قـاع الأمـّيـَّة العـَمـيـق في العـالم العـَرَبي/الدكتور عـبد القادر حسين ياسين
كان موعدي معه صباح كل يوم على ناصية شارع الهاشمي ،
قرب محطة الباصات المركزية في عمان.
هو يفترش الأرض بالصحف والمجلات العربية والأجنبية ،
وينتهز فرصة ظهور إشارة المرور الحمراء المجاورة له ،
وعـندها تتوقف السيارات بكل أنواعها.
ويبدأ في تسويق صحف الصباح لسائقي السيارات الخاصة ،
وركاب سيارات الأجرة حتى تضيء الإشارة الخضراء ،
ويعود الى صحفه ومجلاته وكتبه على الرصيف ليبيع الثقافة للناس .


تعرفت الى إبراهيم (وهذا هو اسمه) منذ حوالي ثـلاثـيـن عاما ،
مع بداية مشواري اليومي من ماركا الشمالية الى الشميساني.
في أول الأمر ذهبت إليه لشراء بعض الـكتب.
ولاحظ الرجل أنني أمر عليه صباح كل يوم لشراء الصحـف المحلية…


وبعد ذلك ، تعودت أن أقضي نصف ساعة كل صباح ،
أتصفح فيها الصحف والمجلات العربية والكتب الجديدة ،
وأنتقي منها ما أريد ،
وفي النهاية أقوم بحسـاب ثمنها ، وأدفع له الثمن وأنصرف .


ولم يكن لديه متسع من الوقت ليناقشني في ما أدفع ،
فهو – كما قال لي فـيـما بعـد – “يعرف الزبون الجاد من وجهه”،
و “يـثـق في المثقفين ثقة عـمـياء” .


وعندما أصبحت “زبونا دائما” عـنده ،
بدأ الرجل يجرُّ معي أطراف الحديث في موضوعات شتى…
كنت أطلب إليه أن يحضر لي بعض الصحف والمجلات الأجنبية ،
( “التايمز” ، “الغارديان” ، “لوموند” ، “ديرشبيغل” وغيرها) .
ولم يخطر لي قـط على بال ،
لماذا كان يطلب إلي أن أكتب أسماء الصحف والمجلات الأجنبية التي أريدها ،
لكي يحضرها في اليوم التالي .
كنت أعتقد أنه ربما كان مشغولا مع الزبائن الآخرين ،
أو ربما كانت الذاكرة تخونه ،
مع أنه لم يتجاوز العقد الثالث من عمره…


وتمر أشهر عـديدة قبل أن أكتشف فيه الحقيقة المـُرَّة :
إن “بائع الثقافـة” ، صديقي الصدوق ،
أمّي لا يعـرف القـراءة ولا الكتابة .


وأعترف بأنني صُعـقـت ،
ولم أصدق ما قاله لي…
يا لها من مفارقة صارخـة :
بائع الثقافة للناس لا يـذوقـها ولا يـتـذوقـها…


كيف؟!
لا أدري…


ومع إقراري بحقيقة حجم الأمية في العالم العربي
(تشير ” المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة ” ،
التابعة لجامعة الدول العربية ، في تقريرها السنوي  الصادر في الأسبوع الماضي ،
الى أن عـدد الأميين لدى الفئات العمرية التي تزيد عن 15 عاما، يبلغ 75 مليونا…)
فإنني لا أتخيل ، بأي شكل من الأشـكال ،
أن يكون “بائع الثقافـة” أمّـيـا..!!


إن جهل هـذا الرجل بالقراءة والكتابة ،
يمثل – بحق –  قاع الأمية العميق جـدا في العالم العربي.


غني عن البيان أن مسـؤولية محو أميـة إبراهيم ،
هي مسؤوليته أولاً… ولكنها ، في الوقت نفسـه ،
مسؤولية كل نظـام عـربي .


ومما يحـزُّ في النفس أنه ليس ثمة مؤسسـة عربية واحـدة ،
بما في ذلك جامعة الدول العربية (أطـال اللـه بقـاءهـا!!) ، ومنظمـاتها المتخصصـة ،
استطاعت أن تقيم الـدليل على أنهـا ،
مؤهـلة لمواجهـة هـذا الواقع العـربي المحزن .


فاذا كان يحق للعرب أن يـخـتـلـفـوا في الشؤون السياسية ،
فـبأي حق يخـتلفون على محـو الأميـة ؟!


الاسـتثمار العربي ، هنا ، هو الأفضل ؛
لأنـه الأقل كلفـة والأوفر مردوداً…
انـه اسـتثمار يحول قـنـديل الزيت الشـاحب الى مصـباح مشـع…


وما الذي يحـول دون تجنيـد جامعة الدول العربية ،
أو المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة  ،
لـهـذه المهمـة ما دامت التجارب العربية في التنمية ،
قـد منيت بالفشـل الذريع في معظمهـا ،
وما دامت الجامعة العربية (بل أجهزتها) عاطلة عن العمل ؟!


لمـاذا لا تتحمل الجامعة العربية عبء هـذا المشـروع العربي المتواضع ،
رغم أنه – في تقديري – لا يليق كثيراً بهيبتهـا التاريخية !!


“جمعية الصداقة الباكستانية – السويدية” ،
تتقاضى من العامل الباكستاني المهاجر الى السويد ،
أربعـين كراونا سـويدياً (خمسة دولارات أمريكية)
في الشهر لتعلمه[ا] القراءة والكتابة باللغتين الأوردو والسويدية….
أي أن تكلفة محو الأمية هنا لا تزيد عن ثمن فـنجـان قهوة ،
(كي لا أقول كأس ويسـكي!!) في أي مقهى يرتاده السياح العرب في أوروبا .
ولا أريد هنا أن أتحدث عن الأموال التي يبذرها بعض السـفهاء العرب،
في سهرات حمراء في حانات أوروبا ومواخيرها .


ان هذا الأموال تكفي لمحو الأمية في العالم العربي في المشرق والمغرب .
إن القـنديل الشـاحب ، الذي يصير مصباحا مشـعا ،
لن يضيء نفسه فـقط ، وإنما ينيـر ويسـتنير…
إلا إذا أصرَّ الزعـمـاء العرب على أن حكم الشـعـوب العربية أسـهل ،
إذا كان ثلاثون بالمئة منهم أميين !!