سـيـغـبـيـرت لارسـون : لا فـُـضَّ فـوك…!!”/الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين
قـليل ما يسمع المرء، في دول الشـمـال ،
أفكاراً، وتحليلات تـتجاوز ما استقـر في وسائل الإعلام الجماهيرية،
التي تـُسطّح، للأسف، أعْـقـد الـقـضايا،
وتتناولها من أسهل أبوابها واقـلـها عـناءً.
الإسلام، الصدام، المواجهة، الـعـنـف، الإرهاب..
كلها كلمات صارت تعـني جهة واحدة ، وبشراً بعينهم في العالم:
العرب والمسلمين ، وتشير إليهم بإصبع اتهام جاهـز،
ينهـل مخزونه من الـتـنـمـيـطات الراسخة،
غـير القابلة للاهـتزاز، التي تغـذيها، بدورها،
ظواهـر وأحداث معزولة في العالمين العربي والإسلامي ،
لا تشكل سياقا شاملا، ولا تعكس واقعاً فعـلياً.
قـليل من المحللين الإسـكـنـدنافـيـيـن الذين يظهرون في وسائل الإعلام،
من يـُجـشـِّم نفسه عـناء تفكيك هذه الترسانة الجاهـزة،
من الـتـنـمـيـطات والآراء المسبقة،  التي تكتسب اليوم قـوة دفع جديدة.
من بين هذه القـلة النادرة، الكاتب والباحث النرويـجـي سـيـغـبـيـرت لارسـون
الذي كان ضيفاً قبل يومين على الـقـنـاة الـرابـعـة في الـتـلـفـزيـون الـسـويـدي.
المدهـش في إجابات سـيـغـبـيـرت لارسـون على أسئلة المذيعـة،
تلك النبرة الحارة، والعارفة، في آن، في حديثه عـن العـالم العـربي،
والساخرة، بل المتهكمة، حيال سذاجة المتخـيل الأوروبي للعـرب والمسلمين.
سـيـغـبـيـرت لارسـون  شخصية بحثية معـروفة ،
في الأوسـاط الاكاديمية الإسـكـنـدنـافـية ،
ولكنه بدأ يكتسب حضوراً شعـبياً مع إطلالاته المتكررة ،
على شاشات التلفـزة الإسـكـنـدنـافـية.
صورة  سـيـغـبـيـرت لارسـون الاولى في ذهـني،
مستمدة من نشاطه السياسي والبحثي المتعـلق بـالـقـضـيـة الفـلـسـطـيـنيـة،
والعالم العربي في الـثـمـانـيـنات.
فهو مستعـرب، اهتم مبكراً بالحياة السياسية ،
وزار عـدداً من الدول العربية.
آنذاك، كان سـيـغـبـيـرت لارسـون  يسارياً ذا نكهة ماركـسية،
على ما كانت عليه الحـالـة السياسية والايديولوجية ،
بين شباب تلك المرحلة شرقاً وغرباً،
لكن المرحلة تغـيرت وتغـير معها، ان لم ينقلب،
كثير من شخـوصها ومنظريها
(انظروا كيف صار بعض أكثر اليساريين العـرب تطرفا ،
منظرين شرسين لليبرالية الأمريكية المتوحشة!)،
ولم يكن تغـير سـيـغـبـيـرت لارسـون ، في هذا الإطار، اسـتـثـنـاء.
أصبح الشاب الـنـرويـجـي اليـساري كـاتباً مرموقاً ،
في واحدة من أكـبـر الصـحـف الـنرويـجـيـة،
وكانت كتاباته وإطلالاته التلـفـزيونية قـبيل الحرب الأمريكية على العـراق ،
مخيبة، تماما، لآمال الذين عـرفـوه من قـبل.
وكان ممكناً لواحد مثله أن يفرق بين احتلال صدام حسين للكويت ،
الذي ينبغي أن يدان بشدة ، وبين تجريد الحـرب على العـراق ،
بذريعة إخراج  القـوات الـعـراقـيـة من الكـويت ،
التي سيكون الشعـب العراقي ضحيتها الاولى، وكان فعـلاً.
لم يفعـل سـيـغـبـيـرت لارسـون شيئا من هـذا،
ولا أظـنـه راجع موقـفـه حتى والطائرات الأمـريكـيـة ،
تقوم بقصفها السـّجادي لبغـداد والمدن العـراقـيـة الاخرى.
لكن شيئا حدث في مواقف سـيـغـبـيـرت لارسـون بعـد الحادي عشر من أيـلـول،
أو هكذا يهييء اليّ.
فهو كان من أوائل الكـتـاب الذين تناولوا هذا العـمل الإرهابي الكبير ،
بشيء من الانضباط العـقـلي والتحليل السياسي والفكري العـميق ،
لخلفيات ودوافع هذا العـمل الذي كُتب له أن يشكل فاصلا حاسما،
بين مرحلتين في الحياة السياسية الامريكية، ومنعـطـفا حاداً في العلاقات الدولية.
في مـقـال نـشـره في صـحـيـفـة Aftenpostem  في الشـهـر الـمـاضي ،
يـتـصـدى سـيـغـبـيـرت لارسـون ، على نحو تحليلي عـميق وواف،
لخرافة “الصدام الحتمي بين الغـرب والإسلام“، ويـُـفـنـد مزاعـمها،
وهـو بالضبط، ما فعـله في حلقة البرنامج الـتـلـفـزيـوني الذي اشرت اليه..
فماذا قال في هذا الحـوار؟
قال ان الإسلام “متعـدد بتعـدد الشعـوب التي تعـتـنـقه“،
فمن المضحك أن تضع كل المسلمين ومذاهبهم المختلفة في سـلـَّة واحـدة،
وان الإسلام، وهـذا هـو أهم ما قاله، “ليس سبب الدكتاتورية والفـساد في العالم العربي“،
فـليست الطغـم العسكرية الديكتاتورية التي حكمت ردحاً طويلا في أمريكا اللاتينية مسلمة،
ولا الـفـساد طبيعة متأصلة في السلوك العـربي والإسلامي،
“فهناك في العالم فساد كثير ومفسدون كثيرون“ ،
لا هـم عـرب ولا يدينون بالإسلام.
وتحدث عن الديموقراطية التي تـزعـم الـولايات الـمـتـحـدة الأمريكيـة،
انـهـا تـعـمـل عـلى تـحـقـيـقـهـا في العالم العربي ،
وقال ان مشكلة أمريكا هي في “انعـدام الثقة“ بها في أجزاء كبيرة من العالم ،
بسبب حروبها، فالديموقـراطية “لا تستقيم مع الحروب ولا مع الاحتلال“.
“الذين يحكمون العالم العـربي مجموعة من اللصوص،
الذين ينهبون ثروات بلادهم“ .
هذا بالحرف ما قاله،
ولا أظن أن عـربياً حراً يختلف معه في ذلك،
بل سـيزيده من الشعـر بيتاً.
تـسأله مـقـدمـة الـبـرنامـج إن كانت هـناك مقاومة شعـبية أو ثقافـية،
للديكتاتورية والفـساد في العالم العـربي،
فيكشف، هنا، سـيـغـبـيـرت لارسـون ، عن معـرفة ومتابعة جـيدتين ،
للشأن الثقافي في العالم العـربي، فيقول:
“طبعا هـناك مقاومة … ولكن الذين يتصدون للنظم الديكتاتورية السائدة،
يـُقـتلون او يلقون في غـياهـب السجون ، أو يمنعـون من العمل او السفر...”
يذكر سـيـغـبـيـرت لارسـون  أسماء مقاومة واحتجاج نعـرفها على هذا الصعـيد،
منها الشيخ إمام وأحـمـد فـؤاد نجم، وعـبد الرحمن منيف، وزياد الرحباني.
وبـعــد ؛
لم اطرب لكلام سـيـغـبـيـرت لارسـون  لأنه يـُحابي العـرب ،
وينتصر لهم ظالمين ومظلومين،
مثل هذا الكلام لا يطربني،
بل أطربني أن أسمع مـُـثـقـفـاً أوروبـياً يـنـظـر إلـيـنـا ،
من خارج أسوار التنميط العالية..
يـرى ويعكس بصدق وجرأة ما رأى…