سلسلة حافية القدمين والبحر جزء 2

حافية القدمين والبحر

2

هل أبدأ الشكوى في يوم بهيج كهذا، وأفسد فرحة اللقاء، وأقدم المنغصات في فنجان القهوة؟!

لكنك يا بحر تعرفني حين أود البوح تظهر على وجهي علاماته، ترتعش على شفتيِّ كلماته، فكيف لا أشكوهم إليك، وأبكي بين ذراعيك؛ فتهدهدني أمواجك الناعمة حتى أغفو كطفلة في عمر الصبا.

ما الذي يؤرقني يا بحر وأنا بين ذراعيك، وأمواجك راضية عني كل الرضى؟! لمَ لا أبوح يا بحر وأشكو إليك غدرهم؟

لن أعاتبك الآن؛ فأنا حين أسامح لا أصغي لضغائن العتاب، لا أسمح لها أن تحتل مقعدًا بيننا، أو تجلس قبالتنا على موائد الكلام؛ فالعتاب لغة بائسة تَفْتُق جراح الغياب بعد أن تكون قد التئمت وتماثلت للشفاء.

النسيان نعمة كبرى؛ لأنه أقصر الطرق إليك يا بحر. لا وقت نضيعه أنا وأنتَ في العتاب، من كان المخطىء ومن الملام؛ إن كنتُ لا أعرف طعمًا للراحة إلا بين ذراعيك، وروحي لا تلفُها عناقيد السلام إلا حين تضمها إليك: فلمَ العتاب، لمَ الملامة، لمَ فتق الجِراح؟!

تضحك في سرِّك يا بحر وتقول: نضجت حبيبتي في الغياب، ربما..... هل ربما إجابة شافية؟ ربما.....

ربما لأنها ترضي غرورك، ولستُ بحاجة أن أَمسَ غرورك الآن، فلك أن تغتّرَ كما تشاء! ومن غيرك يا بحر يحلو به الغرور، ويطيب منه الاغترار؟

ضاقت بيَّ دنياهم في الخارج، العالم أصبح ضيقًا جدًا، نفد منه أكسجين الحياة، والشيخوخة ارتسمت تجاعيدها الحمراء على كل الأزهار.

لا تضحك يا بحر فليس لهذا السبب لم أُحضر إليك بين يديِّ باقة من الأزهار؛ فقد خيل إليَّ اليوم أنني زهرتك المفضلة، سوسنة ربيعك، جورية العمر التي زرعتها في خريف سابق لأعوام الميلاد؛ لتقبِّلها كل أيلول، وتتمنى لها أسعد اللحظات، وتكتب بأناملك الندية على رمال الشطآن: كل عام وأنتِ للبحر.

كان يومًا جميلًا حين وُلدت على يديك، كانت أولى صلواتي في محرابك، كنتَ تنظر إليَّ بغرابة واندهاش: كيف تؤدي هذه الزهرة الرقيقة كل هذه الصلوات ولا يبدو عليها التعب أو يكسوها الوهن؟!

هل أبوح إليك بسري الآن؟ إذن أغمض عينيك في الحال؛ أخجل من البوح في حضورهما الملائكي، أخشى هذا النور الذي يشع منهما، يحاصرني كالطوفان، يذيبني كالسحر، يسكبني في قارورة الأحلام؛ فأبقى هائمة على وجه الماء، لا يجرؤ موج على الاقتراب من قارورة موشوم على جيدها خُلِقَت للبحر.

أنا كنتُ يا بحر أفتعل الصلوات؛ كي أبقى بقربك كل الوقت. السماء تعلم جيدًا وتدرك طهر قلبي ونقاءه، لذلك كنتَ أنتَ همي ومبتغاي ومناي، كنتُ أطمع بمزيد من الوقت قربك، كنتُ أقولها إليك وأرددها باستمرار: الصلاة تأخذ الكثير من الوقت، عليك أن تصبر يا بحر وتمنع عنك أثناء صلاتي كل الثورات.

وكنتَ تسمع يا بحر، وتقنع وتمنع، وأنا في رضاك أتمتع وأُطيل في الصلوات .