الـمَـوت في الـمـَـنـفـى الدكتور عــبد القادر حسين ياسيـن

صعـد الناقد المصري علي شلش، بهدوء،
الي غرفته في فندق كيمـت ليحضر شيئا ،
ويعود الى اصدقائه المنتظرين في ردهة الفندق...


لكن الرجل المعروف بدقته لم يعد،
فذهب احد المنتظرين الى مكتب استعلامات الفندق لاستعجاله بالهاتف،
لكن الهاتف ظل يرن بلا جواب،
فصعد شخص آخر من المنتظرين في الردهة الي الغرفة وقرع الجرس،
ثم طـرق الباب، ولكن من غير جدوى.

صار واضحاً لمنتظري علي شـلـش أن أمراً ما قـد حـدث ،
فأبلغوا إدارة الفندق بالأمر،
فصعـد أحد المسؤولين مع أحد المنتظرين الى الغرفة وفتحاها،
فوجدا علي شلش يتكيء بظهره الى مسند السرير، وبيده محرمة جيب بيضاء.


قـلـة من الذين اقاموا في المنافي استطاعوا ان يموتوا هذه الميتة:
مستندين بهدوء الي مساند الاسرّة وبأيديهم محارم بيضاء ،
ولا يحتاجون ان يشحنوا مع الامتعة في الطائرات الذاهـبة الي اوطانهم.

لكن موت الكاتب العراقي نجيب المانع لم يكن يشبه موت علي شلش ،
الا في تلك الجلسة المسترخية علي مقعد ،
وبدل المحرمة البيضاء وجدوا في يده، بعد وقت من موته، كتابا.


ولا ادري إن كان يستمع في الاثناء الي اسطوانة من موسيقييه الكلاسيكيين المفضلين،
ولا ادري، أيضا، ان ظلت تلك الاسطوانة تدور وتدور ،
كمرثية تليق بواحد من ابرز المتضلعين العرب بالموسيقى الكلاسيكية الغربية.


محمـد الماغـوط مات كذلك وهو يستند الي اريكة،
وكان يمكن للماغـوط، نزيل الكرسي المتحرك، ان يموت عليه،
لكن الماغوط كان يموت وهو حيّ،
كان يفعل هذا بكل ما أوتي من قوة،
فعندما رأيته، للمرة الاخيرة، كان يمعن في التدخين حتى الموت،
وقيل انه كان يشرب من دون انقطاع ،
رغم الأدوية وتحذيرات الاطباء.

كان شاعر "الفرح ليس مهنتي" يستدرج الموت الي جرمه الضخم،
المعبأ بالكحول والنيكوتين، ليستريح، ربما، من عبء هذه الضخامة الباهظة.

بـدت لي شخصية الماغـوط انتحارية في إفراطها ،
بما يسمي "التدمير الذاتي" ،
وهذا نوع من الانتحارية لا يشبه انتحارية ميشيل النمري او سمير قصير،
فالاخيران كانا يعرفان ان الموت يترصدهما في فوهة مسدس كاتم للصوت ،
او علي شكل متفجرة توضع تحت كرسي السيارة.

ميشيل النمري وسمير قـصير، المتورطان في قضية لا تراجع عن جلجلتها،
كانا يحبان الحياة ويدافعان عن صباحاتها العابقة برائحة القهوة،
ولكنهما ، مثل سـنـتـيـاغـو نصار في رواية ماركيز "قصة موت معلن" ،
لا يستطيعان دفع الموت الذي يترصدهما علي رؤوس الاشهاد.
كانا يعرفان أن الموت قادم وكانا يعلمان علم اليقين علي يد من سيكون،
ولكنهما، كشخصيتين من التراجيديات اليونانية، سارا، بكل اندفاع، في طريق لا يرد سالكيه.

مات ميشيل النمـري (37 سنة) برصاصات في الصدر آمام مكتبه في أثينا،
ويده تمسك بحزام الخصر،
فيما مات سمير قصير (45 سنة) في تفخيخ مقعد سيارته.
وعلي كرسي الموت العربي سيموت الشاعر العراقي كمال سبتي (51 سنة) ،
في منفاه الهولندي البارد،
لكن كل ميتات الكراسي والاتكاءات علي قطع الاثاث السابقة لا تعادل هذه الميتة:
أن توجد ميتا على كرسي بعد أسبوع على موتك!

في منفي بارد وبعيد عكـف كمال سبتي على مساءلة الماضي،
الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه،
ولم يجد الا الصبر جوابا علي هـذا الذي "يأتي ولا يأتي"،
لكن الصبر لم يكن خيار الموت،
فالموت الذي يترصد طرائده الحية بخطم ذئب،
لا يصبر عندما يتعامد العـقـربان في برج الساعة،
فلما تغيب الحياة، او تتلكأ، يدخل الموت ولو من سمّ الابرة.

كان الموت يخور بصوته في الجوار ،
وعندما جلس الشاعر تلك الجلسة على كرسيه،
ربما بانتظار هاتف او لمجرد تغيير جلسته من وراء شاشة الحاسوب،
التي كان يطل منها علي حياة مفـتـرضة،
اقـتـنـصه الموت من قـصيدة كان يفكر فيها،
أو من تأمل في أحوال بلاد تساق بعينين مفتوحتين الى السلخ.


لم يكن كمال سبتي ليبتعد عن الهاتف، حبل سرته مع العالم الخارجي،
لكني عــندما اتصلت به آخر مرة ، لم يجب،
كانت هناك آلة التسجيل تطلب بالهولندية والانجليزية أن تترك رسالة،
فتركت رسالة، لكنه، على الأغـلــب، لم يستلمها.


فـكـَّرت، لاحقاً، عندما علمت انه بقي ميتا على كرسيه نحو أسبوع،
قبل أن تفتح الشرطة الهولندية باب شقـتـه عـنـوة ،
بناء علي طلب صديـقـته التي انـفـصل عنها منذ وقت،
أنني كنت اترك رسالة الى رجل ميت.


فكرة أن تترك رسالة على آلة تسجيل لرجل ميت،
بالقرب من الهاتف بدت مرعـبة،
فهي تنطوي على حسن ظن فظيع بالحياة،
فلا يكفي ان اكون حياً وقادراً على ترك رسالة صوتية ،
ليكون كمال سبتي حياً هو أيضاً.

كانت آلة التسجيل تؤدي دورها المعتاد،
بينما المعني بالأمر ميت منذ أيام على كرسي بالقرب منها.
لن أسمع صوت كمال سبتي مرة اخرى ،
وطبعا لن أرى وجهه عـياناً فنحن بيننا موعد للقاء لم يتحقق قط،
وبالتأكيد لـن أرى علي بريـدي الإلكـتـروني مقالة له،
مرسلة مرات عدة، مرة لتصحيح ما فاته ان يصححه، ومرات للتأكد انها وصلت الي.
لكني سأتذكر (طويلا يا ترى؟!) بعضاً من شعره يـشـبـه موته:
"جلس الجميع علي الاريكة مـتـعـبـيـن
الليل والأشجار والجندي
والـقـمر الحـزيـن...!!"


كنت في كوبنهـاغـن قبل شـهرين .
وفي لـقـاء عـابر مع الصـديق  جـعـفـر الكاظمي ،
وهو طبيب عـراقي يـقـيم في الـدانمارك مـنـذ سنوات ،
سـألـتـه عـن جـاره اللبناني الذي أصَـرَّ و"حـلـف بالطلاق"،
على أن أحـلّ ضيفـا عليـه  في العـام الماضي (مع أنني لا أعـرفـه) قـائلا :
"إن أصـدقـاء جـعـفر أصـدقـائي" ؛
وغـمـزني جـعـفـر يـومـهـا في إشـارة أن لا جـدوى من الرفـض.


وقـال لي جـعـفر ، بلـهـجـتـه البـغـداديـة المـُحـَـبـَّــبـة :
" يا سبحان الله... اليوم جنازته...
سـأذهب الى كنيسـة الروم الكاثوليك في نوربـرو لحضـور القـداس..
هل تـود أن تـأتي مـعي؟"


وعـنـدما لاحـظ إستـغـرابي ، قـا ل مـوضـحـاً :
" عـيـني ؛ أنت مـعـذور... فـأنت لا تـعـرف الرجـل .
لا زلت أذكر إصراره على إستضـافـتـك ،
عـنـدما إلتقـى بك في بيتي لأول مـرة...
للـمـرحوم قـصـة تـُروى ...
لـقـد تـنـقـل حسين ـ  وهـذا إسـمـه الحقـيقي ـ  من دين إلى آخر،
ومـن مـذهـب إلى آخـر ، ليس حباً في معرفة الأديان والـتـعـمـق في الـمـذاهـب،
بل رغـبة في التكسب والبحث عن عائلة وأصدقاء يلجأ إليهم،
بـعـد أن خانته الحياة وتـخـلت عـنـه زوجتـه ،
بـعـد أن هـربت مع عشـيق في عـمـر أبنـائهـا....


"كان المرحوم ساخراً ضاحكاً.
لـقـد إنـتـحـرحسين.
قـرَّر أن يـضـع حـداً لحـياتـه،
لكي يـتـخـلص من الـوحـدة والجـرح المكبوت ...
قـال لي جـاره أنـهـم عـثـروا عـلى جـثـة Jens
( وهو الإسـم الذي إخـتـاره حسين بـعـد أن إعـتـنـق المسـيحية )
بعد عـشـرين يـومـا... بعـد أن إتصـل أحـد الجيران بشركة السكن،
ليـشـكو من رائـحـة كريهـة...!!"


ذهـبـت مع جـعـفـر الى كنيسـة الروم الكاثوليك ،
لحضـور القـداس الذي أقـيـم لـراحـة نفس المـرحـوم...
ولـفـت إنتباهي أن الكنيسـة كانت خـالية إلا من بـضـعـة عـجـائز،
ربـما كـانوا أصـلا هـنـاك لـحضـور قـُـدَّاس الأحـد..


لم يبكِ أحد بصوت عال.
صمتٌ كصـمـت المـقـابر ـ كـمـا يـقـول الألـمـان ـ  وخشوع لراحة الميت.
عـيون دانـمـاركيـة حمراء حـزينة وغـريبة.
تم الدفـن بحضور القـسـيس.
أعـاد القـســيس بعـض الصلوات
("من التراب جئت ، والى التراب تعـود")...
كنت أنظـر الى القـسيس ،
ولا أدري لـمـاذا خـُيـِّـلَ إليّ ،
بأنـه كان حـريصـا علـى  الإنـتـهـاء من أداء هـذا "الـواجب الثـقـيل"
في أقـصر وقـت ممـكـن...


حمل كلٌ من الـمـشـيـعـين  وردة وضعها فـوق ضريح حسين ،
استعـداداً للنوم  الـطـويل في تلك الحفـرة الضـيـقـة البـاردة.
لاحـظـت أن جميع الحـفـر على نفس المقاس تقريباً.
ثم إنصرف الغـرباء كلٌ إلى شـأنـه.


تـقـدمت منـا سـيدة دانمـاركية في السبعـين من عـمـرهـا،
ودعـتـنـا (جـعـفر وأنا، فقد كنا الأجانب الوحيدين في الجنازة) إلى مطعم ،
لـتـنـاول "لـقـمة الرحـمة" على المـيت.


ذهـبت بـدافـع الفـضول... ذلك أنني لا أحـضـر جـنـازة أو زفـافـاً ...
أثناء الطعام لاحـظـت أن الناس في فـرح، الكل يثرثر ويضحـك ويناقـش...
بعـضهم يتحـدث عن المرحوم ، ويتذكر فـصوله المضحـكة والمحـزنة...
وبعضهم صامت يـتـنـاول طـعـامـه بحـزن....
وبـعـضهـم إنزوى في ركن ما ،
وكان يبكي لأسباب لا تـعـني أحـداً سـواه.


خـرجـنا من المـطـعـم بـعـد أن شـكرنا السـيدة الدانماركية،
التي لاحظتُ طوال الـوقـت أنـهـا كانت تشـير إلينا وهي تـتـحـدث مع صـديـقـة لـهـا...
ربـما كانت تتـسـاءل عـمـَّن يكون هـذان الـغـريبـان...!!


وفي طريق العـودة الى مـحـطـة القـطارات المركزيـة ،
كانت أفـكاري تـتـمـحـور حـول فـكرة واحـدة :
تــُـرى ... كم من الوقـت سـيـمضـي عـلـى تـعـفـن جـثـتـي،
قبـل أن يـتـصـل جـاري بشـركة السـكن...
ليـشـكـو من رائحـة كريـهـة...؟!