الحـُـسَـيـن بن مَـنـْـصور الحـَلاج : صـَوت مـَن لا صَـوت لـهـم // الدكتور عـبـدالقادر حسين ياسين
2019-09-28

الحـُـسَـيـن بن مَـنـْـصور الحـَلاج :
صـَوت مـَن لا صَـوت لـهـم


الدكتور عـبـدالقادر حسين ياسين



لم يختلف الناس في آرائهم حول رجل كاختلافهم عليه...
فعشاقه يعتبرونه قطب المعرفة بلغ درجة عليا ،
لم يبلغها غيره في مدارج العرفان...
أدرك الحقيقة فكان الحقيقة...


وأعداؤه أقروا بجنونه وألصقوا به صفة الساحر الآثم الـدَجـَّـال،
الذي يستهوي العامة بحديثه وأشعاره.

عـنه قال فـريد الدين العـَـطـَّار:
"...بأية حماسة فـيضية وحمية وجـدانية ،
قامر هذا العاشق برأسه ودفعه مهراً لـمـعـتـقـده ،
كيما يظفـر بجوهـرة الجمال الإلهي..."

وعـنه أيضا قال طه عـبد الباقي:
"منذ أكثر من ألف عام ، تركز سمع الدنيا وبصرها ،
على الخاتمة الفاجعة لأعـجب صراع شهده تاريخ الفكر الإسلامي.."

أما هـو فـيـقـول عن نـفــسـه:
"أنا من أهـوى ، ومن أهـوى أنا
نحـنُ روحان حـلـلـنـا بدنا...
فإذا أبـصرتـني أبـصـرته،
وإذا أبـصـرته أبـصـرتنا..."

لكنه يبقى في كل الأحوال أحد الواقـفـين على قمة الأيام..
كلما مرّ ذكره انحنى له الزمن مذكراً بمقـتله الشنيع..
ذلك هو الحسين بن منصور الحلاج.

كان الشهـيـد الشاهـد...
الثائر على فساد الساسة ورياء المنافقين...
كان قائد جيش الـفـقـراء ، وصوت من لا صوت لهم...
حتى إذا ما عـظم أمره ، وتزاحم حوله الأنصار والمؤيدون ،
كان الاستشهاد العظيم..

"عجـبـت منك ومني ، يا مـُـنـية المـُـتـــمـني
أدنـيـتـني منـك حتى ، ظنـنـت أنك أني
وغـبـت في الوجـد حتى ، أغـنـيـتـني بك عـني
يا نعـمـتي في حياتي ، وراحتي بعـد دفـني .."

منذ أكثر من ألف عام ، تركز سمع الدنيا وبصرها ،
على الخاتمة الفاجعة لأعجب صراع شهده تاريخ الفكر،
وتاريخ الحياة الروحية فى الإسلام...
ولقد غامرت الخلافة العباسية بسمعـتها ومكانتها ،
فألـقـت من أعـلى مآذن بغداد، برماد جـثة هـذا الرجـل،
في مشهـد درامي سـجـَّـلـتـه عـدسة التاريخ ،
وحملت أجنحة الهـواء ، ذرّات رماد الشهيد إلى الآفاق.

رأى خاتمته فـوصفها قـبـل أن تحدث وحدثت ،
مثلما رآها في "اللوح الذي لا يـُرى..."
لم يكن الحلاج عاشـقـاً يهـيـم على وجهه..
ولم يكن بالواقف على ساق واحدة في الخلاء...
بل كان زعـيـماً سـيـاسـيـاً وصوتاً قـوياً ،لا يخشى سطوة سلطان جائر،
يجاهـر بالحق بعـد أن آمن بأنه هـو الحـَقَ ...
ألـيـس هو القائل:
"...إن الحق لن يقبل من الناس عباداتهم ،
اذا اختلفت سياساتهم،
وفسدت أخلاقهم ، ثم استكانوا للبغاء والـفـساد.. "

كان الحلاج صوفياً...لكنه لم يكن كغيره ممن تلـبـسـوا بالحرقة ،
وانصرفوا للخالق وابتعـدوا عـن المخلوق..
لقد عابَ الحلاج على السطامي زهـده ، كما انـتـقـد الجـنـيـد في سـلـبـيـتـه...
ثار هذا الصوفي على الزهـد الذي لا يقر بحق المخلوق فى الحياة الدنيا،
والانصراف كلياً إلى عبادة الخالق منشغلين بذكره ،
عـن واجباتهم تجاه الضعـفاء من مخلوقاته...


جمع الحسين بن منصور بين الدين في تجلياته ، والدنيا في مباهجها ،
وارتفع الى المعراج المقـدس ، كما نزل إلى حيث البائسين المضطهدين،
فكان صوتهم وكلمتهم التي وحـَّدت حـزب الـفـقـراء،
ودفـعــته إلى هـزّ عـرش الخلافة العباسية ، لولا أن تدارك الخليفة الأمر،
وأسرع بإلقاء القـبـض على الحلاج وتـقـديـمه للمحاكمة..

وكان يوم المحاكمة.
سأل القاضي بن سريع الحـلاج:
l"هل أنت الله؟!"
♦"حاشا أن يكون الحسين ذلك، فهو عـبد من عـباده ،
يؤمن بكتبه ورسله واليوم الآخر ،
ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله."
l"لكنك جاهـرت بالكفـر وناديت بالعـصيان.."
♦"الكفـر أن تقـر لسلطان ظالم بظلمه ، أما العصيان فأن تخفي كلمة الحق أمام سلطان جائر.."
l"ومن وضعـك ميزاناً بين الحاكم والرعـية..؟"
♦"الحق الذي أنا..."
l"إلحاد بـيـِّـن وضلال مـبـيـن.."
♦"الحسين يـنـشـد الخير ، ويدعـو الى الحق ولا يـُـقـر الظلم.."
l"اعـتـذر يا حـسين واطلب العـفـو..!"
♦"يا ظاهـراً باطناً تجلى بكل شيء ، بكل شيء
يا جملة الكل لست غـيري ، فما آعتذاري اذن اليّ..؟!"

كان الحكم جاهـزاً:
القـطع والحرق ، وذرّ رماد الجـثة من أعـلى مئذنة ببغداد...
حتى لا يحتوى قـبـر جـسـد الشهـيـد،
فـيـصبح مزاراً للمقهورين ، ورمز التحدي لـلـسلطة..

وتـقــدم السيـَّاف...فـقـطـع الـيـديـن ثم الـرجـلـيـن...
قـال الراوي لـمـقـتـل الحلاج:
"...ولما أخـذ وجه الحلاج فى الاصفـرار ،
لكثرة ما نـزف من دمـه ،
مرّر بـبـقـية ذراعـه اليمنى على وجـهـه ،
فـخـضـبه بالـدَّم حتى يـخـفى ذبوله واصـفـراره..
وقبل أن يقـطع السيـَّف لسان الحـسـيـن ،
رفـع الشهـيد بصره ، وجال فى اللامـنـتـهي...
ومع انتهاء المؤذن من الدعـوة لصلاة العـصر...
جـَمـَعَ الحسين بقايا صوت وصاح :
"ركعـتان فى العـشـق ، لا يصح وضؤوهما الا بالدم .."
ومع الـفـراغ مـن الـصلاة ، أغـمض الشهـيـد عـيـنـيـه وأسـلمَ الروح مـُـبـتـسـما...
لـُفـَّـت بقايا الجـثة ، وأحرقت ، ومن أعـلى منارة في بغـداد ذرّ الرماد."



كان ذلك بعد غـروب يوم السادس والعشرين من آذار من عام 922 للميلاد..
لقد أسرف خصوم الحلاج في بغـضـه وتجـريحه.
وأسرفـت الخلافة العباسية في اضطهـاده وتعـذيبه ،
وأسرفـت إسرافاً جنونياً لحجـب سيرته عن حياة العامة ،
وتـشـويه ثرائه الفكري ورؤاه الفـلـسـفـية ،
وفي مقابل هذا أسرف أنصاره في حـبـّه وتـقـديسه ،
وفي الحديث عـن أسراره وتجلياته ، حديث وصل حـد الإعجاز والمعجزات.

قال الراوي:
"وفى فجر يوم الاربعـين لاستشهاد الحسين بن منصور الحلاج ،
سمع أهالي بغـداد صوته من المئذنة التي ذرّ منها رماد جسده ،
وهو ينادي حيَّ عـلى الصلاة."

وانطلق الخيال ليكمل الأسطورة ،
ويوشى هذه الصورة العجيبة ،
ويريق عليها مزيدا من الجمال والغموض،
ثم أخذ يشيع حولها مشاهـد متنافـرة تتعاقـب وتـتـواكب ،
حافلة بأروع ما في الدنيا من عظمة الروح والإيمان ،
وبأقـسى ما في كتاب الظلال من الحاد ومروق..

في كتاب "شخـصيات قـلـقـة في الإسـلام" يـقـول الـدكـتـور عـبـد الرحـمـن بـدوي:
"... ويبقى الحلاج أحد كبار الفـلاسفـة ،
الذين أثاروا جدلا متواصلا حتى اليوم...
وما تزال أقـواله ذات طابع حضاري عـمـيـق الأثـر ،
وأكثر صدقـاً من الناحية الاجتماعـية..."

ذلـك هو الحلاج ،
الشهيد الحيّ الذي قـدَّم للدنيا صورة الولاية الكبرى...
وقد بلغـت أوجهها في تضحية مليئة بالرجولة...مليئة بالإلهام.
"وما شـرب العـشاق إلا بـقـيـتي
وما وردوا في الحب إلا على وردي"

ذلك هو الحق...
وذلك هو النبأ العظيم الذي فيه يختـلـفـون.. .