ما نفع المفتاح بعد ضياع القفل ...؟!

لم تكن رحلتي رغبة بالسفر ...ولم أكن أعلم أن كل البلاد ستحجب عني نور الشمس ...لم أكن أعلم أنهم سيبنون لي وطنا من ورق ...ولكني ما زلت مدينا للقدر أن جعل خيمتي تشرف على بعض شجيرات زرعها جدي هناك قبل سنين ...كان جدي حريصا أن يعلف الدجاجات ... وأن يضع لها الماء ...كي لا تجوع في غيابنا القسري الذي ظن جدي وأوهمنا أنه قصير ... قصير إلى حين أن يتوقف الليل عن التهام ما تبقى من أشعة الشمس التي تترنح متعبة قبل الرحيل ...
كان جدي حريصا أن ينتقيني أنا الولد الأصغر بين اخوتي ... ليحمّلني مفتاح البيت ...
شعرت أنني أحمل هما ... وأحمل حلما ...ووعدا من السماء ...لماذا اختارني جدي لحمل المفتاح ...؟! هل كان يحملني أمانة قبل أن يكون مقره الأخير قرب خيمة بالية في أرض لا يزروها المطر ... ولا تسمع فيها إلا أصوات ابن آوى ليلا ...
نام جدي قرب خيمتنا في تلك الأرض الغريبة واستراح ...وأنا أجلس عند رأسه كل يوم لعله يفصح لي عن سر المفتاح الذي أرهقني حمله ...
هل كان يعلم أن رحلتنا مع الخيمة ستطول ؟؟؟؟ وإلا لماذا يختارني أنا الأصغر سنا ...؟!
هل كان سيسعد جدي لو رأى خيمتنا وقد صارت بيتا من الصفيح يتلو علينا كل ليلة ترانيم الخوف ...هل يسمع جدي معنا أخبار الوطن عبر هذا المذياع الكبير ...نجلس ننظر إلى وطننا من بعيد ونسمع أخباره عبر المذياع ...وكلما سمعنا نشيد العروبة دب فينا الحماس وصرنا نردد ( طلّت خيلنا من قاع الوادي ) وننام على وعد بصباح يقتلع خيمتنا ...فتخرج الشمس من خلف التلال معصوبة الرأس ...
ما زلت أحتفظ بالمفتاح ... ما زال المفتاح معي يا جدي ...ما زلت أحمله ...أنام وهو بين يدي... ولكني أستميحك عذرا يا جدي ...لقد أرهقني حمل المفتاح ...
ومرت سنون ونحن نبحث عن القفل ...
لم يعد لنا حاجة بالمفتاح يا جدي ....
فما نفع المفتاح بعد ضياع القفل ...؟!