
إن الأوان قد آن لنتخلص من حساسيتنا التي تصل حدود المرض من النقد.
لقد آن الأوان أن ندرك أن مجتمعنا اليوم ،
ليس أفضل من مجتمع الرسول والخلفاء الراشدين والأمويين والعباسـيين...
وإذا كان مجتمع الصحابة شهـد من يسرق ،
ومن يزني ومن يقـتل ومن ينافـق ومن يكذب،
فلماذا نستغـرب أن يحتوي مجتمعـنا ،
على هذه الذنوب والخطايا، وبنسبة تفوق، بالضرورة،
ما عرفه العـرب قبل 14 قرنا؟!  
وإذا كانت قـصص "المجتمع الفاضل" وصلتنا موثقة مفـصلة،
في كتب التاريخ، شعراً ونثراً،
فلماذا نأنف أن نشير في أعمالنا الأدبية إلى شيء من عـيوبنا؟


هل بوسعنا أن نغـمض أعيننا متظاهرين أن مجتمعـنا ،
لا يسكنه سوى الصالحين ، الأتـقـياء ، الأنـقـياء ،
الورعـين ،  الطاهرين ، الرُّكـَّع السُـجود؟
وهل من حـقـنا أن نقابل كل نقـد اجتماعي يأتي من الداخل أو الخارج ،
بتكميم الأفـواه وقطع الألسن (أعـني مجازاً بطبيعة الحال!)؟


غـني عن البيان أن من علامات النضج في الفرد ،
وفي المجتمع (أي مجتمع) أن يكون قادراً على مواجهة نفسه ونقائصها..
أما آن الأوان أن نبلغ مرحلة النضج؟!


قامت الدنيا ولم تقـعـد لأن روائياً مصرياً ،
كتب رواية تدور حوادثها في مدينة سعودية.
وعندما قـرأت الرواية استغـربت قيام الدنيا وعدم قعودها.
لم أجد في الرواية ما يسيء إلى السعودية أو شعـبها.
كانت، ككل رواية، مزيجاً من الخيال والواقع ،
ولم تكن إعلاناً مدفوع الثمن..
وقالت الرواية عن المدينة السعودية أشياء بعضها من الخيال وبعضها من الواقع..


وقامت الدنيا مرة ثانية لأن روائية فـلسطينية ،
كتبت رواية عن تعـدد الزوجات في المجتمع السعودي...
وتكلمت الرواية عن أشياء جميلة وقبيحة تحدث في المجتمع السعودي ،
كما تحدث في أي مجتمع آخر....


نحن لا ننزعج عندما نقرأ أعمالاً أدبية صريحة ،
عن أطفال الشوارع في البرازيل...أو دعارة الأطفال في تايلاند...
أو فسـاد الطبقة الحاكمة في ايطاليا...أو المتاجرة بالدين في الباكستان..
أو الفضائح الجنسية لكرادلة الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة...أو...أو....


وحريّ بنا ألا ننزعج إذا قرأنا عن مجتمعاتنا ،
أعمالاً أدبية صريحة.. تضع الإصبع على الجرح..!


في مجموعـته القصصية "قـمـعـسـتان" ،
يقـدم لنا مصطفى السَّـمان جرعة قـوية مفـيدة من النقـد الذاتي..  
يقـدّم لنا ثلاث أقاصيص تصور المجتمع السعودي ،
لا كما نراه من خلال النظارات الوردية ،
ولا كما تصوره محطة MBC ،
ولا كما تصوره الإعلانات المدفـوعة الأجر ،
في الصحف والمجلات الأمريكية  ،
ولكن كما يبدو للمراقب الموضوعي..


وحاول مصطفى جهده أن يكون مراقـباً موضوعياً ،
إلى درجة أنه تـقـمـص شخصية الضيف الفلسطيني ،
الذي وفـد يطلب الرزق في صحراء العـرب..


الأقصوصة الأولى عن طبيب فلسطيني جاء يمارس الطب في الرياض ،
ويصف تناقضات المجتمع السعودي حوله...


والقصة الثانية عن مهندس بترول فلسطيني جاء يعمل في مدينة الظهران..

ويقـص علينا قـصة مضحكة مبكية ،
عما يعانيه الـفـلـسطينيون علي أيدي "أخـوتـنـا في الـعـروبـة والإسـلام"..  


والأقـصوصة الثالثة عن امرأة سعودية متزوجة من لواطي،
تمضي وقـتها في رحلات للتسوق بين باريس ولندن ونيويورك ...
بينما يمضي زوجها أوقاته مـتـنـقـلا مع غلمانه ،
بين بانكوك ومانيلا ولاس فيغاس .


حسناً! لا تطمعوا أن أفضي إليكم بالمزيد من التفاصيل..  
أخشى أن المراقبين الذين صادروا الكتاب،
يوسوسون لرئيس التحرير فـيحجب هذه المقالة..


وبـعــد؛


شربت جرعة قوية مفيدة من النقد الذاتي.
وشكرت الصديق العزيز مصطفى السَّــمـَّان .
وبقيت لي أمنية :
أن يشرب وزراء الثقافة العرب جرعة صغـيرة مخـفـفـة ،
مـنـزوعة الدهـن من حـلـيـب السـّباع!
و"يا أمَّـة ضحـكـت من جـهـلـها الأمم"..!!