الدكتور عبد القادر حسين ياسين // الأرشيف في الــحـيـاة الـثـقـافـية الـعـربـية

الأرشيف في الــحـيـاة الـثـقـافـية الـعـربـية

باع الكاتب الأميركي الشهير نورمان ميلر أرشيفه الكامل ،
لجامعة تكساس بمليونين ونصف المليون دولار.
ويضم الأرشيف، الذي ملأ تسعمئة صندوق،
مخطوطات ميلر ورسائله وصوره، وكل ما يتصل بحياته الشخصية ،
وسيرته الأدبية التي تمتد على مدار نحو ثمانين عاماً.


وتقول وكالات الأنباء التي تناقلت الخبر إن جامعة تكساس،
وهي واحدة من الجامعات الأمـيريكية العريقة التي تضم مركزاً ضخماً ،
لأرشيف كتاب أمـريكا ومفكريها وشخصياتها البارزة،
استقبلت هدية ميلر المدفوعة الثمن بسعادة غامرة ،
لأن ميلر المولود عام 1923 هو واحد من بين أكبر كتاب أمـريكا،
وكان نشر أول كتاب له "العاري والميت" عام 1948،
وأثار ضجيجاً كبيراً في الحياة الثقافية الأمـريكية منذ ذلك الوقت.


ما يعنينا من هذه الحكاية يتجاوز ما قام به ميلر ،
من بيع أرشيفه بمبلغ ضخم بالنسبة الى كاتب،
فكيف بالنسبة الينا ، نحن الكتاب والمثقفين العرب ،
الذين ندفع للناشرين حتى يطبعوا كتبنا!


ما يعنينا هو غياب فكرة الأرشيف في الحياة الثقافية العربية ،
وضياع التاريخ الثقافي بسبب هذا الغياب.
عندما يغادر الكاتب، أو الشخصية العامة، هذه الحياة الفانية ،
يغيب معه تاريخه وتاريخ حقبته والزمان الثقافي الذي كان يعيشه،
فيما يلجأ وارثوه إلى التخلص من أوراقه بإتلافها ،
أو بيعها بأي ثمن أو منحها لشخص مهووس بالأوراق ،
والرغبة في أن يطل على عوالم كتاب ومثقفين ،
يكونون قد شغلوا الناس وملأوا عليهم حياتهم،
فإذا ماتوا اندثروا واندثرت معهم أفكارهم والتاريخ الذي صنعوه.


كم من الكتاب الذين عرفـتـهـم توارى حضورهم الثقافي بعد موتهم،
وضاعت مكتباتهم وأرشيفهم الشخصي لأن وارثيهم ،
لم يدركوا أهمية تلك المكتبات وذلك الأرشيف،
كما أن المؤسسات الثقافية، الرسمية والأهلية، والجامعات والمكتبات العامة،
لم تلتفت إلى تلك الأوراق ، وذلك الأرشيف بصفتهما تاريخ البلد وذاكرته المتجددة.


فكرة الأرشيف هي الفاصل بين المجتمعات البدائية، التي لا تعنى بالذاكرة،
والمجتمعات المتحضرة التي ترى إلى التاريخ بصفته تراكماً وبناء ،
لا مجرد انقطاعات وبدايات من الصفـر.
عندما نقرأ عن اكتشاف قصيدة مكتوبة بخط يد شاعر مشهور،
في العالم بيعت بعشرات آلاف الدولارات،
علينا ألاّ نعيد ذلك إلى طبيعة العقل الرأسمالي الغربي ،
بل إلى تأصل فكرة الأرشيف وكونه جزءاً من الحياة الغربية الحديثة ،
التي وصلت إلى ما وصلته من تقدم بسبب احترام الغرب ،
لمفهوم التواصل والتراكم المعرفي.


بلى ، إنهم يتباهون بما يملكون،
لكن المتاحف والمراكز الثقافية ومكتبات الجامعات ،
تهتـم كثيراً بامتلاك المخطوطات واللوحات والأوراق ،
والطبعات الأولى من الكتب، لأن الأرشيف جزء من التاريخ الثقافي ،
والتراكم الحضاري للأمم.


لا تتعلق المسألة بفكرة المزاد فقط، وقدرة من يدفع أكثر ،
على امتلاك ما هو معروض، بل باحترام ما تنجزه العقول عبر التاريخ،
التاريخ الذي هو علامة وجود البشر وانتقالهم في المكان والزمان.


أما نحن، فإننا بإهمالنا لفكرة الأرشيف نشدد على إمكان البدء من الصفر،
الصدور من الفراغ، من نقطة تبدأ من الذات وتنتهي بها،
بل تموت بموتها وتفنى بفنائها.


ولذلك انعكاسات خطرة على كل الحقول: حقل السياسة وتداول السلطة،
حقل الاقتصاد وبناء الثروة، حقل الإنجاز الثقافي ومراكمة المعرفة،
حقل العلم والتقدم التقني...
ففي كل هذه الحقول يقود البدء من الصفر إلى كوارث ،
على صعيد السياسة والاقتصاد والثقافة، وتطور المجتمعات وتقدمها،
لأن كل شخص سيلغي من قبله، وسنصل إلى ما وصلنا إليه في هذا الزمان:
غياب المؤسسة في الحياة العربية، ومن ثمّ غياب التراكم والتقدم ،
والتحديق الدائم في الفراغ العاري...