الـتـَرَحـُّم عـلى أيـَّام مـَضـَـت
د. عبد القادر حسين ياسين
 نتحدث أحياناً عن اختراعات الإنسان المذهلة عبر العصور، وننسى دائماً أن الاختراع الوحيد الأكبر الذي جعل تقدم البشرية ممكناً بو
ضع تراكم المعرفة تحت تصرف الإنسان في كل لحظة، هو هذا الذي لعله أرخص الاختراعات كلها كلفة، و أقربها إلى اليد، وأغزرها فائدة : الكتاب.
 
وإذا كانت طفرة الإنسان النوعية الأولى في اتجاه الحضارة هي اختراع الكتابة، على الطين أو على ورق البردى، فإن طفرته النوعية الثانية كانت اختراع الكتاب المطبوع بشكله الحالي. فقد قضى الكتاب على احتكار القـلة للمعرفة. ويسّرها لكل فرد من أفراد المجتمع، وفتح آفاق الدنيا أمام كل ذهن، وأغرى الإنسان بالتعمق في أسرار الطبيعية، والكينونة، مضيفاً الكشف، والرأي إلى الرأي، حتى بات في مقدور الإنسان أن يرقى بعـلمه عن طريق الكتاب إلى مصاف من كان يعتبرهم، في عصوره البدائية، القوى التي تتحكم بمصيره.
 
ولكننا، وقد غـدا الكتاب في حياتنا اليومية بأهمية الماء والهواء والغذاء، جعلنا نأخذه كأمر مُسلم به، فننسى خطورته، وكثيراً ما نغفل عنه، كما لو أننا نغفل عن الهواء الذي نتنفس، ونعامله وكأنه أقل شأناً من "شيشين" من الكباب ، أو نصف دجاجة مشوية على الفـحـم .
 
وقد رأيت حوانيت كانت تبيع الكتب، فخسر أصحابها ما استثمروه فيها من نقود، أو لم يكسبوا بالمقادير التي توقعوا، فحولوها إلى مطاعم سندويش وفلافـل ... وإذا النقود تدفق عليهم دفق السيول.
وكم تمنيت لو أنني أرى يوماً ما هو عكس ذلك، فأجد صاحب مطعم، وقد أثرى من إشباع بطون الناس، يحول المطعم إلى مكتبة، أملا في إشباع عـقولهم...
 
من أروع مـا قرأت للروائي الاسـتوني Yorio Tahtilla  يوريو تـاهـتيـلا قصة رجل إشترى بمبلغ قليل من المال بقعة نائية على كـتـف عال لتلة صخرية، مشرفة على واد كثير التعاريج والشعاب، وبنى عليها فـندقاً جميلاً يجتذب من الناس أولئك الذين يريدون الاختلاء بالطبيعـة البعيدة عن ضوضاء المدن، طلباً للتعمق في ذواتهم والتقرب من ربهم، مقابل أجور معقولة...وكان ذلك جزءاً من خطة وضعها لنفسه. فهو ينفق معظم ربحه على كتب يشتريها بالمئات ويستوردها من كل بلد، ويحفظها في الصناديق في إحدى غرف هذا الفندق... وفي بضع سنوات تجمع لديه من المال ما يكفـيه أخيراً لأن "يصفي" الفندق، ويحوله إلى مجموعة صوامع، رتب فيها الكتب على رفوف لا تنتهي، وجعلها داراً مفتوحة لكل من يريد أن يقرأ ويكتب ، وهو مشرف على مجالي الصخر والشجر، شريطة أن ينتهي في ما يكتب إلى مؤلف يزيد من حسن الإنسان بروعة الوجود...
 
عندما قرأت القصة قبل عشر سنوات  قلت في نفسي أنهـا نوع من الخيال المستحيل ...وقبل أربع سنوات كنت في زيارة عمل للولايات المتـحـدة الأمريكية ، واكتشفت ذات يوم  أن في "برية" من أجمل ما خلق الله من براري كاليفورنيا، قرب مدينة سـاكرمنتو ، على رأس رابية أغرقت الطبيعة عليها هـباتها، مؤسسة  يقيم فيها الباحثون، يأكلون ويشربون لوجه الله، منصرفين بكامل حريتهم إلى الكتب الكثيرة التي يقرأونها وتلك التي يكتبونها. 
كثيراً ما يبادرني زائر يراني في شقتي محاطاً بالكتب، فيسألني بشيء من الدهشة : "هل قرأت هذه الكتب كلها؟!" ... وقد تعلمت مع الزمن أن أجيب :"لقد أطلعت عليها كلها...!"  فالكتاب ضربٌ من العشق، والعشق الواحد هنا ينافس العشق الآخر، مطالباً بوقتك وعنايتك، ولكن رد فعل العاشق مع الكتاب يتخذ أشكالاً متفاوتة، والمرء يتذكر مقولة  Francis Bacon فرنسيس بيكون المشهورة :
"بعض الكتب وُجـد لكيما يذاق، وبعضها لكيما يبتلع، والبعض القليل لكيما يمضغ ويهضم ـ ليتمثله المرء في كيانه إلى الأبد".
 
وفي كتابه القيـِّم  Seven Pillars of Wisd"أعـمـدة الحكمـة السـبعـة"  يروي الكاتب البريطاني Thomas Edward Lawrence ثوماس إدوارد لورانس عن أيام تلمذته وهو طـالب في جامعـة إكسفورد العريقـة ، من أن مكتبة كليته كانت تحوي مائة ألف كتاب، وفي ثلاث سنوات من الدراسة "تعرف عليها جميعاً".
 
هذا "التعرف" على الكتاب هو أساس الكثير من المعـرفة، وهو الذي يدلنا على الاتجاه الذي علينا أن نسير فيه كلما طلبنا المزيد من أي علوّ أو فكر أو أدب. لنا أن "نذوق" الكتاب، أو "نبتلع" بعضه، أو "نمضغه"  و "نهضمه" على رسلنا- وفي كل الأحوال نحن إنما نعيش عشقاً لعله هو وحده، من دون ضروب العشق، لا تكتفي منه النفس، ولا يمله العقل أو الحس.
 كلما أقيم معرض للكتاب، تمنيت لو أن هناك معارض دائمة للكتب، وليس معارض تقام لمجرد أسبوعين أو ثلاثة، وأنا أعلم أن المعرض من طبيعته أن يكون مناسبة حولية. ومحددة بزمن قصير، لكي تبقى الإثارة في أقصاها، والإقبال على أحره.
 
بـيـدَ أن الرغبة في التنقيب بين الكتب وهي في أكداس وتنويع، وقد اختلط حديثها في قديمها، زاهيها في قاتمها، معلومها في مجهولها، نادرها في مألوفها، رغبة لا يسهل إرضاؤها في أيام، وهي الرغبة التي كانت تجد متنفساً لها على امتداد السنة حين كانت هناك أسواق تكدس فيها الكتب المستعملة والمخزونة منذ القدم على مصاطب تمتد مع دكاكين الوراقين ..
 
كانت "سوق السراي" في بغداد ، وشارع "الأزبكيـة"  في القـاهرة "مرتعاً" جميلاً من هذا الطراز في يوم مضى، وكذلك كانت أسواق مثلها في مدن العالم الكبرى، حيث تشتهر أرصفة معينة بما يتراكم تحت سقائفها من كتب نادرة، وصور، ومخطوطات، مما يتسرب إليها بين حين وآخر من مكتبات مات أصحابها، أو أفلسوا، أو ضجروا، أو أرادوا استرجاع شيء مما أنفقوه على ولههم القديم بالكـتب.
 
ومن اشهرها مصاطب الضفة اليسرى في "الحي اللاتينـي" في بـاريس، وأنا لن أنسى المصاطب التي كانت تنصب في شارع Charing Cross Road  في لـنـدن، أيام دراستي هناك، وقد تزاحمت عليها كتب نادرة ونفيسة من مطبوعات القرن الماضي ، أو كتب فنية ذات طباعة خاصة، أو مجموعات كاملة لهذا الكاتب أو ذاك، تباع جميعاً بأسعار زهيدة، ويبدو أن بائعها يعرفها واحداً واحداً وهو يغريك بها، رغم أن الذي يهمه في نهاية المطاف هو الجنيهـات القليلة التي سينالها كسباً حلالاً من تجارته المشروعة.
 
وهذا يعود بذاكرتي إلى مقال ممتع قرأته قبل عـدة سنوات للناقد الإنجليزي William Hazlitt وليم هازلت، يصف فيه وقوف عشاق الكتب عند هذه المصاطب، وهم يقلبون الصفحات، ويطيلون الوقوف ليقرأوا بمتعة وتلذذ فقرة هنا وفقرة هناك في كتب لا يملكونها. ويصفهم بأنهم "لصوص المعرفة"، ويقول : "إن سرقة المعرفة هي السرقة المشروعة الوحيدة في حياة المجتمع، وما أجملها طعماً من أصحاب المكتبات تشجيعاً للزبائن على الشراء"!
 
كانوا يومئذ، كما كنا إلى عهد قريب، أناساً يتريضون على مهل، ويتنزهون سيراً على الأقدام، ويتوقفون عندما يحلو لهم التوقف، والمكتبات ومصاطب الكتب محطات استراحة للجسد وإنعاش للذهن.
 
وكانوا يسخون بالوقت على أنفسهم إذا تحدثوا، وقد جعلوا من الحديث فناً له أصوله وأساليبه في الاسترسال، ويحققون به متعة فكرية واجتماعية معاً، كما يسخون بالوقت على أنفسهم إذا قرأوا.
أما اليوم، فإننا أناس كـُتبتْ عليهم السرعة في كل شيء، لاسيما في الذهاب من مكان إلى آخر، وما عدنا نسير على الأقدام للتريض أو الحديث... إنما نحن نركب السيارة أينما كنا لنبلغ منازلنا بها بأقصى العجلة، لكيما نستلقي بسرعة على مؤخراتنا أمام شاشة التلفزيون، ونسلم قوانا الفكرية رهينة لآله نتوقع منها إثارة ما، ولا تعطينا إلا المزيد من التـقـوقع الذي لا يؤدي إلا إلى الخيبة والملل. أما الكتاب، فقد راح ضحية التلفزيون، عندنا كما عند الغير، ولكن عندنا أكثر مما عند الغير.
 
وهذه ظاهرة تستحق التأمل، فالتلفزيون في معظم الدول الأوروبيـة يتمتع بقنوات أكثر عدداً مما لدينا، وبرامجه أشد تنويعاً، وأعمق تشويقاً، وقد يستمر البث طوال ساعات النهار والليل، ومع ذلك فإن الكتب في كل دولة هناك تصدر بالآلاف كل سنةويباع العديد منها بعشرات آلاف النسخ وربما بمئات الآلاف، وترى الرجال والنساء، كباراً وصغاراً، في الحافلات وعربات المترو منهمكين في قراءة الكتب ـ  وهم الذين أصلاً اخترعوا "كتب الجيب" لكي توضع في جيوبهم عندما يخرجون لغرض ما، فتبقى ميسرة للرجوع إليها في كل لحظة وفي كل مكان.. وهم أيضاً يتذمرون اليوم من سطوة التلفزيون على أذهان الناس، ولكنهم ما زالوا متعلقين بالكتاب، مهما قلت نسبة مشتري الكتب عما كانت عليه فيما مضى، فيما يقولون.
 
وهذا كله يدفعني إلى الترحم على أيام مضت ما كنت أخرج فيها من البيت إلا وفي جيبي كتاب. أقرأ ماشياً، وأقرأ راكباً، وأقرأ منتظراً، وأقرأ أينما وقفت أو جلست.. ومع هذا فما أظنني عشت لحظة من حياتي، حلوها ومرها، إلا بشهية وغزارة. وكان الكتاب، بشكل ما، هو دوماً بعض المحرّك، إن لم يكن المحرّك الأكبر، في ذلك كله، أو في معظمه ...
د. عبد القادر حسين ياسين