العـرب بـيـن وعـي الـتـخـلـّـف وتـخـلـّـف الـوعي
الدكتور عـبد القـادر حسين ياسين
يـُـقـال ، والـعـهـدة عـلـى الـراوي ،
أن العـرب قد دخلوا عـصر العـلم،
بعد أن صار لديهم جندي يقاتل بالصواريخ،
وطبيب مدرب على الجراحة المعـقـدة،
ومهندس متخصص في بناء الجسور.
وهو قول حسن، قد يطرب سامعه،
لكنه -  للأسف - تنقـصه صفة العلم بالذات .
فـتأهيل المواطنين العرب لأداء الخدمات العامة في مجتمع معاصر،
لا يعني أن العرب، قد دخلوا عصر العلم ،
بل يعني - حرفياً - أنهم يركضون وراءه.
وهم يركضون في الواقع منذ عصر محمد علي باشا،
وينزفون عرقا ونقودا،
لمجرد الحفاظ على أدنى مستويات الخدمة العامة.
أما دخول عصر العلم،
فانه  - في رأيي المتواضع - فكرة أخرى  ،
لها شرط أساسي آخر هو أن تدخل البيئة نفسها في عصر العلم وليس المجتمع فقط .
وفي هذا المجال لا يبدو العرب متأخرين جدا ،
بل يبدون خارج السباق من أوله.
ليس ثـمـة حـاجـة لأن نؤكد هذه المقدمة بالدلائل،
فما حدث منذ بداية القرن الذي مضى ،
وما جرى من وقائع وأحداث يثبت ذلك بل ويؤكده...
فهو عـقـل لا يعرف ما يريد،
وعاجز عن تحديد ما يريده ،
وهو غـيبي حين يتحـدث عن أهدافه،
مفرداته مستهلكة وقـدراته منهكة،
يرفض حين يجب أن يـقـبل ، والعكس صحيح.
أما الحديث عن رؤية الفرص التاريخية واقتناصها وبلورتها،
فهو حديث عن الفرص الضائعة وكيف استطعنا بهمة نحسد عليها،
ان نستدعـيها إلينا ، وان نوظف قدراتنا في تأكيدها ،
وان ننجح في ذلك نجاحاً كان لنا السبق فيه...
والسبب في ذلك بسيط جدا،
ذلك لأن الذاكرة العربية كانت لا تتكئ إلا على الماضي ،
ومن ذلك الماضي أسوأ ما فيه :
غـيـبـياته وآراء المشعـوذين وفـتاوى العاجزين،
فـضلا عن بعض أبيات الشعـر في الفخر أو الهجاء،
ونصوص هي "لزوم ما لا يلزم...".
وعلى هذا ظل العقـل العربي في قطيعة عن الحاضر،
أما عن المستقبل وتحدياته فذلك شأن آخر لا علاقة لنا فيه،
ولذلك بقيت المجتمعات العربية أسيرة التخلف ،
وما ينتجه هذا التخلـف من حروب أهلية وقبلية وطائفية وأمية،
نحتل بها الصفوف الأولى في هذا العالم...
أضف الى ذلك سوء إدارتنا للانتاج أو للتنمية.
ومع هذا كله ، وربما قـبل هذا، فـقـد أفرزنا حكاماً ديكتاتوريين ،
اصطادوا الحكم بالوراثة أو بـ "الـبـلاغ رقـم واحـد..!".
وفي حين كان المطلوب من هذا العـقـل العربي أن يوجه وينبه،
فقد صار محاصراً بين ركنين وأمامه أبواب موصدة.
فهو عدا عن كونه عقلا معطلا ظل قاصرا أيضا عن استيعاب حقائق هذا العصر:
فـلسفة ومعلومات وإعلاماً يتصل ويتواصل مع مجتمعه،
وواجه إلى ذلك حاكماً ألغى المؤسسات ،
وشعوبا مغلوبة على أمرها جاهلة وقاصرة ،
كانت حين تعـترض تذهـب الى الغـيبيات ،
أو إلى ردة أصولية تحاكم خصومها بحدي الدّين أو السكين،
وعلى هذا صارت المشكلة مشكلتان:
عـقـل قاصر لم يعِ التقدم الذي يدق أبواب العالم كل يوم بالجديد،
وشعوب محاصرة ضمن جدران محكمة الاغلاق ،
شيدها إما حاكم مستبد وإما ظروف قاهرة خلقها حكم مطلق،
على مدى التاريخ العربي منذ أن بطل أمر الحكم “شورى بينكم”.
ومع كل ذلك، فقد حدث في التاريخ المعاصر ،
حالات نهضت فيها الأمة لتغيير واقعها.
قاومت الاستعمار وانتزعت الاستقلال ،
وواجهت أعظم هجمة استعمارية بعيد الحرب العالمية الثانية،
تمثلت في احتلال اليهود لفلسطين وإقامة دولة لهم فيها،
وما زالت تواجه هذا الاحتلال الاستيطاني ...
وأقامت أيضاً دولة الوحدة بين مصر وسوريا ،
بدت في حينها بأنها دولة الوعـد بالتقدم وامتلاك القوة لمواجهة التحديات.
ومع ذلك، إذا استثنينا فلسطين الآن من المعادلة، وهو استثناء مؤقت ،
فإن كل هذه الانتفاضات المشروعة لم تستطع المحافظة ،
على إنجاز خطوات تاريخية لإرساء علاقات صحية بين شعوب هذه المنطقة.
بل الذي حصل هو العكس تماما ، فقد سقطت معظم الـدول العربية في قبضة العسكر،
او في قبضة عائلة مالكة...
لقد حاولنا وما زلنا نحاول ان نقاوم التخلف بالعـنف،
واستخدمنا هذا العنف بالتعامل مع شعوبنا،
وبدلا من ان تتمتع تلك الشعوب بحريتها ،
وحقها في تنظيم أحزابها، أو بحرية القول والعمل ،
وهو نص موجود في دستور كل دولة عربية ،
ومشطوب ايضا من كل دستور.
وأعتقد انه كان هناك تواطؤ ما،
حصل بدون اتفاق ولكنه أدى الى نتائج سلبية.
وقد تمثل ذلك التواطؤ بين العقل العربي الجامد والمتخلف،
والحاكم العربي المتسلط والمتطلب.
وعلى هذا فإن العـقـل العـربي، الذي كان عليه ان يحلل الواقع ،
وان ينتج أفكاراً جديدة وان يبلور أهداف المستقبل،
قد استقال من دوره تماما ، فأصبح داعية لهذا الحاكم أو ذاك يـُبـرر ويبخر،
ومع ان القيم هي ذاتها ، فقد استخدمت تلك القيم ،
على ألسنة دعاة السلطان بمعان متباينة خدمة لأغراضه ،
بحيث يمكننا ان نقرر بأن هذا العقـل الذي نفترضه رائداً،
أنتج المقـولتين التاليتين :
"بالدم ، بالروح ، نفديك يا...”
أو "حكم الشعـب بالشعـب ومن أجل الشعـب"...
مقـولتان رسـَّخـتا التخلف وعممتاه ،
وألغتا التقدم لحساب التسلط ،لنواجه حالة من حالتين:
إما وعي التخلف ، وهو ما يصب في خانة المستقبل ،
وإما تخلف الوعي وهو ما ينتجه حاضر هذه الأمة ،
على كل صعيد ...
وعلى هذا فسيبقى المطلوب خلق عقل جماعي ، ناقـد وقادر على المحاسبة ،
وهي مهمة تبدو مستحيلة ، في ما يحيـط بـنا من ظروف قاهرة وقوى متسلطة.
نحن إذن في مأزق،
وعندما يكون العـقـل العربي، عـقـل النخب العربية ، من مثقفين وسياسيين واقتصاديين،
غـير قادر على ممارسة دوره في رسم إشارات التقدم،
بل وممنوع عليه ان يمارس هذا الدور ،
فلا بد أن العالم العربي سوف يعرف الكثير من الفتن ،
والردة الدائمة نحو الاصولية ، بحثا عن حل مستحيل في نفق المأزق ذاته...
ومع ذلك فـقـد تمـَّـت عـدة محاولات لنقـد العـقـل العربي  ،
حددت منهجية جديدة نقـدية ومتطورة ، تمثلت في نقد التحليلات السابقة،
ثم حددت تلك المحاولات أسلوبا جديدا عمليا وعلميا للتعامل مع الاحداث وقراءتها،
يدل على بعضها ما كتبه محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي ،
ونصر ابو زيد ومحمد اركون وسواهم،
وهي محاولات علينا ان نلاقيها في منتصف الطريق،
حين السؤال الدائم هو ضرورة معرفة ما نريد ،
فعلينا ان نقرر في نفس الوقت كيف نحقق ما نريد ،
والسبل الى ذلك ميسورة بنسب شتى وبإمكانيات متوافرة ،
والمطلوب عقل شجاع يمتلك الرؤية والحس التاريخي ،
لكي يتقدم بنا خطوات الى الامام.
قـيل لأحد الفلاسفة : اي العـقـول أفـضل فـقال:
"العقـل الذي اذا حاورته وجدته عـلـيماً ،
وإذا خبرته وجـدته حكيـماً ،
وإذا اعـتـرض كان حـلـيـمـاً،
وإذا وَعَــدَ كان الموعـد حقـاً وعـظـيماً...".
فهل هـناك حاكم عـربي ،
مـن طـنـجـة إلـى أم الـقـيـويـن ،
ومعه فريق عمل عالم وحكيم،
خلاق ومبدع ، يتقدمون إلى الأمام قـليلا ،
لكي يضعوا المستقبل على جدول العمل اليومي...؟!