مـئـة عـام عـلـى الـثـورة التي هــَزَّت العـالـم
د. عبد القادر حسين ياسين
12/10/2017
حينما عاد فلاديمير ايليتش أوليانوف ("لينين") من المنفى الأوروبي إلى وطنه في نيسان 1917، إثر نجاح ثورة شباط 1917 الروسية، فاجأ مستقبليه في محطة القطار في مدينة بيتروسبرغ، بالخطاب الذي ألقاه فيهم وإختتمه بقوله: "عاشت الثورة الاشتراكية"!!
كان مبعث المفاجأة التي عمـَّت الجميع، بمن فيهم قادة وأعضاء حزبه "حزب العمال الديموقراطي الاشتراكي الروسي (البلاشفة)، هو أنهم كانوا يعتقـدون أن على روسيا أن ترعى وتوطد ثورتها القومية الوليدة ، وأن تبني نظاماً ديموقراطياً برجوازياً،  يقيِّد الحكم الـقـيصري المطلق بدستور يطلق الحريات الديموقراطية العامة على النمط الغربي.  أما "الثورة الاشتراكية" فهي مرحلة ليست مطروحة على جدول أعمال روسيا الرأسمالية الاقطاعية المتأخرة. إذ كان الاعتقاد السائد في صفوف الحركات والقوى الاشتراكية الأوروبية عامة، أن الثورة الاجتماعية الاشتراكية إنما ستندلع أولاً في دول أوروبا المتطورة رأسمالياً (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) التي حققت ثوراتها القـومية الديموقراطية بالفعل.  لكن لينين كانت له قراءة واستنتاجات مغايرة للوضعين الروسي والدولي على السواء. فعلى الصعيد الروسي كان قد استخلص منذ ثورة 1905 ـ رغم إخفاقها - أن مركز الثقـل في الثورة العالمية قد انتقل من أوروبا الغربية إلى آسيا، بعدما لاحظ خبوَّ الروح الثورية لدى الطبقات العمالية والكادحة الأوروبية، نتيجة الإصلاحات التي قامت بها دولها، وتواطؤها مع الحكومات والشركات الإمبريالية في نهب ثروات الدول المستَعمَرة واستغلال شعوبها. وتعزز هذا الرأي باستقرائه لتحول الرأسمالية في الدول المتقدمة، إلى مرحلة الإمبريالية التي تأجج تنافسها على غـزو العالم واقتسامه، وهو الأمر الذي أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى ، التي اعتبرها حرباً رأسمالية لصوصية، ودعا الشعوب إلى "الحرب على مشعلي الحرب".
وإذ كانت ثورات آسيا "المستيقظة" قد عززت من قناعاته بـ"توحش أوروبا"، فإن اكتشافه وصياغـته لما عرف بـ"قانون تفاوت التطور الرأسمالي" دفع به أكثر لعدم التعويل على نهوض ثوري في أوروبا الغربية، والاهتمام والتركيز أكثر على نهوض وانتفاضات آسيا الواعـدة، وخصوصاً روسيا (الأوراسية) ذات المساحة الهائلة، التي احتدمت فيها التناقضات المختلفة (الطبقية والقومية والدينية...) مما جعلها "الحلقة الأضعف" في السلسلة.  لكن الأمر المهم الذي بنى عليه نداءه بوجوب الثورة الاشتراكية، كان الواقع الذي أفرزته ثورة شباط 1917 الروسية، والذي تمثل بوجود سلطتين: سلطة الحكومة الضعيفة، وسلطة العمال والجنود والفلاحين التي عبرت عنها السوڤييتات (المجالس). وكانت إرادة الحكومة بالاستمرار في الحرب، رغم ويلاتها التي قضت على ما يقارب 14 مليون روسي نتيجة القتال على الجبهات وانتشار المجاعة، تتعارض مع إرادة عامة الروس المنهكين الذين لم يروا لهم في الحرب مصلحة.
لم يجد نداء لينين إستجابة... لكن هذا لم يثنه عن عزمه المثابر، حتى جاءت محاولة الجنرال كورنيلوف للانقلاب على الثورة ، بحجة إعادة النظام، في تموز ، فـتحول الموقف نسبياً لصالحه، وحسم في تشرين الأول 1917، لتنطلق في الرابع والعشرين منه "الأيام العشرة التي هـزَّت العالم" حسب تعبير شاهد العيان الصحفي الأميركي جون ريد. حيث تولت "اللجنة العسكرية الثورية" التي أنشأها البلاشفة، السيطرة على المراكز المهمة في بيتروسبورغ وموسكو ابتداءً من قصر القيصر نقولا المعروف بـ"قصر الشتاء".
أعلنت الثورة فوراً "مرسوم السلام" لوقف الحرب دون إلحاق أو تعويضات، و"مرسوم الأرض" الذي أمـَّمـت فيه أراضي العائلة الحاكمة والاقطاعيين ووزعـتها على الفلاحين، وسيطرت على البنوك ومفاصل الاقتصاد وأممتها.
ولما كانت أطياف المصير الدامي لــ "كـومـونـة باريس" 1871 تلاحق قادة البلاشفة، فـسرعان ما شرعوا ببناء "الجيش الأحمر" ، لمواجهة أعدائهم الذين رفضوا حكمهم في الداخل، ولمواجهة الدول الإمبريالية المتعـددة التي تدخلت لوأد الثورة التي أثارت فـزعها.  وإلى جانب "الجيش الأحمر" الذي تشكل من الجنود (خصوصاً أبناء العمال والفلاحين) وقاده ليون تروتسكي، أنشأ البلاشفة منظمة الاستخبارات السرية "التشيكا" التي تولت ملاحقة خصومهم بدون هوادة . وفي العالم 1920 كان البلاشفة قد هـزموا أعداءهم العـديدين ووطدوا سلطتهم.
ومع سقوط المراهـنة على ثورات أوروبية - بعد إخفاق الثورة الألمانية في خريف 1919- تبدد الأمل بـ"ثورة دائمة" تعم العالم، فكرَّس البلاشفة جهودهم لـ "بناء الاشتراكية في بـلـد واحد"، وهو ما سيحـدد طابع الثورة الروسية ونظامها، إضافة إلى المحـددات الأخرى الخاصة بمستوى تطور روسيا من جهة، وبثورتها وبالأوضاع والمهمات التي جابهتها من جهة أخرى. غير أن الوضع سيتغير بعد الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية ، بنشوء معسكر الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية والوسطى، وبانتصار الثورات: الصينية والڤـياتنامية، والكورية، والكوبية وغيرها.. فـتحولت الاشتراكية إلى نظام عالمي بقيادة الإتحاد السوفـييتي، دخل في مواجهة شاملة مع دول المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة ، مواجهة انتهت بسقوط الإتحاد السوفـييتي وانهيار الاشتراكية في أوروبا خلال نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي. فـفـتحـت بذلك الطريق أمام تمدد الرأسمالية في العالم باسم "العولمة"، وانطلقت أمـريكا من عقالها،  للهيمنة عليه وتنصيب نفسها حاكماً مطلقاً له ، باسم تعميم الديموقراطية وحقوق الإنسان...
تختلف الآراء والتقديرات في تقييم الثورة الاشتراكية الروسية ومصائرها.. لكنها تتفق على الأهمية البالغة لها من حيث المنجزات الكبيرة والرائدة التي حقـقـتـها بنقلها روسيا من بلد متخلف تابع، إلى دولة عظمى متقدمة، قامت بدور كبير على المستوى العالمي، ومـدت يد العون للعديد من دول العالم، وبضمنها دول عـربية، بأشكال عديدة من المساعـدات...  لكن، وبقدر عظمة إنجازاتها وأدوارها، كانت عظمة سقوطها وسقوط الأنظمة التي بنتها... وإذا ما صح القول بأن الروس قد افـتتحوا القرن العشرين بثورتهم، فإنه يصح أيضاً القول بأنهم إختـتـموه بتهاوي دولتهم...
وقد قيل الكثير في أسباب السقوط المباشرة: ضغط المواجهة وسباق التسلح مع أمـريكا الذي استنزف موارد الدولة، الركود الاقتصادي الذي لم يعد قادراً على تلبية حاجات السكان - خصوصاً خلال حقبة بريجينيف - والحرب الخاسرة في أفغانستان...
وقيل الكثير أيضاً عن الأسباب البعيدة والعميقة التي يرجعها البعض إلى الثورة نفسها التي سعـت إلى ما يعرف بـ"حرق المراحل" قافزة عن حقائق الوضع الروسي المتخلف الذي لم يكن مهيئاً للاشتراكية التي تتطلب تطوراً مادياً تكنيكياً عالياً... مما وسم لينين والبلاشفة بطابع "إرادوي" ودفعهم للجوء للعنف البالغ لفرض وبناء نظامهم... فساروا من ثم في الطريق الذي سار عليه "اليعاقبة" (الجناح الثوري في الثورة الفرنسية 1789) وواجهوا أقـدارهم، خصوصاً بعد وفاة لينين عام 1924 وتولي جوزف ستالين القيادة ، ومركزته للسلطات بين يديه وتصفية معارضيه.
والثورة التي قدمت للكادحين والمنتجين العدالة الاقتصادية والاجتماعية، حرمتهم من الحريات... وبدل شعار "كل السلطة للسوفـييت" الذي نادت به، حلت سلطة "الحزب الشيوعي في روسيا"، وحلت سلطة القيادة على الحزب، وسلطة القائد الكليّة على القيادة التي صارت البديل عن "دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين". والدولة، التي كان عليها أن "تضمحل" حسب تنظير لينين في "الدولة والثورة" إلى أدنى حد بعد إنجاز مهمتها في سحق أعدائها، تراكمت وتضخمت لتتحول إلى جهاز هائل من الإداريين والموظفين والعسكريين والأمنيين، جثم على صدر المنتجين من العمال والفلاحين والمبدعين، فضيق أنفاسهم واستولى على الحصة الأكبر من الإنتاج.
ويرى البعض في قمع احتجاج بحارة "كرونشتادت" الثوريين عام 1921، مؤشراً مبكراً على التطور اللاحق لسلطة لا تقبل حتى النقد الداخلي.  وفي حين انتقد القوميون الروس الثورة الاشتراكية من زاوية عملها على "أوربة" روسيا، مما قادها إلى الاغتراب عن هويتها وشخصيتها الحضارية الخاصة (السلافية - الأرثوذكسية)، فإن أبناء وبنات القـوميات غير الروسية، واتباع الديانات غير المسيحية والأرثوذكسية، الذين عانوا من الظلم القيصري وقاوموه، وبالرغم مما قدمته لهم الثورة من مكاسب مادية وتعليمية وثقافية، فقد ظل الكثير منهم يتطلع إلى نيل الحرية والاستقلال، خصوصاً الشعوب التي جرى احتلالها وضمها وإخضاعها بالقوة في العهود القيصرية.
لكن كل هذه الملاحظات والانتقادات، برغم أهميتها، لا تكفي ، في رأيي الـمـواضـع ، لتفسير سقوط دولة عظمى كالاتحاد السوفـييتي، ودول أوروبا الاشتراكية، سقوطاً غير مسبوق في تاريخ الإمبراطوريات والدول العظمى التي كانت "تنحلُّ" شيئاً فشيئاً، ثم تسقط أخيراً.  قد تصلح هذه الانتقادات لتبرير ما جرى لاحقاً، لكنها لا تسعفـنا في تفسيره... فكثير من الانتقادات، وربما أكثر منها، يمكن توجيهه لدول قائمة شهدنا ، وقد نشهد تراجعاً وتقهقراً لها، لكنها لم تسقط دفعة واحدة (من تلقاء ذاتها) أي: دون تحطيم خارجي عنيف.
وإذا ما عـلـل البعض سقوط الأنظمة الاشتراكية ، أو "الديمقراطيات الشعبية" ، في أوروبا الشرقية، بكونها قد فُرضت على بلدانها بقوة الجيش السوفـييتي ، فإن هذا لا ينطبق على النظام السوفـييتي في روسيا الذي بنته ثورة داخلية أصيلة قام بها أناس مؤمنون بأفكارهم وضحوا بالكثير لأجلها، تماماً كالثورات الصينية والفـيتنامية والكورية والكوبية التي لا زالت أنظمتها قائمة بذاتها دونما مساندة خارجية.  وهنا أود أن أتقدم بتصور لما أظن أنها الأسباب في "تهاوي" الإتحاد السـوفـيـيـتي.. مع التأكيد مسبقاً على أنها مجرد مقاربة اجتهادية تستدعي نقاشاً...
السبب المباشر هو فقدان القناعة والإيمان لدى قادة الإتحاد السـوفـيـيـتي بنظامهم، وجمودهم العقائدي الذي منعهم من إيجاد وتوليد الحلول المبتكرة للأزمات المختلفة.. ولهذا العامل - آراء القادة وقراراتهم ومواقفهم - الدور الحاسم في دولة ذات بنية شديدة المركزية وتسيطر على كل جوانب الحياة، خصوصاً مع انعدام المبادرة لدى الحزب وأجهزة الدولة والمجتمع ، واعتيادهم على تلقي الأوامر وتنفيذها. وقد ضاعـف من أهمية وفاعلية هذا العامل (الذاتي)، العامل الموضوعي الأساس المتمثل في غياب الحرية لدى الحزب، والدولة، والمجتمع، وهو الوضع الذي خلق "إغـتراباً" عميقاً لدى الجميع تجاه وجودهم ، تجلى في "لامبالاة" سائدة، وأنماط سلوك آلية خنقت الروح الحية في ظل نظام "أوامري" يتم فيه كل شيء من "الأعلى".
في وضع كهذا، كان طبيعياً أن يتفكك ويتداعى "الأدنى" تلقائياً عندما تفكك وتداعى "الأعلى".. وتضافر هذان العاملان لينتجا الانهيار الذي شهدناه.  لم يكن الإنهيار ، بالشكل الذي تم به ، محتوماً، كما ردد البعض فيما بعد، فقد كان لدى الإتحاد السـوفـيـيـتي وقادته خيارات وحلول أخرى فيما لو توفرت الإرادة والاقتناع... فعلى الصعيد الاقتصادي، كان بإمكانهم تنشيط الحياة الاقتصادية وزيادة الإنتاجية، بإطلاق سياسة شبيهة بتلك التي أطلقها لينين لمواجهة المجاعة عام 1921، وعرفت باسم "السياسة الاقتصادية الجديدة "، وكان بامكان الدولة السوفـييتية أن تحتفظ بملكية القطاعات الاقتصادية المهمة، فيما تفسح للمواطنين المجال للعمل ، خاصة في القطاعات الخدمية التي كانت تعاني من تخلف كبير.. وهي السياسة التي طبقتها الصين ما بعد ماو كما نعرف.
وكان بإمكانهم أيضاً أن ينشطوا الحياة الداخلية للحزب الشيوعي ذي الأعـداد الهائلة، وأن يسمحوا حتى بالحريات العامة والتعددية في إطار النظام الذي توطد على مر السنين وصار قادراً على حماية نفسه من التهديد. وكان بإمكانهم أن يقـلصوا من حجم الدولة الكلي الهائل الذي ابتلع معظم الموارد، والتركيز على بناء نموذج متميز عن الديموقراطية الرأسمالية النخبوية، بنموذج تدير فيه السوفـييتات (المجالس الشعبية المنتخبة) حقاً وفعلاً: الدولة والمجتمع والاقتصاد،  ولا يلغي الحريات باسم "العدالة" ،كما تفعل الديمقراطيات الرأسمالية التي تمارس الاستغلال والنهب باسم "الحرية".
وفيما يخص الأمم غير الروسية التي حكموها، كان بوسعهم تنفيذ ما نادوا به أيام النضال ضد القيصرية والإمبريالية والاستعمار: "حق الأمم في تقـرير مصيرها" ،وهو ما كان سيفتح الباب أمام قيام علاقات صداقة وتعاون معها قائمة على المنفعة المتبادلة وليس الإكراه.  وعلى الصعيد الدولي كان بوسعهم أن يهبطوا عن شجرة الأوهام العالية التي صعدوا إليها، بالتنافس المضني مع الولايات المتحدة والدول الرأسمالية القوية والثرية، والسباق معها على قيادة العالم... وهو ما أوقعهم في "مساومات وتسويات" روعـيت فيها حسابات ومصالح "الدولة السوفـييتية" على حسابات المبادئ ومصالح الشعوب. ومع التقدير الكبير للمساعدات المختلفة التي قدموها، فإنه لم يكن من شأنهم أن ينوبوا عن الأمم والطبقات المضطهدة في اختيار مصائرها، وتنصيب أنفسهم أوصياء عليها... وهو ما ألحق أضراراً بها وبهم.
كل ما سبق، كان بالإمكان عمله، فيما لو توفر لدى القيادة السوفـييتية الاعتقاد القوي بصحة نظامها، ولو توفر التصميم اللازم على حمايته، مع ما يتطلبه هذا من تغييرات وتطويرات، وأيضاً "تراجعات" ضرورية.. فـ"خطوة إلى الوراء" ، وحتى خطوات، خير من الإنهيار المدوي كبيتٍ من ورق... لكن "لو" حرف امتناعٍ لوجودٍ ، كما يقال في اللغة العربية.. وأقدار الدول والأمم لا تتعلق بـ "لو" بالتأكيد... فمسارات التاريخ  ـ كما يعلمنا استقراؤه - لا تمليها طاقات واجتهادات الإرادة والعـل الواعي دائماً...  ولئن تداعى الاتحاد السوفـييتي والمعسكر الاشتراكي، فإن الفكر الاشتراكي، من حيث هو مشروع ورؤية بديلة لمظالم وجور الرأسمالية والامبريالية، لم يمت وإن إنحسر وتراجع كثيراً..  وبالتأكيد فإن مقاومة وثورات المستضعفين في الأرض وتطلعاتهم وأشواقهم إلى الحرية والعدالة ستظل مستمرة حتى تنتصر...
د. عبد القادر حسين ياسين