مارتـن لوثـر كـيـنـغ : أيـقـونـة مـن لـَحـم ودَمّ
الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين
في كتابه "مارتن لوثر كينغ" الذي صدر في الولايات المتحدة في الـعـام الماضي ،
يُبعـد االـمـؤلـف،  مارشـال فـرادي ،عن مارتن لوثر كينغ الابن ،
الصورة النمطيّة التي رسمتها له معظم الكتابات التي تناولت سيرته.
الأسطورة الذي لم يخضع إلا للتمجيد في ما مضى،
يخفي وراءه إنساناً حقيقياً ذا ملامح مختلفة ،
عن رجل الدين والسياسي والناشط الذي كانه.
يـتـضـمـن الـكـتـاب توثيقاً لمرحلة النضال العرقي ،في جنوب الولايات المتحدة،
منذ الخمسينيات حتى أواخر ستينيات القرن الماضي ،
وكان مارتن لوثر كينغ أحد أبرز صنّاعها.
نجح مارشـال فـرادي في تظهير صورة الجنوب المنبوذ عن أمـريكا آنذاك،
مغنياً إياها بتجربته الصحافيّة التي رافقت العمل النضالي،
ومتطرّقاً إلى الظروف الاجتماعية المضطربة،والفصل العنصري بحقّ السود،
ورداءة مدارسهم ومساكنهم ومحدودية وظائفهم.
من خلال أربعة فصول ومقدّمة غنيّة وتخصيص فصل لبعض خطابات كينغ،
("مولد أمة جديدة"، "أوان كسر جدار الصمت"،
"التنظيم الاجتماعي للاعنف"، "رسالة من سجن في بيرمنغهام"،
"لديّ حلم"، و"خطاب قبول جائزة نوبل")،
انطلق فـرادي من نشأة والد مارتن كينغ،
الواعظ المستبدّ في كنيسة في مدينة أتلاتنا، ما أدّى إلى تأثّر الابن بهذا الجوّ الكنسي.
ترعرع الابن في عائلة من الطبقة الوسطى،
مع تربية قاسية وصارمة من والده.
وتعمّق مارشـال فـرادي في نفـسية كينغ الطفل وأطباعه،
التي احتفظ ببعض منها في كبره، منها شعوره الدائم بالذنب،
ما دفعه إلى محاولتي انتحار قبل بلوغه سنّ الـ 13،
إضافة إلى إنطوائيته، وإحساسه بالمسؤوليّة في المنزل،
وتعرّضه لحوادث عنصرية من البيض...
كلّ هذه العوامل ولّدت لديه حساً إنسانياً.
لا يمكن تناول سيرة كينغ القائد من دون التطرّق إليه كخطيب.
ذات يوم، بعد سماعه خطبة في إحدى الكنائس،
قال كينغ لأمه :"يوماً ما ، ستكون لي كلمات كبيرة كهذه".
تظهر الدراسة أنّ نشأته في جو كنسي مليء بالخطابات والوعظ،
وتحصيله الثقافي جعلاه خطيباً مميزاً ذا تأثير كبير على الجماهير.
الشاب الذي بدأ بـمـواعـظ تجريبية في كنيسة صـغـيـرة في أتلانتا،
كان يتدرّب أمام مرآة الحمام على خطاباته،
فيما تسلّح بمخزون ثقافي وفكري أغـنى خطاباته ،
وقدرته على استيعاب الأفكار العظيمة وترجمتها إلى أفعال.
كما تعلّق بأفكار الـفـيـلـسـوف الألـمـاني فريدريش هيغل،
وتأثر بالمدرسة الفكرية اللاهوتية المسمّاة "المدرسة الشخصانية"،
وخلص في النهاية إلى نوع من اشتراكية الضمير المسيحية،
وآمن بأن صيغة من "الاشتراكية المعـدّلة" هي الطريقة ،
التي يجب أن تتبناها أمـريـكا لبلوغ المساواة الحقيقيّة.
في شهر كانون الأول عام 1955، حصلت حادثة عـنصرية في حافلة،
في منطقة مونتغومري في جنوب الولايات المتحدة،
وكان مارتن لـوثـرحينها قسيساً في كنيسة دكستر،
يحظى باحترام كبير في مجتمع مونتغومري الأسود.
في أحد أمسيات شهر كانون الأول عام 1955 الباردة ،
جمعت روزا باركس ذات البشرة السمراء والتي تعمل خياطة ،
حاجياتها وتجهزت للعودة إلى بيتها بعد يوم من العمل الشاق المضني ...
وقفت تنتظر الحافلة كي تقلها إلى وجهتها .
وأثناء وقوفها الذي استمر لدقائق كانت روزا تشاهـد بألم ،
منظراً مألوفاً في أمريكا آنذاك ، وهو قيام الرجل الأسود ،
من كرسيه ، ليجلس مكانه رجل أبيض ! .
لم يكن هذا السلوك وقتها نابعاً من روح أخوية ، أو لمسة حضارية ،
بل لأن القانون الأمريكي آنذاك كان يمنع منعاً باتاً ،
جلوس الرجل الأسود وسيده الأبيض واقف ؛
حتى وإن كانت الجالسة امرأة سوداء عجوز،
وكان الواقف شاباً أبيض في عنفوان شبابه ،
فـتـلـك مخالفة تُغرم عليها المرأة العجوز !! .
وكان مشهوراً وقـتها أن تجد لوحة معلقة على باب أحد المحال التجارية،
أو المطاعم مكتوب عليها:
NO DOGS...NO BLACK:
"ممنوع دخول الكلاب والـسـّود..!!"
كل تلك الممارسات العنصرية كانت تصيب روزا بحالة من الحزن والألم والغضب .
فإلى متى يعاملوا على أنهم هم الدون والأقـل مكانة ؟
لماذا يُحقرون ويُزدرون ويكونوا دائما في آخر الصفوف ،
ويصنفوا سواء بسواء مع الحيوانات ؟
وعندما وقفت الحافلة استقلتها روزا  وقد أبرمت في صدرها أمراً .
قـلبت بصرها يمنة ويسرة ، وعـنـدما وجـدت مقعداً خالياً ارتمت عليه،
وجلست تراقب الطريق في هدوء إلى أن جاءت المحطة التالية ،
وصعـد الركاب، وإذ بالحافلة ممتلئة ...
وبهدوء اتجه رجل أبيض إلى حيث تجلس روزا ،
منتظراً أن تفـسح له المجال ، لكنها نظرت له في لامبالاة،
وعادت لتراقب الطريق مرة أخرى !!!.
ثارت ثائرة الرجل الأبيض ، وأخذ الركاب البيض في شـتـم روزا ،  
والتوعد لها إن لم تقم من فورها ، وتجلس الرجل الأبيض الواقف
.لكنها أبت وأصرت على موقفها ، فما كان من سائق الحافلة،
أمام هذا الخرق الواضح للقانون إلا أن يتجه مباشرة إلى الشرطة،
كي تحقق مع تلك المرأة السوداء التي أزعجت السادة البيض !!! .
وبالفعل تم التحقيق معها ، وتغريمها 15 دولاراً ، نظير تعـديها على حقوق الغير !! .
وهنا انطلقت الشرارة في سماء أمريكا ،
ثارت ثائرة السود في جميع الولايات ، وقرروا مقاطعة وسائل المواصلات ،
والمطالبة بحقوقهم كبشر لهم حق الحياة والمعاملة الكريمة .
استمرت حالة الغليان مدة طويـلـة ، امتدت لـ 381 يوماً ،
وأصابت أمريكا بصداع مزمن.
وفي النهاية خرجت المحكمة بحكمها الذي نصر روزا باركس في محنتها.
وتم إلغاء ذلك العرف الجائر وكثير من الأعراف والقوانين العنصرية
هذا النضال اللاعـنـفـي اكتسبه كينغ من السـيـد المـسـيـح والـمـهـاتـمـا غاندي.
لم يغيّر استعمال الشرطة الأمريـكيـة للهراوات والكلاب ،
وخراطيم المياه، لمواجهة التظاهرات، من قناعات مـارتـن لـوثـر كينغ.
فـقـد واصل النضال اللاعنفي، مؤمناً بأنّه "الطريق الأمثل للخلاص".
حتى إنّ الشرطة الأمريكـيـة المـشـهـورة  بقـسوتها وسلسلة اعتقالاتها،
لم تولّد لديه حقداً أو دعوة إلى الانتقام من البيض،
فالدفاع عن الفقراء البيض وعن الأعراق الأخرى المهمّشة ،
في الولايات المتحدة الأمـريكية شكّلت أولويّة من نضاله.
الشاب الأسـود الذي قـرَّر أن يصبح قسيساً في عمر الثامنة عشرة،
لاقتناعه بأنّ الكنيسة مكان مثاليّ لتلبية "نداء داخلي لخدمة الإنسانية"،
اكتسب تدريجـيـاً ثقة شريحة كبيرة من السود.
لم يكتفِ مارشـال فـرادي بذكر الانتصارات التي تلت تحرّك مونتغومري،
إذ أظهر لنا ما لا نعرفه عن نضال كينغ ونضال الجمعيّات المدنية الأخرى.
ووثّق أيضاً لمرحلة الفشل بعد حملة مونتغومري.
في هذه المرحلة، واجهت الحملة أقسى أنواع الفشل في ولاية ألباني تحديداً،
بسبب العقبات التي وقفت في وجهها، منها موقف مكتب التحقيقات الفيدرالي القاسي،
إضافة إلى تدهور حالة كينغ النفسية وخوفه وتردده في رحلته القاسية مع هذا النضال.
لكنّ نجاحاً آخر تـحـقـق في بيرمنغهام كان لـه الأثـر في إصرار كينغ على سلميّة النضال،
رغم تطرّف بعض الشباب في الحملة وتسرعهم.
تمثّـل هذا الـنجاح في مقاطعة رجال الأعمال في وسط البلد،
ما نجم عـنه مشروع قانون المنشآت والخدمات العمومية ،
الذي كان يعتبر في بالغ الأهمية بالنسبة إلى الحقوق المدنية للسود،
وما كان ليتحقق لولا حركة كينغ في الجنوب.
يضعـنا فـرادي وسط المناخ السياسي الأمـريكي السائد يومذاك ،
من ظهور المناضل مالكولم إكس، ودعم الرئيس الأميركي جون كينيدي للحملة،
وتقديم حكومته لمشروع قانون يلغي الفـصل العنصري في المنشآت العامّة إلى الكونغرس.
ويتوقف الـمـؤلف عند أبرز المحطات والأحداث السياسيّة في الولايات المتحدة،
منها اغتيال جون كينيدي، وحرب فيتنام،
فيما يقدّم لقاءات شخصيّة وحوارات حيّة مع المقرّبين من كينغ،
وشهاداتهم عن تفاصيل حياته غير الظاهرة إلى العلن.
بعدما وجد كينغ نفسه رجلاً ذا وزن دولي،
لم يعِق حلمه خوفه من الاغتيال بعد جملة التهديدات ،
وسلسلة الاعتقالات التي طالته وتركت أثراً كئيباً في نفسه،
بل أهدى حلماً لأمة بكاملها بعد أكثر من ثلاثة قرون من إذلال السود.
حلم لم يستطع أن يبدّده شيء حتى بعد اغتياله ،
ذلك النهار من شهر نيسان 1968 في فندق لورين في ممفيس.
وبـعــد ؛
إن شجاعة رجل واحد، امتلك الوعي والعـزم والصبر على خوض معركة شاملة،
بالنيابة عن أبنـاء قـومـه، كانت كافية لإيقاد شعـلة متوهـجة،
في ليل أمريكي بهيم، والتبشير من ثم بفجـر نهار ساطع ،
يفـيض بأنوار الحرية والديموقراطية والمساواة.
خلال كفاحه الطويل انتبه كـيـنـغ إلى حقيقة بسيطة:
"اكتشفت أننا ما إن نصل إلى قمة تلة عالية ،
حتى نجد أن هناك مزيداً من القمم علينا تسلقها".
كان مقاتلاً بغير سلاح إلا إصراره على الحرية والـعـدالـة ،
فـلم يتنازل ولـم يفرط حتى الـنـهـايـة التي تـلـيـق بهذا الرمز الإنساني النبيل.