الكاتب الفرنسي جـان جـيـنـيـه: اللـص الذي تـحـول إلـى قـديـس
الدكتور عبدالقادر حسين ياسين

شهد الأدب عبر تاريخه الطويل شخصيات أدبية مختلفة ،
كـوَّنت خليطاً عجيباً يمثل مختلف المهن ،
فعرفنا الأديب الدبلوماسي والأجير والصيدلي ،
والطبيب والضابط والمزارع ،
لكننا نادراً ما عرفنا أديباً “لصّاً” ،
قادراً على ابتداع الروائع الأدبية على هامش حياته ،
التي كانت سلسلة من التواترات ما بين السرقة أو السجن ،
إلى أن ظهر في الأوساط الأدبية الكاتب الفرنسي “جان جينيه “Jean Genet”
ومؤلفاته التي كان من أشهرها ، سيرته الذاتية “مذكرات لـصّ”.‏
ولد جان جينيه عام 1910 وتوفي عام 1986 ،
وكان لصاً منذ طفولته ، وقضى معظم حياته ،
قبل أن يلتحق بالجيش ، في السجون.‏
وبالرغم من سلوكه الذي اعتبره رفاقه إجرامياً ،
إلا أنهم أجمعوا على أنه إنسان غير طبيعي لكنه ذكي جداً ،
مؤكدين أنه إنسان سيئ السلوك ، لكنه بارع في الكتابة والتعبير ، منذ المرحلة الابتدائية.‏
بدأت موهبة جينيه الأدبية بالظهور خلال الاحتلال النازي لفرنسا ،
عندما كتب أول قـصيدة له معـنوناً إياها “المحكوم بالإعـدام” ،
وقام بطباعة مائة نسخة منها على نـفـقـتـه الخاصة ،
في مطبعة مشبوهة اشتهرت بالتزوير …
فكان دخوله عالم الأدب على طريقة اللصوص بالخفية ،ومن الأبواب الخلفية.
وعـندما لاقـت القـصيدة إقـبالاً ونجاحاً ، نشر أربعة كتب نثرية بالطريقة نفسها ،
ما بين عام 1943 و1945 ، ولم تحمل الكتب اسم دار النشر ،
وكان جينيه يبيعها بالخفية هـنا وهـناك ، دون أدنى رغـبة في جني ربح مادي منها.‏
وخلال هـذه الفترة من نشاطه الأدبي التقى جينيه ،
بالكاتب الفرنسي “جان كوكـتـو” الذي طالما وصفه بأنه ،
“إنسان يعيش بين سجنين” ، واعتبره علامة بارزة في تاريخ الأدب.‏
ومن طرائف حياة هذه الشخـصية الغريبة والمتناقـضة ،
أن جينيه سُجن مرة لإقـدامه على سرقة كتاب من مكتبة ،
وعـندما سأله القاضي : “هل تعرف ثمن الكتاب الذي قمت بسرقته؟”
أجاب ببرود: “لا أعرف ثمنه لكنني أعـرف قـيمته”.‏
وخلال تواجده في السجن انكبَّ جينيه على كتاب “مذكرات لصّ” ،
الذي يمكن اعتباره سيرته الذاتية ، التي لم يخجل من وصفها بدقة وصدق ،
وكأنه يروي السيرة الذاتية لشخص عادي ، لا يجد من سلوكه ما يعـيب.‏
شغـل جينيه وكتاباته النقاد ، فوصفوه بأنه كاتب متناقض بشكل رهـيب وصاعق ،
وبالرغم من أن كتاباته تعـبر عن اهتمامات سياسية ،
لكنه لم يكن في الحقيقة ملتزماً بشيء.‏
تتسم كتابات جينيه بكسر المألوف ، وتصوير المعاناة الإنسانية ،
في المجتمع اللاإنساني الذي يـسـحـَق فيه القوي الضعـيف ،
وتدوس نعال الغني الفقير دون هـوادة،
ويتسم الأبطال في كتاباته بازدواجية وصراع ، يكشفان عن ألم وقهر وتعاسة ،
تحت قناع بارد ومبتسم في أغلب الأحيان.‏
ما زال المهتمون بأدب جينيه يحاولون اقـتـفاء أثر مخلفاته الأدبية والفكرية ،
وما تبقى من مخطوطاته التي لم يتمكن من نشرها ،
ومن بينها رسالة أرسلها عام 1960 إلى وكيله الأدبي ،
يعـبر له فيها عن رأيه حول الكاتب التـشـيـكي الشهير “فـرانزكافكا” ،
وتعكس أسلوب جينيه الذي تميز بالبساطة المشوبة بالحيرة والتناقض.‏
توصل أعمال جينيه التي تميزت بحسن الأسلوب وغرابة الأفكار ،
أن تخصّه بمكانة مميزة في عالم الأدب الرفيع ،
فانتشرت مؤلفاته في جميع أنحاء العالم ، وتُرجمت إلى عدة لغات ،
وتم اعتبارها كمحور أساسي في دراسة أدب القرن العشرين ،
إلا أن جينيه لم يهتم بالضجيج الذي كانت تثيره كتبه ،
بل فـَضـَّـل أن يقضي الأيام الأخيرة من حياته في المغرب ،
في هـدوء وتجاهل تام للمجد والشهرة ، إلى أن توفي هناك ودفن في مدينة العرائش ،
مفسحاً المجال للمطابع بإصدار الطبعة تلو الأخرى من كتبه ،
وللسياح بزيارة قبره المتواضع من حين إلى آخر.‏
تحمل سيرة جان جينيه، الكثير من التجارب والمواقف الدالة،
خاصة في ما تعلق بصلاته بالعالم العربي والمغرب وفـلسطين بشكل خاص.
في شهر أيار 1979 أحاط جان جينيه علما بإصابته بسرطان الحنجرة.
ولئن كان قد وافق على الخضوع للعلاج ،
فقد رفض بشكل قاطع فكرة الإقلاع عن التدخين.
أتاحت جلسات العلاج بالأشعة وقف نمو وتضخم الورم،
لكنها أصابته في المقابل بضعف وهـزال شديدين.
ولأنه قارئ كبير ونهم فقد أوصى بجلب العشرات من الكتب من فرنسا:
كلاسيكيات الأدب الفرنسي ومؤلفات عن عالم السجون والفلسطينيين،
أربع ساعات في شاتيلا
كان جان جينيه أول أوروبي يتمكن من دخول مخيم شاتيلا ،بعد يومين من المـذبـحـة.
تجول جان جينيه في جنبات وممرات المخيم طوال أربع ساعات.
ثم عاد بعد ذلك مباشرة إلى باريس، حيث قضى شهر تشرين الأول ،
في كتابة نصه “أربع ساعات في شاتيلا”.
وبعد صمت امتد قرابة عشرين عاماً،
وقـَّع جان جينيه هنا أكثر مقالاته السياسية أهمية.
وقد حظي هذا النص الذي مزج فيه الكاتب ،
بين ذكرياته السعيدة صحبة الفدائيين الفلسطينيين،
وشهادته الحية عن المجزرة باستقبال وترحاب في مختلف أنحاء العالم.
حلَّ ربيع عام 1986 وعاود السرطان ظهوره من جـديد،
قـرَّر جان جينيه وقف العلاج الكيميائي وحصص التداوي بالأشعة.
ما الذي كان يبحث عنه الأسير العاشق؟
ربما هذه الراحة التي تعادلها في اللغة اللاتينية “السكينة الجنائزية”،
التي ألهمت موزارت وسيمفونيته الموسومة “قداس الموتى”،
التي لم يتوقف جان جينيه عن سبر أغـوارها.
هل أصبح جينيه في طور التحول إلى ذلك القـديس ،
الذي تمثـله فيه جان بول سارتر؟
أقف بمهابة أمام قبر هذا القـديس كما يصفه جان بول سارتر ،
في كتابه “القديس جينيه، والممثل الشهيد”.
القـبـر البسيط هـنا هو الوحيد الذي يفـتـقـر لصليب من حديد،
في المقبرة المسيحية الإسبانية المطلة على الأطلس في العرائش الواقعة جنوب مدينة طنجة.
هـنا في عرائش الشمال المغربي يرقـد بهدوء صارخ ،
كاتب المذكرات الآسرة “أسير عاشق”.
كتبها وتركها بدون أل التعـريف كي لا تأسره ،
أكثر مما أسرته في مطلع السبعينيات.
كان هذا الكتاب هو المحطة الأدبية الرائعة والإنسانية الأخيرة ،
لأشهر كتّاب فرنسا في القرن العشرين، جينيه،
قبل أن ينزلق وحيداً في حجرة الحمام بعد أن أنهكه مرض السرطان ،
حدّ الموت في نيسان 1986.
دهشتنا بما كتبه جينيه في “أسير عاشق” ،
وانحيازه التام لقضايا المقهورين والمنبوذين في العالم ،
لا تكتمل دون أن نندهش أكثر عندما نقرأ كتابه “يوميات لصّ” ،
والتي يعرّي نفسه فيها تماماً، باعتبارها وكتاباته الأخرى سلسلة مكملة ،
لبعضها البعض في فهم كينونة هذا الكاتب المثير ،ولمس المبادئ الإنسانية التي اعتنقها في حياته.
في يوميات لصوصيته كان جينيه متمرداً ضد المركزية الغربية الاستعمارية،
مناصراً حركة “بادر ماينهوف” اليسارية الألمانية،
ومؤيدأ الثورة الجزائرية ضد فرنسا ، وحزب الفهود السود ضد البيض في أمريكا،
وصادقاً بوفاء نادر للـفـلسطينيين، حيث وثّق بصدق مؤثر ،
مجـزرة صبـرا وشاتيلا، وظل دوماً عـدواً لإسرائيل.
خرج جينيه بـ”أسير عاشق”، كإشارة على إيمانه الكليّ بصواب القضية،
وليست عدالتها وحسب، ودليل على شغفه وإنسانيته ،
التي ذهب بها وراء الأفق، ووثّـق ما لم يـُـوثـقـّه أحد.