بحـث
من أنا ؟
حقوقية، كاتبة، ناشطة في شؤون بلادي وشؤون المرأة، لي عدة منشورات ورقية وإلكترونية
المواضيع الأخيرة
كتب ميساء البشيتي الإلكترونية
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
وصية الدم تستغيث بأن تقاوم.. د. عبد القادر ياسين
صفحة 1 من اصل 1
وصية الدم تستغيث بأن تقاوم.. د. عبد القادر ياسين
وصـيـَّـة الـدَّم تـسـتـغـيث بأن نقاوم
د. عبد القادر حسين ياسين
31/10/2019
أعادت مذبحة صبرا وشاتيلا إلى الأذهان جريمة أخرى مشابهة ،
كان قد ارتكبها سفاح صهيوني من الجيل السابق على جيل ارئيل شارون ورافائيل ايتان،
يدعى العميد يششخار شدمي ضد قرية كفر قاسم الفلسطينية.
ففي التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1956 ،
كانت قرية كفر قاسم تسبح في بحر من دماء 49 شهيدا فلسطينيا ،
في مذبحة رهيبة تقع مسؤوليتها الكاملة على عاتق المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ،
وتشكل وصمة عار في تاريخ الكيان الصهيوني .
وعندما شعرت رئاسة هيئة الأركان الإسرائيلية ،
بفظاعة ما ارتكبته في كفر قاسم فرضت رقابة صارمة ،
على أخبار المذبحة البشعة إلى أن نشرت صحيفة " دافار" الصهيونية ،
في السابع من كانون أول عام 1956 ، قصيدة للشاعر نافان الترمان ،
ينفس فيها عن بعض الشعور بالقلق والخزي الذي اختلج في صدور ،
من عرفوا الأبعاد الحقيقية لهذه المذبحة الرهيبة، فأنشد:-
"وانتصبت عارية أمام ناظريك... ،
هل راعتك تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين الحقيقة والصدى...،
بعد أن تبينت لك تفاصيل هذا العمل الوحشي اللااخلاقي ،
الذي يعجز القلم عن كتابة تفاصيله ليس بسبب الرقابة المفروضة فحسب... ،
أيقنت أنه لا يجوز لي أن أكتب عن شيء آخر غير هذا العمل الدنيء...،
فلا يمكن أن يقوم مجتمع إنساني حدث فيه كل هذه النذالة والوحشية ،
دون أن تثور في أرجائه رعشة غضب وخزي،
غضب يحمل كل نوازع السخط الإنساني والفردي...
سخط النساء لاغتيال النساء، وسخط الأطفال لاغتيال الأطفال دون مبرر...
"إن من ارتكب هذه الجريمة لم يكن يخضع لقاموس أو عـُرف :
"ليلة منع التجول في إسرائيل... قيل أن رئاسة الأركان قد اهتزت،
وأن أكثر من وزير أمسك رأسه بكلتا يديه فـزعاً...
"ولكنهم، في الوقت نفسه، يسلبوننا الحق في تقصي الحقائق،
ذلك أنه منذ الليلة الأولى التي ارتكبت فيها الجريمة حتى الآن،
والأمر ما زال " قيد البحث"... بينما دم الأبرياء في كفر قاسم ،
يشق الوادي ويضيع في شقوق الأرض الموحلة...
وبدلا من محاسبة المجرم، يفرض الصمت الرهيب على كل شيء...
وهكذا يصبح الإسرائيلي، من رجل الشارع حتى أعضاء الحكومة ،
شركاء في مسؤولية المحافظة على عمل دموي حتى لا يتردد له صدى".
كيف حدث ما حدث ؟.....
بل كيف كان ممكنا أن يحدث ؟...
وماذا يجب علينا عمله حتى لا يتكرر نفس الشيء غـداً ؟...
هل يمكن أن يقوم مجتمع إنساني ،
لا يفزع من مثل هذا الكابوس المزري ؟...
صحيح أن الجريمة ارتكبت عشية الحرب ،
( يقصد العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956) ،
وعلى حافة المسرح وقعت أحداثها... ،
لكنها وقعت في الطرف الآخر من ساحة المعركة...،
على الناحية الأخرى من جبل المناجاة.. جبل الوصايا العشرة"...
وبأبيات هذه القصيدة بدأت خيوط الجريمة البشعة تتسرب الى الصحافة العالمية،
فما هي حقيقة مذبحة كفر قاسم... وما هي تفاصيل الجريمة ،
التي خططت لها رئاسة هيئة الأركان العامة، ونفذتها بكل برودة أعصاب؟
في ذلك اليوم، التاسع والعشرين من تشرين الاول عام 1956 ،
بدأ العميد يششخار شدمي يضع التعليمات التي أصدرها له العميد تسفي تسور،
قائد المنطقة العسكرية الوسطى في الكيان الصهيوني موضع التنفيذ.
لقد أخبره العميد تسور صباح هذا اليوم بأهداف "حملة قادش" ضد مصر،
وطلب إليه اتخاذ كل الترتيبات التي تضمن دعم العدوان الإسرائيلي ضد مصر ،
والمحافظة على الأمن والهدوء في منطقة الحدود المجاورة...
وطلب العميد شدمي أن "تطلق يده، ويعطي كل الصلاحيات ،
لفرض نظام منع التجول ليلا في قرى الأقـليات في المنطقة ".
واقتنع العميد تسور بذلك فمنح شدمي كل ما طلبه من صلاحيات.
وعند الظهيرة طلب العميد شدمي إلى الرائد ملينكي الحضور الى مقر قيادته.
وكلفه بالمهام المطلوبة منه، وشدد على ضرورة فرض منع التجول ،
وبقاء السكان داخل البيوت في كفر قاسم ،
من الساعة الخامسة بعد الظهر حتى الساعة السادسة صباحا.
ثم أكد شدمي أن منع التجول "يجب أن يكون حازماً جداً، وأن يفرض بيد من حديد،
ليس فقط لمنع انتقال المخالفين من العرب ، بل وإطلاق النار عليهم.
وأضاف مبتسماً: "من الأفضل أن نقتل بعض العرب ، من أن نزج بهم في معسكرات الاعتقال، فـنـزيد، بذلك نفقات التحفظ عليهم. إن المجهود الحربي بحاجة إلى كل مليم ".
"فـلـيرحـمهم الله ، أو تـتـخـطـفـهـم الشـيـاطـيـن..."
وتساءل الرائد ملينكي عن مصير اؤلئك الفلاحين ،
الذين قد يعودون من عملهم خارج القرية وهم لا يعلمون بأمر منع التجول هذا...
فأجاب شدمي: " فليرحمهم الله أو تتخطفهم الشياطين... إنني لا أريد عواطف إنسانية أو قيمًا أخلاقية... احتفظ بها لنفسك ".
وعاد ملينكي إلى مركز قيادته، وجمع ضباطه وانهمك معهم ،
في وضع أمر عمليات ضد أهالي تلك القرية الفلسطينية الوادعة.
ونـَـص أمر العمليات على أن "كل عربي يخالف أمر منع التجول ،
تطلق عليه النار لـيـقـتـل في مكانه... "
كما نص أيضا على عدم القيام بأي اعتقالات " توفيرا للنفقات المالية " ،
كما أوضح أمر العمليات الأسلوب الذي سيتم به إخبار السكان بهذا الأمر،
فـنـصَّ على أن يتم إبلاغ مخاتير القرى بأوامر منع التجول ،
في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر ليعلنوها بدورهم على الأهالي بعد ذلك ".
" الموت خير دواء "
وتساءل أحد الجنود: " وماذا نفـعـل بالمصابين الـعرب"؟
فأجابه ملينكي: " لا تـهـتم بذلك... من الأفضل أن لا يكون هـناك جرحى،
فالموت خير دواء لهم "...
وتساءل جندي آخر: " وماذا نفعل بالنساء والأطفال" ؟
فأجاب ملينكي ثانية: " لا تهتم بهم أيضًـاً...
أن حكمهم كحكم الرجال... وليرحمهم الله جميعا "..
ووقع ملينكي أمر العمليات.
ثم خرج الجنود الى القرى لإبلاغ المخاتير .
وكانت عقارب الساعة قد تجاوزت الرابعة والنصف ،
من بعد ظهر الاثنين، التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1956.
وما أن وصل الملازم دهان إلى كفر قاسم حتى حاصر القرية بجنوده ،
وأبلغهم أن وظيفـتهم هي أن "يطلقوا النار على أي عـربي يخالف منع التجول ،
رجلا كان أو امرأة أو طفلا ".
وقـَسـَّم دهان مجموعته إلى عـدة أقسام ضمَّ كل قسم منها 3 ـ 4 جنود،
زودهم بالمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية.
وتمركز كل قسم فوق ربوة تشرف على القرية ومداخلها.
وجاء رجل من أقصى المدينة يجري نحو الملازم دهان....
وتبين أنه مختار القرية... ووقف يلهث وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه ،
ليلفت نظر دهان إلى الكارثة التي تتجمع سحبها فوق القرية الوادعة
"أيها الملازم، ثمة 400 عامل من أبناء القرية يعملون في الحقول والمصانع،
في عسفيا وبتاح تكفا ويافا وغيرها. والساعة الآن تشير إلى الخامسة إلا الثلث... ،
وليس من سبيل إلى إبلاغهم بأمر منع التجول ،ويجب أن يسمح لهم بالمرور إلى بيوتهم ".
وابتسم دهان ابتسامة صفراء... ثم وعد المختار بأنهم سيمرون...،
وانصرف المختار الى بيته والشك يكاد يقتله. وأشارت عقارب الساعة الى الخامسة.
فبدأت طلائع الفلاحين والعمال تظهر في كفر قاسم.
ولم يكن هناك ما يشغل ذهنهم الى دفء البيت ، وحنان الاسرة التي تنتظر.
ودغـدغـتـهم مشاعـر الألفة ودفء الجلوس الى الأهل ،
وقضاء أمسية هنية معهم، الى أن انتبهوا على صوت وابل من الرصاص ،
ينهار عليهم فـيحصدهم حـصداً .
وفي أقل من ساعة (بين الخامسة والسادسة من مساء ذلك اليوم المشؤوم) ،
قـتـلـت العـصابات الصهيونية 49 شهيداً فلسطينياً.
ونـَفـَّـذ دهان أمر العمليات ضد كفر قاسم بحذافيره ،
واستحق بذلك ثناء ملينكي وشدمي ، بل وتقريظ موشيه دايان نفسه .
كان بين التسعة والأربعين شهيدا ثلاثة وأربعون ،
اغـتالهم دهان وعصابته عند مدخل القرية الغربي...
سبعة أولاد وتسع صبايا في عمر الزهور وأربعة عشر شيخا ،
يتجاوز خمسة منهم السادسة والستين من العمر.
لقد كانت جريمتهم أنهم خرجوا لطلب الرزق في الصباح الباكر،
ولن يعودوا إلى بيوتهم قبل أن يفرض موشيه دايان منع التجول في المساء.
أما الزعم بأن أحداً لم يخبر هؤلاء الضحايا بأمر منع التجول،
فهذه سفسطة لا مجال لها..... " فما الضرر من سفـك دماء العـرب " ؟!
مـسـرحـيـة هـزلـيـة
وفي السابع من كانون الأول عام 1956 ،
نشرت قصيدة الشاعر نافان ألـتـرمـان الأنفة الذكر ،في صحيفة " دافار " ،
وعلم الرأي العام العالمي بالمذبحة الرهيبة .
وتوالت ردود الفعل تطالب بالقصاص العادل للسفاحين.
وتحت ضغط الرأي العام أرغمت حكومة العدو ،
على تقديم المجرمين إلى المحكمة.
وكانت المحاكمة أقرب ما تكون إلى مسرحية هـزلية ،استمر عرضها عامين كاملين،
حتى وجدت المحكمة الرائد ملينكي والملازم دهان مذنبين ،
بقتل 49 عربيا ، فحكمت على الأول بالسجن 17 عاما ،
وعلى الثاني 15 عاما. وبرأت المحكمة ساحة القتلة الآخرين .
وعلى الرغم من كل ما صاحب هذا الحكم المخفف من استنكار ،
فقد وجدت فيه محكمة الاستئناف " قسوة يجب تخفيفها ".
فعدلت الحكم الصادر ضد ملينكي الى 14 عاما، وضد دهان الى عشر سنوات،
ثم جاء دور موشيه دايان فخفـض حكم محكمة الاستئناف ،
إلى عشر سنوات لملينكي وثماني سنوات لدهان .
وأدلى رئيس الكيان الصهيوني بدلوه في القضية ،
وانتهز الفرصة ليسهم بنصيبه في التخفيف والتعديل ،
فجعل جزاء السجن خمس سنوات فقط لكل من السفاحين.
ولم تقف هذه المسرحية الهزلية عند هذا الحد،
بل وجدت في " لجنة مراجعة الأحكام " شرذمة أخرى ،
من ذوي البراعة في فنون تخفيف الأحكام ،
إذ أمرت اللجنة بتعديل الحكم على ملينكي ودهان ،
ليصبح قرشاً واحداً فقط غرامة... مع وقف التنفيذ ...
وهكذا، أسدل الستار على مذبحة كفر قاسم،
وسجل التاريخ دم الشهداء الفلسطينيين الذي ،
" روى الوادي ثم ضاع في شقوق الأرض ".
ولم ينسَ الفلسطينيون المقيمون داخل الكيان الصهيوني هذه المجزرة الرهيبة ،
فهم يخلدون ذكرى شهداء كفر قاسم كل عام بالاجتماعات والاضرابات والمظاهرات ،
والإعلان عن الحداد في كثير من القرى الفلسطينية في الجليل والمثلث.
وقد أدت هذه الأعمال دائما إلى مصادمات مع رجال الشرطة ،
وتقديم المشتركين فيها الى المحاكم العسكرية،
حتى أضطر العدو الصهيوني أخيرا إلى أن يغلق مداخل القرية،
في يوم الذكرى لمنع القرى الفلسطينية الأخرى من الدخول إليها ،
للاشتراك في إحياء الذكرى السنوية التي تقام في مقبرة الشهـداء .
وقد استثارت مجزرة كفر قاسم عواطف الشعـراء الفلسطينيين وقرائهم ،
فنظموا فيها القصائد... من ذلك قصيدة لسالم جبران وقصيدتان لسميح القاسم.
ولكن أفضل ما نظم فيها قـصيدة للشاعر الفلسطيني الكبير ،
محمود درويش بعنوان " أزهـار الدم "،
وهي طويلة، وقد جعلها في ستة أناشيد هي: معـني الدم، حـوار تشرين،
الموت مجاناً، الـقـتـيـل رقم 18، الـقـتـيـل رقم 48، وعـيـون الموتى على الأبواب،
وقد جعل محمود درويش عـدد القتلى خمسين لا تسعة وأربعين .
يصف الشاعر القرية الحالمة الوادعة ، ثم كيف حصدت بنادق القوات الإسرائيلية،
الشهداء ويصف ألمه ويدعـو إلى الحقد على الـقـتلة والى المقاومة :
كفر قاسم،
قرية تحلم بالقمح وأزهار البنفسج،
وبأعراس الحمائم
كفر قاسم،
إنني عدت من الموت لاحيا، لأغني ،
فدعيني أستعر صوتي من جرح توهج
وأعينيني على الحقـد الذي يزرع في قلبي عوسج
إنني مندوب جرح لا يساوم
علمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي
وأمشي... ثم أمشي.... وأقاوم
يا كفر قاسم !
لا تدفني موتاك !! خليهم كأعمدة الضياء
خلي دمي المسفوك لافته الطغاة إلى السماء
يا كفر قاسم ! إن أنصاب القبور يد تشد
وتشد للأعماق اغراسي ... واغراس اليتامى اذ تمد
باقون... يا يدك النبيلة، علمينا كيف نشدو
باقون مثل الضوء، والكلمات لا يلوبهما ألم وقيد
يا كفر قاسم! إن أنصاب القبور يد تشد
يا كفر قاسم! لن ننام وفيك مقبرة وليل
ووصية الدم لا تساوم
ووصية الدم تستغيث بأن نقاوم، أن نقاوم !!
د. عبد القادر حسين ياسين
د. عبد القادر حسين ياسين
31/10/2019
أعادت مذبحة صبرا وشاتيلا إلى الأذهان جريمة أخرى مشابهة ،
كان قد ارتكبها سفاح صهيوني من الجيل السابق على جيل ارئيل شارون ورافائيل ايتان،
يدعى العميد يششخار شدمي ضد قرية كفر قاسم الفلسطينية.
ففي التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1956 ،
كانت قرية كفر قاسم تسبح في بحر من دماء 49 شهيدا فلسطينيا ،
في مذبحة رهيبة تقع مسؤوليتها الكاملة على عاتق المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ،
وتشكل وصمة عار في تاريخ الكيان الصهيوني .
وعندما شعرت رئاسة هيئة الأركان الإسرائيلية ،
بفظاعة ما ارتكبته في كفر قاسم فرضت رقابة صارمة ،
على أخبار المذبحة البشعة إلى أن نشرت صحيفة " دافار" الصهيونية ،
في السابع من كانون أول عام 1956 ، قصيدة للشاعر نافان الترمان ،
ينفس فيها عن بعض الشعور بالقلق والخزي الذي اختلج في صدور ،
من عرفوا الأبعاد الحقيقية لهذه المذبحة الرهيبة، فأنشد:-
"وانتصبت عارية أمام ناظريك... ،
هل راعتك تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين الحقيقة والصدى...،
بعد أن تبينت لك تفاصيل هذا العمل الوحشي اللااخلاقي ،
الذي يعجز القلم عن كتابة تفاصيله ليس بسبب الرقابة المفروضة فحسب... ،
أيقنت أنه لا يجوز لي أن أكتب عن شيء آخر غير هذا العمل الدنيء...،
فلا يمكن أن يقوم مجتمع إنساني حدث فيه كل هذه النذالة والوحشية ،
دون أن تثور في أرجائه رعشة غضب وخزي،
غضب يحمل كل نوازع السخط الإنساني والفردي...
سخط النساء لاغتيال النساء، وسخط الأطفال لاغتيال الأطفال دون مبرر...
"إن من ارتكب هذه الجريمة لم يكن يخضع لقاموس أو عـُرف :
"ليلة منع التجول في إسرائيل... قيل أن رئاسة الأركان قد اهتزت،
وأن أكثر من وزير أمسك رأسه بكلتا يديه فـزعاً...
"ولكنهم، في الوقت نفسه، يسلبوننا الحق في تقصي الحقائق،
ذلك أنه منذ الليلة الأولى التي ارتكبت فيها الجريمة حتى الآن،
والأمر ما زال " قيد البحث"... بينما دم الأبرياء في كفر قاسم ،
يشق الوادي ويضيع في شقوق الأرض الموحلة...
وبدلا من محاسبة المجرم، يفرض الصمت الرهيب على كل شيء...
وهكذا يصبح الإسرائيلي، من رجل الشارع حتى أعضاء الحكومة ،
شركاء في مسؤولية المحافظة على عمل دموي حتى لا يتردد له صدى".
كيف حدث ما حدث ؟.....
بل كيف كان ممكنا أن يحدث ؟...
وماذا يجب علينا عمله حتى لا يتكرر نفس الشيء غـداً ؟...
هل يمكن أن يقوم مجتمع إنساني ،
لا يفزع من مثل هذا الكابوس المزري ؟...
صحيح أن الجريمة ارتكبت عشية الحرب ،
( يقصد العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956) ،
وعلى حافة المسرح وقعت أحداثها... ،
لكنها وقعت في الطرف الآخر من ساحة المعركة...،
على الناحية الأخرى من جبل المناجاة.. جبل الوصايا العشرة"...
وبأبيات هذه القصيدة بدأت خيوط الجريمة البشعة تتسرب الى الصحافة العالمية،
فما هي حقيقة مذبحة كفر قاسم... وما هي تفاصيل الجريمة ،
التي خططت لها رئاسة هيئة الأركان العامة، ونفذتها بكل برودة أعصاب؟
في ذلك اليوم، التاسع والعشرين من تشرين الاول عام 1956 ،
بدأ العميد يششخار شدمي يضع التعليمات التي أصدرها له العميد تسفي تسور،
قائد المنطقة العسكرية الوسطى في الكيان الصهيوني موضع التنفيذ.
لقد أخبره العميد تسور صباح هذا اليوم بأهداف "حملة قادش" ضد مصر،
وطلب إليه اتخاذ كل الترتيبات التي تضمن دعم العدوان الإسرائيلي ضد مصر ،
والمحافظة على الأمن والهدوء في منطقة الحدود المجاورة...
وطلب العميد شدمي أن "تطلق يده، ويعطي كل الصلاحيات ،
لفرض نظام منع التجول ليلا في قرى الأقـليات في المنطقة ".
واقتنع العميد تسور بذلك فمنح شدمي كل ما طلبه من صلاحيات.
وعند الظهيرة طلب العميد شدمي إلى الرائد ملينكي الحضور الى مقر قيادته.
وكلفه بالمهام المطلوبة منه، وشدد على ضرورة فرض منع التجول ،
وبقاء السكان داخل البيوت في كفر قاسم ،
من الساعة الخامسة بعد الظهر حتى الساعة السادسة صباحا.
ثم أكد شدمي أن منع التجول "يجب أن يكون حازماً جداً، وأن يفرض بيد من حديد،
ليس فقط لمنع انتقال المخالفين من العرب ، بل وإطلاق النار عليهم.
وأضاف مبتسماً: "من الأفضل أن نقتل بعض العرب ، من أن نزج بهم في معسكرات الاعتقال، فـنـزيد، بذلك نفقات التحفظ عليهم. إن المجهود الحربي بحاجة إلى كل مليم ".
"فـلـيرحـمهم الله ، أو تـتـخـطـفـهـم الشـيـاطـيـن..."
وتساءل الرائد ملينكي عن مصير اؤلئك الفلاحين ،
الذين قد يعودون من عملهم خارج القرية وهم لا يعلمون بأمر منع التجول هذا...
فأجاب شدمي: " فليرحمهم الله أو تتخطفهم الشياطين... إنني لا أريد عواطف إنسانية أو قيمًا أخلاقية... احتفظ بها لنفسك ".
وعاد ملينكي إلى مركز قيادته، وجمع ضباطه وانهمك معهم ،
في وضع أمر عمليات ضد أهالي تلك القرية الفلسطينية الوادعة.
ونـَـص أمر العمليات على أن "كل عربي يخالف أمر منع التجول ،
تطلق عليه النار لـيـقـتـل في مكانه... "
كما نص أيضا على عدم القيام بأي اعتقالات " توفيرا للنفقات المالية " ،
كما أوضح أمر العمليات الأسلوب الذي سيتم به إخبار السكان بهذا الأمر،
فـنـصَّ على أن يتم إبلاغ مخاتير القرى بأوامر منع التجول ،
في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر ليعلنوها بدورهم على الأهالي بعد ذلك ".
" الموت خير دواء "
وتساءل أحد الجنود: " وماذا نفـعـل بالمصابين الـعرب"؟
فأجابه ملينكي: " لا تـهـتم بذلك... من الأفضل أن لا يكون هـناك جرحى،
فالموت خير دواء لهم "...
وتساءل جندي آخر: " وماذا نفعل بالنساء والأطفال" ؟
فأجاب ملينكي ثانية: " لا تهتم بهم أيضًـاً...
أن حكمهم كحكم الرجال... وليرحمهم الله جميعا "..
ووقع ملينكي أمر العمليات.
ثم خرج الجنود الى القرى لإبلاغ المخاتير .
وكانت عقارب الساعة قد تجاوزت الرابعة والنصف ،
من بعد ظهر الاثنين، التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1956.
وما أن وصل الملازم دهان إلى كفر قاسم حتى حاصر القرية بجنوده ،
وأبلغهم أن وظيفـتهم هي أن "يطلقوا النار على أي عـربي يخالف منع التجول ،
رجلا كان أو امرأة أو طفلا ".
وقـَسـَّم دهان مجموعته إلى عـدة أقسام ضمَّ كل قسم منها 3 ـ 4 جنود،
زودهم بالمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية.
وتمركز كل قسم فوق ربوة تشرف على القرية ومداخلها.
وجاء رجل من أقصى المدينة يجري نحو الملازم دهان....
وتبين أنه مختار القرية... ووقف يلهث وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه ،
ليلفت نظر دهان إلى الكارثة التي تتجمع سحبها فوق القرية الوادعة
"أيها الملازم، ثمة 400 عامل من أبناء القرية يعملون في الحقول والمصانع،
في عسفيا وبتاح تكفا ويافا وغيرها. والساعة الآن تشير إلى الخامسة إلا الثلث... ،
وليس من سبيل إلى إبلاغهم بأمر منع التجول ،ويجب أن يسمح لهم بالمرور إلى بيوتهم ".
وابتسم دهان ابتسامة صفراء... ثم وعد المختار بأنهم سيمرون...،
وانصرف المختار الى بيته والشك يكاد يقتله. وأشارت عقارب الساعة الى الخامسة.
فبدأت طلائع الفلاحين والعمال تظهر في كفر قاسم.
ولم يكن هناك ما يشغل ذهنهم الى دفء البيت ، وحنان الاسرة التي تنتظر.
ودغـدغـتـهم مشاعـر الألفة ودفء الجلوس الى الأهل ،
وقضاء أمسية هنية معهم، الى أن انتبهوا على صوت وابل من الرصاص ،
ينهار عليهم فـيحصدهم حـصداً .
وفي أقل من ساعة (بين الخامسة والسادسة من مساء ذلك اليوم المشؤوم) ،
قـتـلـت العـصابات الصهيونية 49 شهيداً فلسطينياً.
ونـَفـَّـذ دهان أمر العمليات ضد كفر قاسم بحذافيره ،
واستحق بذلك ثناء ملينكي وشدمي ، بل وتقريظ موشيه دايان نفسه .
كان بين التسعة والأربعين شهيدا ثلاثة وأربعون ،
اغـتالهم دهان وعصابته عند مدخل القرية الغربي...
سبعة أولاد وتسع صبايا في عمر الزهور وأربعة عشر شيخا ،
يتجاوز خمسة منهم السادسة والستين من العمر.
لقد كانت جريمتهم أنهم خرجوا لطلب الرزق في الصباح الباكر،
ولن يعودوا إلى بيوتهم قبل أن يفرض موشيه دايان منع التجول في المساء.
أما الزعم بأن أحداً لم يخبر هؤلاء الضحايا بأمر منع التجول،
فهذه سفسطة لا مجال لها..... " فما الضرر من سفـك دماء العـرب " ؟!
مـسـرحـيـة هـزلـيـة
وفي السابع من كانون الأول عام 1956 ،
نشرت قصيدة الشاعر نافان ألـتـرمـان الأنفة الذكر ،في صحيفة " دافار " ،
وعلم الرأي العام العالمي بالمذبحة الرهيبة .
وتوالت ردود الفعل تطالب بالقصاص العادل للسفاحين.
وتحت ضغط الرأي العام أرغمت حكومة العدو ،
على تقديم المجرمين إلى المحكمة.
وكانت المحاكمة أقرب ما تكون إلى مسرحية هـزلية ،استمر عرضها عامين كاملين،
حتى وجدت المحكمة الرائد ملينكي والملازم دهان مذنبين ،
بقتل 49 عربيا ، فحكمت على الأول بالسجن 17 عاما ،
وعلى الثاني 15 عاما. وبرأت المحكمة ساحة القتلة الآخرين .
وعلى الرغم من كل ما صاحب هذا الحكم المخفف من استنكار ،
فقد وجدت فيه محكمة الاستئناف " قسوة يجب تخفيفها ".
فعدلت الحكم الصادر ضد ملينكي الى 14 عاما، وضد دهان الى عشر سنوات،
ثم جاء دور موشيه دايان فخفـض حكم محكمة الاستئناف ،
إلى عشر سنوات لملينكي وثماني سنوات لدهان .
وأدلى رئيس الكيان الصهيوني بدلوه في القضية ،
وانتهز الفرصة ليسهم بنصيبه في التخفيف والتعديل ،
فجعل جزاء السجن خمس سنوات فقط لكل من السفاحين.
ولم تقف هذه المسرحية الهزلية عند هذا الحد،
بل وجدت في " لجنة مراجعة الأحكام " شرذمة أخرى ،
من ذوي البراعة في فنون تخفيف الأحكام ،
إذ أمرت اللجنة بتعديل الحكم على ملينكي ودهان ،
ليصبح قرشاً واحداً فقط غرامة... مع وقف التنفيذ ...
وهكذا، أسدل الستار على مذبحة كفر قاسم،
وسجل التاريخ دم الشهداء الفلسطينيين الذي ،
" روى الوادي ثم ضاع في شقوق الأرض ".
ولم ينسَ الفلسطينيون المقيمون داخل الكيان الصهيوني هذه المجزرة الرهيبة ،
فهم يخلدون ذكرى شهداء كفر قاسم كل عام بالاجتماعات والاضرابات والمظاهرات ،
والإعلان عن الحداد في كثير من القرى الفلسطينية في الجليل والمثلث.
وقد أدت هذه الأعمال دائما إلى مصادمات مع رجال الشرطة ،
وتقديم المشتركين فيها الى المحاكم العسكرية،
حتى أضطر العدو الصهيوني أخيرا إلى أن يغلق مداخل القرية،
في يوم الذكرى لمنع القرى الفلسطينية الأخرى من الدخول إليها ،
للاشتراك في إحياء الذكرى السنوية التي تقام في مقبرة الشهـداء .
وقد استثارت مجزرة كفر قاسم عواطف الشعـراء الفلسطينيين وقرائهم ،
فنظموا فيها القصائد... من ذلك قصيدة لسالم جبران وقصيدتان لسميح القاسم.
ولكن أفضل ما نظم فيها قـصيدة للشاعر الفلسطيني الكبير ،
محمود درويش بعنوان " أزهـار الدم "،
وهي طويلة، وقد جعلها في ستة أناشيد هي: معـني الدم، حـوار تشرين،
الموت مجاناً، الـقـتـيـل رقم 18، الـقـتـيـل رقم 48، وعـيـون الموتى على الأبواب،
وقد جعل محمود درويش عـدد القتلى خمسين لا تسعة وأربعين .
يصف الشاعر القرية الحالمة الوادعة ، ثم كيف حصدت بنادق القوات الإسرائيلية،
الشهداء ويصف ألمه ويدعـو إلى الحقد على الـقـتلة والى المقاومة :
كفر قاسم،
قرية تحلم بالقمح وأزهار البنفسج،
وبأعراس الحمائم
كفر قاسم،
إنني عدت من الموت لاحيا، لأغني ،
فدعيني أستعر صوتي من جرح توهج
وأعينيني على الحقـد الذي يزرع في قلبي عوسج
إنني مندوب جرح لا يساوم
علمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي
وأمشي... ثم أمشي.... وأقاوم
يا كفر قاسم !
لا تدفني موتاك !! خليهم كأعمدة الضياء
خلي دمي المسفوك لافته الطغاة إلى السماء
يا كفر قاسم ! إن أنصاب القبور يد تشد
وتشد للأعماق اغراسي ... واغراس اليتامى اذ تمد
باقون... يا يدك النبيلة، علمينا كيف نشدو
باقون مثل الضوء، والكلمات لا يلوبهما ألم وقيد
يا كفر قاسم! إن أنصاب القبور يد تشد
يا كفر قاسم! لن ننام وفيك مقبرة وليل
ووصية الدم لا تساوم
ووصية الدم تستغيث بأن نقاوم، أن نقاوم !!
د. عبد القادر حسين ياسين
خيمة العودة- عضو متميز
- عدد المساهمات : 485
تاريخ التسجيل : 03/12/2011
مواضيع مماثلة
» تـأمـلات في الـجـهــل و “الـجـهـلـولـوجـيــا..!!”د. عبد القادر ياسين
» العــَذاب الـفـِلـِسـطـيـنـي د. عبد القادر حسين ياسين
» ابن رشد القرن العشرين .. د. عبد القادر ياسين
» عـولـيـــس الـفـِلــِســـْطـيـني د. عبد القادر حسين ياسين
» سيدتي بقلم الدكتور عبد القادر ياسين
» العــَذاب الـفـِلـِسـطـيـنـي د. عبد القادر حسين ياسين
» ابن رشد القرن العشرين .. د. عبد القادر ياسين
» عـولـيـــس الـفـِلــِســـْطـيـني د. عبد القادر حسين ياسين
» سيدتي بقلم الدكتور عبد القادر ياسين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأربعاء 4 ديسمبر 2024 - 11:30 من طرف ميساء البشيتي
» منشورات ميساء البشيتي في جريدة عرب كندا
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» بعد إذن الغضب في الذكرى الثالثة عشر لوفاة امي
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» من روائع الأدب الروسي أمي لأنطون تشيخوف
الخميس 17 أكتوبر 2024 - 11:18 من طرف هبة الله فرغلي
» مشوار الصمت ... إلى روح أبي الطاهرة في ذكرى رحيله الثالثة عشر
الخميس 3 أكتوبر 2024 - 12:13 من طرف ميساء البشيتي
» في الذكرى الثانية لرحيل الوالد عام مرَّ .
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 12:15 من طرف ميساء البشيتي
» عيد ميلاد ابنتي دينا
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 11:13 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل إلى أمي
السبت 28 سبتمبر 2024 - 13:05 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل في الهواء
السبت 7 سبتمبر 2024 - 12:30 من طرف ميساء البشيتي
» أن تملك مكتبة - أن تخسر مكتبة ..شجاع الصفدي
الخميس 5 سبتمبر 2024 - 11:27 من طرف خيمة العودة
» طباق إلى إدوارد سعيد ..محمود درويش
السبت 31 أغسطس 2024 - 12:05 من طرف حاتم أبو زيد
» سلسلة حلقات جاهلية .
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 12:10 من طرف ميساء البشيتي
» لمن يهمه الأمر
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 11:52 من طرف هبة الله فرغلي
» عندما تنتهي الحرب بقلم شجاع الصفدي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:17 من طرف خيمة العودة
» شجرة التين بقلم نور دكرلي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:11 من طرف خيمة العودة
» عيد ميلاد سعيد يا فرح
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 12:49 من طرف ميساء البشيتي
» مطر أسود
الإثنين 12 أغسطس 2024 - 10:29 من طرف ميساء البشيتي
» بـــ أحس الآن ــــــــ
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» أنا .. أنت .. نحن كلمة ( مشاركة عامة )
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» فقلْ يا رب للشاعر الفلسطيني صبحي ياسين
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:24 من طرف خيمة العودة
» ثورة صامتة
الإثنين 29 يوليو 2024 - 10:53 من طرف مؤيد السالم
» فضل شهر الله المحرّم وصيام عاشوراء
الثلاثاء 16 يوليو 2024 - 11:14 من طرف فاطمة شكري
» "عيون جاهلية" إصدار ميساء البشيتي الإلكتروني السادس
الإثنين 15 يوليو 2024 - 17:53 من طرف ميساء البشيتي
» سيد الصمت .. إلى أبي في ذكرى رحيله السادسة
الأحد 7 يوليو 2024 - 14:45 من طرف ميساء البشيتي
» ليلاي ومعتصمها
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:24 من طرف مريومة