بحـث
من أنا ؟
حقوقية، كاتبة، ناشطة في شؤون بلادي وشؤون المرأة، لي عدة منشورات ورقية وإلكترونية
المواضيع الأخيرة
كتب ميساء البشيتي الإلكترونية
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
مأساة النرجس من أشعار محمود درويش
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
مأساة النرجس من أشعار محمود درويش
مأساة النرجس , ملهاة الفضة
عادوا...
من آخر النفَق الطويل إلى مراياهم.. وعادوا
حين استعادوا مِلْحَ إِخواتهمْ , فرادى أَو جماعاتٍ , وعادوا
من أَساطيرِ الدفاع عن القلاع إِلى البسيط من الكلامْ
لن يرفعوا ’ من بعدُ ’ أَيديَهُمْ ولا راياتِهمْ للمعجزات إِذا أَرادوا
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم ، ويُرتِّبوا هذا الهواءْ
ويزوِّجوا أَبناءهم لبناتهم ، ويرقِّصوا جَسَداً توارى في الرخامْ
ويُعَلِّقوا بسُقُوفهمْ بَصَلاً ’ وباميةً ’ وثوماً للشتاءْ
وليحلبوا أَثداء مَاعِزِهمْ ’ وغيماً سالَ من ريش الحمامْ
عادوا على أَطراف هاجسهم إلى جُغرافيا السحرِ الإِلهي
وإلى بساط الموز في أَرض التضاريس القديمةْ:
جبلٌ على بحرٍ ,
وخلف الذكريات بحيرتان ,
وساحلٌ للأنبياء –
وشارعٌ لروائح الليمون . لم تُصَب البلاد بأَيَّ سوءْ
هَبَّتْ رياح الخيل , والهكسوس هبُّوا ’ والتتَار مُقَنَّعينَ
وسافرينَ . وخلَّدوا أَسماءهم بالرمح أَو بالمنجنيق ...
وسافروا لم يحرموا إِبريل من عاداته : يلدُ الزهور من الصخور
ولزهرة الليمون أَجراسٌ , ولم يُصب التُرابُ بأي سوءٍ-
أَيَّ سوء ’ أَيَّ سوءٍ بعدهم . والأَرضُ تُورَثُ كاللغةْ
هَبَّتْ رياحُ الخيل وانطفأَت رياحُ الخيل ’ وانبثق الشعير من الشعيرْ
عادوا لأنهمُ أَرادوا واستعادوا النارَ في ناياتهم , فأتي البعدُ
من البعيد , مُضَرَّجاً بثيابهم وهشاشة البلور ’ وارتفع النشيدُ-
على المسافة والغياب . بأَيَّ أَسلحة تُصَدُّ الروح عن تحليقها؟
في كل منفى من منافيهم بلادٌ لم يصبها أَي سوءْ...
صنعوا خرافَتَهُمْ كما شاءوا ’ وشادوا للحصى أَلَقَ الطيور . وكُلَّما
مَرُّوا بنهرٍ.. مَزَّقوهُ , وأَحرقوهُ من الحنين ...وكُلّما
مَرُّوا بسَوْسَنَةٍ بكوا وتساءلوا :هل نحن شعب أَم نبيذٌ للقرابين الجديدةْ؟
يا نشيدُ ! خذ العناصر كُلَّها
واصعدْ بنا
سفحاً فسفحاً
واهبط الوديان –
هيّا يا نشيدُ
فأَنت أَدرى بالمكانِ
وأَنت أَدرى بالزمانِ
وقُوَّةِ الأَشياء فينا..
لم يذهبوا أَبداً ولم يصلوا ’ لأَن قلوبهم حَبَّتُ لَوْزٍ في الشوارع . كانت
الساحاتُ أَوسعَ من سماء لا تُغَطِّيهم . وكان البحر ينساهم وكانوا يعرفون شمالهم وجنوبهم ’ ويطِّيرون حمائمَ الذكرى إلى أَبراجها الأُولى , ويصطادون من شهدائهم نجماً يُسَيِّرهم إلى وحشِ الطفولةِ كلما قالوا :
وصلنا ... خرَّ أَوَّلُهُمْ على قوسِ البدايةِ . أَيها البطلُ ابتعدْ عنا لنمشي فيك
نحو نهاية أُخرى ’ فتبّاً أُخرى ’ فتبّاً للبدايةِ أَيها البطل المضرّج بالبدايات الطويلةِ قُلْ
لنا : كم مرةً ستكون رحلتُنا البدايةَ؟ أَيها البطل المُسَجَّى فوق أَرغفة الشعير
وفوق صوف اللوز ’ سوف نحنِّطُ الجرحَ الذي يمتصُّ روحك بالندى : بحليبِ ليلٍ لا ينامُ , بزهرة الليمونِ ’ بالحجر المُدَمَّى , بالنشيد – نشيدنا ,
وبريشةٍ مقلوعة من طائرِ الفينيق-
إِنَّ الأَرضَ تُورَثُ كاللغةْ !
...ونشيدهم حَجَرٌ يَحُكُّ الشمسَ . كانوا طيِّبين وساخرينْ
لا يعرفون الرقص والمزمار إِلاَّ في جنازاتهم الرفاق الراحلينْ
كانوا يُحبُّون النساء كما يحبون الفواكه والمبادئ والقططْ
كانوا يَعُدُّون السنين بعمر موتاهم . كانوا يرحلون إِلى الهواجسْ : ماذا صنعنا بالقرنفل كي نكون بعيدَهُ؟ ماذا صنعنا بالنوارسْ
لنكون سُكَّانَ المرافئ والملوحةِ في هواءٍ يابسٍ : مستقبلين مُوَدِّعينْ؟
...كانوا , كما كانوا , سليقةَ كلَّ نهرِ لا يفتِّش عن ثباتْ
يجرون في الدنيا لعلَّ الدرب يأخذهم إلى درب النجاة من الشتاتْ
....ولأنهم لا يعرفون من الحياة سوى الحياة كما تقدِّمها الحياة
لم يسألوا عما وراء مصيرهم وقبورهم . ما شأنهم بعد القيامهْ ؟
ما شأَنهم إن إِسماعيل أَمْ إِسحقُ شاةً للإِلهْ؟
هذي الجحيم هي الجحيمُ . تعوَّدوا أَن يزرعوا النعناعَ في قمصانهم وتعلَّموا أَن يزرعوا اللبلابَ حول خيامهم , وتعوَّدوا حفظ البنفسج في أَغانيهم وفي أَحواض موتاهم.., ولم يُصَب البناتُ بأَيَّ سوءٍ ’ أَيَّ سوء ’ حين جَسَّدهُ الحنينُ لكنهم عادوا قبيل غروبهم ، عادوا إلى أَسمائهم
وإلى وضوح الوقت في سَفَر السنونو
...وأَمَّا المنافي ’ فهي أمكنةٌ وأَزمنةٌ تُغيِّر أَهلها
وهي المساءُ إِذا تدلَّى من نوافذَ لا تطلُّ على أَحدْ
وهي الوصولُ إلى السواحل فوق مركبة أَضاعتْ خليها
وهي الطيورُ إذا تمادت في مديح غنائها ’ وهي البلدْ
وقد انتمى للعرش ...واختصر الطبيعة في جَسَدْ
...لكنهم عادوا من المنفى ’ وإن تركوا هناك خيولَهُمْ
فلأَنهم كسروا خرافتهم بأَيديهم لكي يتسربوا منها وكي يتحرروا ويفكَّروا بقلوبهم .عادوا من الأسطورة الكبرى يتذكروا أَيامهم وكلامهم . عادوا إلى المألوف فيهم وهو يمشي
فوق الرصيف ويمضغ الكسَلَ اللذيذ ووقتَهُ من غير غاية
ويرى الزهورَ كما ترى الناسُ الزهورَ..بلا حكاية
من زهرةِ الليمون تُولَدُ زَهْرةُ الليمون ثانيةً وتفتح في الظلامِ
نوافذَ الدورِ القديمةِ للمدى ..وعلى سلام العائلة
..وكأَنهم عادوا , لأَن الوقت يكفي كي تعود القافلة
من رحلة الهند البعيدة .أَصلحوا عرباتهمْ وتقدموا قبل الكلامْ
وعلى نوافذ آسيا الوسطى أَضاءوا نجمةَ الذكرى , وعادوا وكأَنهم عادوا من شمال الشام عادوا
وكأَنهم عادوا من الجُزر الصغيرة في المحيط الرحب , عادوا من فتوحات بلا عَدَدٍ ومن سَبي بلا عدد , وعادوا
وكأَنهم عادوا كعودة ظلّ مئذنة إلى صوت المؤذّن في المغيبْ
لم تسخر الطرقاتُ منهم مثلما سخر الغريبُ من الغريبْ
النهر هاجسهم , تَلَعْثَمَ أمْ فاض النهَرْ
ولراية الصفصاف عرَّافٌ يُعَلِّقُها على ما سال من ذهبِ القمرْ
...ولهم حكايَتُهُمْ . وآدَمُ – جَدُّ هجرتهم بكى ندماً وللصحراء هاجَرْ
والأَنبياء تشرَّدوا في كل أرض ’ والحضارةُ هاجَرَتْ ’ والنخل هاجرْ لكنهم عادوا قوافلَ,
أَو رُؤى
أَو فكرةً,
أَو ذاكرهْ
ورأوا من الصَور القديمة فتنةً أَو محنةً تكفي لوصف الآخرة
هل كانت الصحراءُ تكفي للضياع الآدميِّ؟ وصَبَّ آدمْ
في رَحْمَ زوجته ’ على مرأى من التُفَّاح ’ شَهْدَ الشهوةِ الأُولى وقاومَ موتَهُ . يحيا ليعبد رَبَّهُ العالي ليحيا
هل كان أَوَّلُ قاتٍ – قابيلُ – يعرف أَن نومَ أَخيه مَوْتْ؟
هل كان يعرف انه لا يعرف الأسماء, بعد, ولا اللغة
هل كانت إمرأة يغطَّيها قميص التوت أَوِّل خارطة ؟
لا شمسَ تحت الشمس إلا نور هذا القلب يخترق الظلالْ
كم من زمانٍ مرَّ كي يجدوا الجوابَ عن السؤالْ . وما السؤال إلا جوابٌ عن السؤال إلا جواب لا سؤال له . وكانت تلك أسئلة الرمالُ إلى الرمالْ نُبُوءةً ويغافل الصوفيُّ إمراةً ليغزل صوف عتمتِهِ بلحيته , ويعلو جَسَداً من البلور . هل للروح اردافٌ وخاصرةٌ وظلُّ ؟
في الاسر مُتَّسع لشمسِ الشكِّ منذ صاروا سكارى الباب – حُرّباتُهُم هي ماتسقط من فضاء المُطَلق المكسور حول خيامهم :
خوذ , صفيح , زُرْقَةٌ , إبريقُ ماء , اسلحهْ
اثار انسانٍ , غرابٌ , ساعةٌ رمليةٌ , عشبٌ يغطي مذبحهْ .
هل نستطيع بناء بناء معبدنا على متر من الدنيا ... لنعبدْ خالق الحشرات والاسماء والاعداء والسر المُخَبإ في ذبابة ؟
هل نستطيع اعادة الماضي الى اطراف حاضرنا , لنجسدْ فوق صخرتنا لمن كتب الزمان على الكتاب بلا كتابهْ ؟
هل نستطيع غناء أْغنيةٍ على حجر سماويَّ لنصمدْ ؟
للأساطير التي لم نستطع تغييرها الا بتاويلِ السحابة ؟
هل يستطيع بريدُنا المائيُّ أَن يأَتي على منقار هُدْهُدْ
ويعيدَ من سَبَإِ رسالتَنَا ’ لنؤمن بالخُرافةِ والغرابهْ؟
..في التيه مُتَّسع لأحصنة تشبُّ من السفوح إلى الأعالي
ومن السفوح تخر صوب القاع ، مُتَّسعٌ لفرسان يحثون الليالي
إن الليالي كُلَّها ليلٌ وإن الموت قتلٌ في الليالي
...يا نشيدُ ! خُذِ العناصرَ كُلَّها
واصعدْ بنا دهلااً فدهراً
كي نرى من سيرة الإنسان ما سيُعيدُنا
من رحلةِ العبث الطويل إلى المكان – مكانِنَا ,
واصعد بنا قِمَمَ الحراب لكي نُطلَّ على المدينةِ –
أَنتَ أدرى بالمكان , وقُوَّة الأَشياء فينا
أَنت أدرى بالزمان..
خذني إِلى حَجَرٍ –
لأجلس قرب جيتار البعيدِ
خذني إلى قَمَرٍ –
لأعرف ما تبقَّى من شرودي
خذني إلى وَتَرٍ –
يَشُدّ البحرَ للبرِّ الشريدِ
خذني إلى سَفَرٍ –
قليلِ الموت في شريانِ عودِ
خذني إلى مَطَرٍ –
على قرميد منزلنا الوحيدِ
خذني إليَّ لأَنتمي لجنازتي في يوم عيدي
خذني إلى عيدي شهيداً في بنفسجة الشهيدِ
عادوا , ولكن لم أَعُدْ..
خذني هناك إلى هناك من الوريد إلى الوريدِ
..عادوا إلى ما كان فيهم من منازلَ , واستعادوا
قَدَمَ الحرير على البحيرات المضيئة ’ واستعادوا
ما ضاع من قاموسهم : زيتونَ رُومَا في مخيّلة الجنودِ
توراةَ كنعانَ الدفينةَ تحت أنقاض تحت أنقاض الهياكل بين صُورَ وأورشليم
وطريقَ رائحةِ البخور إلى قُرَيْشَ تهبُّ من شامِ الورودِ
وغزالةَ الأبد التي زُفّت إلى النيل الشماليِّ الصعودِ
وإلى فحولةِ دجلةَ الوحشيِّ وَهْوَ يَزُفُّ سُومَرَ للخلودِ
كانوا معاً
كانوا معاً يتحاربون , ويَغْلِبون , ويُغْلَبونْ
كانوا معاً
يتزوَّجون وينجبون سُلالةَ الأَضدادِ أَو نسلَ الجنونْ
كانوا معاً
يتحالفون على الشمال ’ ويرفعون على الجحيمْ
جسرَ العبور من الجحيم إلى انتصار الروح فيهم كُلِّهم
ويعاودون الحربَ حول العقل . مَنْ لا عَقْلَ في إِيمانِهِ
لا روح فيه..
هل نستطيع تناسخَ الإبداع من جلجامشَ المحروم من عُشْبِ الخلودِ
ومن أثينا بعد ذلك ؟ أين نحن الآن ! للرُّومان أَن يجدوا وجودي في الرخام ’ وأَن يعيدوا نقطةَ الدنيا إلى روما ’ وأَن يلدوا جُدودي
من تفوُّق سيفهم
لكنًّ فينا من أَثينا
ما يجعل البحر القديمَ نشيدَنا
ونشيدُنا حَجَرٌ يَحُكُّ الشمسَ فينا
حَجَرٌ يشعُّ غموضَنا أقصي الوضوحِ هو الغموضُ ,
فكيف ندرك ما نسينا؟
عاد المسيحُ إلى العشاء ’ كما نشاء ’ ومريٌ عادتْ إِليهِ
على جديلتها الطويلة كي تُغَطَّيَ مسرحَ الرومان فينا
هل كان في الزيتون ما يكفي من المعنى ..لنملأ راحيتهِ
سكينةً وجروحَهُ حَبَقاً ’ وندلق روحَنَا أَلَقاً عليهِ؟
..ويا نشيدُ , خذِ المعاني كلَّها
واصعدْ بنا جرحاً فجُرحاً
ضمِّدِ النسيانَ
واصعدْ ما استطعتَ بنا إلى الإنسانِ
حولَ خيامهِ الأْولى
يُلَمِّعُ قُبّةَ الأفقِ المُغَطَّى بالنحاسِ
لكي يَرَى
ما لا يَرَى
من قلبِهِ
واصعد بنا ’ واهبط بنَا نحو المكان
فأَنتَ أَدرى بالمكان ,
وأَنتَ أدرى بالزمان
...وفي الممرات استعدُّوا للحصار . نياقُهم عطشتْ وقد حلبوا السرابْ
حلبوا السرابَ ليشربوا لَبَنَ النبوءةِ من مخيّلة الجنوبْ
في كل منفى قلعةٌ مكسورةٌ أَبوابُها لحصارهمْ ’ ولكُلِّ بابْ
صحراءُ تكملُ سيرةَ السفر الطويل من الحروب إِلى الحروبْ
ولكل عَوْسَجَةٍ على الصحراءِ هاجَرُ هاجَرَتْ نحو الجنوبْ
مروا على أسمائهم منقوشةً فوق المعان والحصى
لم يعرفوها ....فالضحايا لا تصدِّق حَدْسها..
لم يعرفوها...
مَمْحُوَّةً بالرمل أَحياناً , وأَحياناً تغطيها نباتاتُ الغروبْ
تاريُخنا تاريخيهم , لولا اختلافُ الطير في الرايات وحَّدتِ الشعوبُ – دروبَ فكرتها . نهايتُنا بدايتنا...
وإِنَّ الأَرضَ
تُورَثُ
كاللغهْ
لو كان ذو القرنين ذا قرن ’ وكان الكونُ أَكبرْ
لتشرَّقَ الشرقيَّ في أَلواحِهِ ..وتغرَّبَ الغربيُّ أَكثرْ
لو كان قصيرُ فيلسوفاً كانت الأرضُ الصغيرةُ دارَ قيصرْ
تاريخُنا تاريخنا...
ولنَخلة البدويَّ أن تمتدِّ نحو الأَطلسيِّ
على طريق دمشقَ كي نشفى من الظمأ المميت إلى غمامهْ
تاريخُنا تاريخهم
تاريخهم تاريخُنا
لولا الخلافُ على مواعيد القيامهْ !
من وحَّد الأَرضَ العنيدة خارج السيفِ المُرَصَّع بالحماسةِ؟
لا أَحدْ...
من عاد من سَفَرٍ إلى حَبَقِ الطفولةِ؟
لا أَحَدْ
من صاغَ سيرته بمنأى عن هُبُوب نقيضها وعن البطولةِ؟
لا أَحدْ...
لا بُدَّ من منفى يَبيضُ لآلئ الذكرى ويختزلُ الأَبَدْ
في لحظة تسعُ الزمانَ ,
...لعلَّهم كتبوا على أَسمائهم أسماءَهم ,
وتذكروا في فضة الزيتون أَوَّلَ شاعرٍ سَجَّى هناك سماءهم
يا بحر إِيجةَ ’ عُدْ بنا يا بحرُ..قد نبحتْ كلابُ العائلاتْ
لتعيدَنا من حيث هَبَّتْ ريحُنا ...فالنَّصْرُ مَوْتْ
والموتُ نصرٌ في هِرَقْلَ...وخطوةُ الشهداء بَيْتْ
نجن الذين أتو لكي يأتون وينتصروا ...رمتنا الكاهناتْ
بشمال غربتنا ولم يَسْأَلنَ عن زوجاتنا . من ماتَ ماتَ,
ومن تذكَّر بيتَهُ قتل المزيد من العجائر والبناتْ
أَلقى بأَطفال المدينة من أسرتهم إلى الوادي السحيق
ليعود قبل الوقتِ من الشيطان،
هل خُنَّا نظامَ ضميرنا
لتخوننا زوجاتُنا ؟
كان الضميرُ إليهنَّ البخورَ وعطرَ هيلينَ الجميلة
النصر موت كالهزيمة ’ والجريمة قد إلى الفضيلة
يا بَحْرُ ! أَنتَ تُزيَّنُ القتلى بقاتلهم ’ أَعِدْنَا أيها البحرُ القديمُ
إلى نُباح كلابنا في أَرضنا الأولى وتابعْ أَيها البحرُ القديمُ
مغامرات البحث عمَّا ضاعَ من أسطولنا ... وزوارق الصيد القديمةِ ، عن رجال أَصبحوا شجراً من المرجان في القيعانِ ,
أَما نحن , فاحملْنا لنرجعَ
من حروب الذَّودِ عن عرشَ السرير إلى فراشِ نسائنا
وإلى قماش الحور أَخضرَ في الرمادِ وفي رؤى شعرائنا
لا بد من بَرِّ لنرسُوَ فوق خطوتنا وبُنْدُقِ دارنا
فالضوء – هذا الضوء ’ لا يكفي لنقطف فيه توتَ ديارنا
....كانوا هناك يحاورون الموجَ كي يتشبَّهوا بالعائدين من المعارك تحت قوس النصر . لم تذهب منافينا سدى أَبداً ’ ولم نذهب إلى المنفى سدى . سيموت موتاهم بلا ندمٍ على شيءِ وللأحياءِ الماضي بحاضرهم ’ وأن يبكوا على مهلٍ على مهلٍ لئلاَّ يسمع الأَعداءُ ما فيهم من الخزف
المكسَّر أَيها الشهداءُ قد كنتم على حَقَّ ’ لأَن البيت أَجملُ من طريقِ البيتِ , رغم خيانةِ الأَزهار ’ لكنَّ النوافذَ لا تُطلُّ على سماء القلب...
والمنفى هو المنفى هنا وهناك . لم نذهب إلى المنفى سُدىً أَبداً ’ ولم تذهبْ منافينا سُدىً
والأرضُ
تُوْرَثُ
كاللغة !
....لم يُشْبهوا الأسرى ’ ولم يتقمَّصُوا حريةَ الشهداءِ . لم يتخلَّصوا من
صيف وحشتهم . لماذا أَشعلوا الجبلَ البعيد بنارِ وحشتهم ’ وغابوا حين لم يجدوا لمنحدراتهم طُرُقاً تُوزِّعهم على الوديان ؟ قد يأتي الرعاةُ الأولون
إلى الصدى . قد يعثرون على بقايا صوتهم وثبابهم , وعلى زمان سلاحهم , وعل تعرُّج نايِهِمْ مِنْ كُلِّ شعبٍ أَلَّفوا أسطورةً كي يشبهوا أَبطالها ’ في كلِّ حربٍ ماتَ منهم فارسٌ ’ لكنَّ للأَنهار وِجْهَتَها وليس الأَمس أَمس
ليسكنوا أَعلى قليلاً من مَصَبِّ النهرِ
جيتاراتُهُمْ فَرَسٌ وأَندلُسٌ على قدَمَيْ
فتاةِ الريحِ دُقِّينا على إِبَرِ
الصنوبرِ الغابات دُقِّينا تَرِقَّ الروحُ
فينا نتركِ الميناء للميناء دُقَّينا
بايقاع النبيذ على سواد السرِّ بين الأَبيضين
وَخلِّصينا الآن من مُرْجانِ واديكِ
الكبير وعَلِّمينا مهنةَ الفَرَحِ المَسَلح
بالدم الغجريِّ دُقِّينا ودُقّي ما يُطلُّ
من القلة بكعبك العالي لتلتفت
الشعوبُ إلى بداية حربها : رَجُلٌ
يفتش في البراري عن سكينته
ويسكن امرأَهْ
....وعلى أَعالي الموج , موج البحر والصحراء كانوا يرفعون جزيرةً لوجودهم
إِني وقد دافعتُ عن سَفري إِلى قَدَري أدافع عن نشيدي
بين النخيل وظلِّه المثقوبِ . من عدمى سأمشي من جديدِ
نحو الوجود – يقول شاعرهم وقد عادوا – سأترك للبعيدِ
ولزهرة الليمون جِسْرَ الأَزرقِ المكسورِ بالأمطار .مُرُّوا
يا منشدونَ , إذا استطعتم أَن تُعيدوا
للخيول صهيلها ’ مُرُّوا إِذاً يا منشدونْ
الخيلُ تلهثُ خلف قلبي وهو يقفز من يديَّ إلى السدودْ
ها نحن نحن, فمن يغيَّرنا ؟ نعودُ ولا نعودْ
ونسير فينا...
عندما يأتي نهارٌ واحدٌ لا موتَ فيه
وليلةٌ لا حلمَ فيها , نبلغ الميناءَ محترقين بالوردِ الأَخيرِ
وكأَنهم عادوا ,
لأَن البحر يهبط عن أَصابعهم وعن طرف السريرِ
كانوا يرون بيوتهم خلفَ السحابِ
ويسمعون ثُغاءَ ماعزهم , وكانوا
يتحسَّسون قُرونَ غزلانِ الحكايةِ..
يضرمون النارَ فوق التَّلِّ . كانوا
يتبادلون الهالَ كانوا يعجنونَ فطائرَ العيد السعيدِ
أَتذكرون؟
أَيامَ غربيتنا هناك ؟ ويرقصون على الحقائبِ ساخرينْ
من سيرة المنفى البعيد ومن بلاد سوف يهجرها الحنينْ
هل تذكرون حصارَ قرطاجَ الأَخيرْ؟
هل تذكرون سقوطَ صورْ
وممالكَ الإفرنجِ فوق الساحلِ السوريَّ ’ والموتَ الكبيرْ
في نهر دجلةَ عندما فاضَ الرمادُ على المدينةِ والعصورْ؟
((ها نحن عدنا يا صلاح الدين))...
فابحث عن بَنِينْ.
كانوا يعيدون الحكاية من نهايتها إلى زمن الفكاهةْ
قد تدخل المأساةُ في الملهاة يوماً
قد تدخل الملهاةُ في المأساة يوماً..
في نَرْجسِ المأساة كانوا يسخرونْ
من فِضَّة الملهاة , كانوا يسألون ويسألون:
ماذا سنحلم حين نعلم أَن مريمَ امرأة؟
كانوا يشمّون الحشائشَ وهي تفتح في الجدار ربيعَها وجروحَهم
وتعيدهم من كل منفى . لَسْعَةُ القُرَّاصِ تشبهُ لسعةَ الأَفعى
ورائحةُ الحَبَقْ
هي قهوة المنفيّ ...ممشى للعواطف حين تمشي في منازلها...
وصلنا !
صَفَّقُوا لكلابهم , لبيوت عودتهم , لأَجدادِ الحكايةِ , للمحاريث القديمة ,
لاحتكاك البحر بالبصل المُعَلِّق فوق أَسلحة قديمهْ
ما كان كانَ ومازحَ الأَزواجُ زوجاتِ الجنازاتِ :
انتهينا من دموع النادباتِ ’ الراقصات , الباكياتْ
نروى , إذاً , رَكْضَ القلوبِ مع الخيول إلى هبوب الذكرياتْ
نروي صُمُودَ هِرَقْل في دمه الأَخيرِ وفي جنون الأمهاتْ
ونَكُونُهُ ,
ونكونُ أُوليسَ إِذا أَرادَ البحرُ ذلك يا بناتْ
نروي ونروي ’ حينما نروي , نداءَ القائد الكُرديِّ
للمتردِّد العربيِّ : هاتْ
سيفاً
وخُذْ مني الصلاةَ على النبيِّ وصَحْبِهِ ونسائِهِ
وخذِ الزكاةْ
...ضحكوا كثيراً : قد يكون السجن أَجمل من بساتين المنافي
ورأوا نوافذهم تطلّ على فُكاهتهم وتُوقد ورْدَها حول الضفافِ
ما كان كانَ , سيقفزون على السلالم ,
يفتحون خزائن الذكرى
وصندوقَ الثيابِ
يُلَمِّعُون مقابضَ الأَبواب أَحياناً,
وأَحياناً يَعُدُّون الخواتمْ
كُبرَتْ أَصابعُهُم مع الأَيام وانتفخت محاجرهم
ولم يجدوا على صَدَأ المرايا والزجاج وجوههم
حسناً ,
ستتسع الحديقةُ عندما يصلون بعد هنيةٍ قبل النشيدْ
وسينظرون وراءهم :
هانحن نحن , فمن سيُرجِعُنا إِلى الصحراءِ؟
سوف نُلَقِّن الأَعداء درساً في الزراعة وانبثاق الماء من حجرٍ...سنزرع فلفلاً في خوذة الجنديِّ ... نزرعُ حنطةً في كل منحدرٍ لأنَّ القمح أَكبر من حدود الإِمبراطورية الحمقاءِ في كل العصورِ سنقتقس عادات موتانا ونغسل فضَّة الأشجار من صدأ السنينِ...
بلادُنا هي أن تكون بلادَنا
وبلادنا هي أَن نكون بلادَها
هي أن نكونَ نباتَها وطيورَها وجمادَها
وبلادُنا ميلادُنا
أَجدادُنا
أَحفادُنا
أَكبادُنا تمشي على أَو زغبِ القطا ,
وبلادُنا هي أَن نُسيِّج بالبنفسج نارَها ورمادَها
هي أَن تكون بلادَنا
هي أن نكون بلادَها
هي جَنَّةٌ
أَو محنةٌ
سَيَّان –
سوف نُعَلِّم الأعداءَ تربيةَ الحمام إذا استطعنا أَن نُعَلِّمهمْ وسوف ننام بعد الظهر تحت عريشةِ العنبِ الظليلةِ , حولنا قططٌ تنام على رذاذِ الضوءِ
أحصنةٌ تنام على انحناء شرودها . بَقَرٌ ينامُ ويمضغ الأعشاب َ . ديكُ لا ينام
لأن في الدنيا دجاجاتٍ وسوف ننامُ بعد الظهرِ تحت عريشةِ العنبِ
الظليلةِ كمْ تعبنا .. كم تعبنا من هواء البحر والصحراءِ –
....كانوا يرجعُونَ
ويحلمون بأَنهم وصلوا
لأَن البحر ينزل عن أَصابعهم وعن أكتاف موتاهم
وكانوا يشهدون ’ فُجاءَةً : ريحانة البطل المسجّى فوق خطوته الأَخيرةْ :
أَهنا يموت على مسدسه وسُندسِهِ وعَتْبَتِهِ الأخيرةْ؟
أهنا يموت هنا ؟ هنا والآن في شمس الظهيرةْ
والآن , هَزَّت إصبعاه بشارةِ النصر الأخيرةْ
بوَّابةَ البيتِ القديم , وهزَّ أَسوار الجزيرةْ
الآن سدَّدَ آخرَ الخطوات نحو الباب ... واختتم المسيرةْ
برجوع موتانا . ونامَ البحرُ تحت نوافذ الدّور الصغيرةْ
...يا بحرُ ! لم نخطئ كثيراً ..أيها البحرُ القديمْ
لا تُعْطِنا ’ يا بحُ ’ أَكثر من سِوان ...نحن ندري
أن الضحايا فيك أَكثرُ والمياهْ هي الغيومْ
....كانوا كما كانوا وكانوا يرجعون ويسألون كآبة الأَقدارِ
هل لا بُدَّ من بطلٍ يموت لتكبر الرؤيا وتزداد النجومْ
نجْماً على راياتنا ؟
لم يستطيعوا أن يضيفوا للنهايةِ وردةً
ويغَّيروا مجرى الأَساطير القديمة :
فالنشيدُ هو النشيدْ :
لا بُدَّ من بطلٍ يخرُّ على سياجِ النصرِ
في أوج النشيدْ
....يَا أيها البطل الذي فينا .. تَمَهَّلْ !
عِشْ ليلةَ أُخرى لنبلغ آخر العمر المُكلَّلْ
ببداية لم تكتملْ ،
عِشْ ليلةً أُخرى لنكملَ رحلةَ الحُلُم المُضَرِّجْ
يا تاجَ شوكتنا ، ويا شَفَقَ الأساطيرِ المُتَوَّجْ
ببدايةٍ لا تنتهي . يا أيها البطلُ الذي فينا ...تمهَّلْ !
عِشْ ساعةً أُخرى لنبدأ رقصةَ النصرِ المُنَزَّلْ
لم ننتصر , بعدُ ’ انتظرْ يا أيها البطلُ انتظرْ
فعلامَ ترحلْ
قبل الوصولِ بساعةٍ ؟
يا أيها البطلُ
الذي
فينا
تمهِّلْ !
...مازالَ فيهم من منافيهم خريفُ الاعترافْ
ما زال فيهم شارعٌ يفضي ؟إلى المنفى ...
وأَنهارٌ تسير بلا ضفافْ
ما زال فيهم نرجسُ رخوٌ يخاف من الجفافْ
ما زال فيهم ما يغيِّرهم إِذا عادوا ولم يجدوا :
الشقائق ذاتها
وَبَرَ السفرجلة العنيدة ذاتَها
والأقحوانةَ ذاتَها
والأَكيدنيا ذاتَها
وسنابلَ القمح الطويلةَ ذاتَها
والبيلسانةَ الثومِ المجفَّف ذاتهَا
والسنديانَةَ ذاتَها
والأَبجديةَ ذاتَها
...كانوا على وشك الهبوط إلى هواءِ بيوتهم..
من أَيَّ حلم يحلمون ؟
بأيِّ شيء يدخلون حدائقَ الأَبوابِ
والمنفى هو المنفى
...وكانوا يعرفون طريقَهم حتى نهايته وكانوا يحلمونْ
جاءوا من الغد نحو حاضرهم ... وكانوا يعرفونْ
ما سوف يحدث للأغاني في حناجرهم ... وكانوا يحلمونْ
بقرنفُل المنفى الجديدِ على سياجِ البيت , كانوا يعرفونْ
ما سوف يحدث للصقور ’ ويحلمونْ
بصراعِ نرْجِسِهم مع الفردوس حين يصير منفاهم , وكانوا يعرفونْ
ما سوف يحدث للسنونو حين يْحرقه الربيعُ , ويحلمونْ
بربيع هاجسهم يجيءُ ولا يجيءُ , ويعرفونْ
ما سوف يحدُث حين يأتي الحُلْمُ من حُلُمٍ
ويعرف أنه كان يحلمُ ،
يعرفُون , ويحلمُون , ويرجعُون , ويخلُمون , ويعرفُون ’ ويرجِعُون ’ ويرجعُون ’ ويحلُمون ’ ويحلُمون , ويحلمُون , ويرجعُونْ .
https://www.youtube.com/watch?v=f29wqKlfi_w
عادوا...
من آخر النفَق الطويل إلى مراياهم.. وعادوا
حين استعادوا مِلْحَ إِخواتهمْ , فرادى أَو جماعاتٍ , وعادوا
من أَساطيرِ الدفاع عن القلاع إِلى البسيط من الكلامْ
لن يرفعوا ’ من بعدُ ’ أَيديَهُمْ ولا راياتِهمْ للمعجزات إِذا أَرادوا
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم ، ويُرتِّبوا هذا الهواءْ
ويزوِّجوا أَبناءهم لبناتهم ، ويرقِّصوا جَسَداً توارى في الرخامْ
ويُعَلِّقوا بسُقُوفهمْ بَصَلاً ’ وباميةً ’ وثوماً للشتاءْ
وليحلبوا أَثداء مَاعِزِهمْ ’ وغيماً سالَ من ريش الحمامْ
عادوا على أَطراف هاجسهم إلى جُغرافيا السحرِ الإِلهي
وإلى بساط الموز في أَرض التضاريس القديمةْ:
جبلٌ على بحرٍ ,
وخلف الذكريات بحيرتان ,
وساحلٌ للأنبياء –
وشارعٌ لروائح الليمون . لم تُصَب البلاد بأَيَّ سوءْ
هَبَّتْ رياح الخيل , والهكسوس هبُّوا ’ والتتَار مُقَنَّعينَ
وسافرينَ . وخلَّدوا أَسماءهم بالرمح أَو بالمنجنيق ...
وسافروا لم يحرموا إِبريل من عاداته : يلدُ الزهور من الصخور
ولزهرة الليمون أَجراسٌ , ولم يُصب التُرابُ بأي سوءٍ-
أَيَّ سوء ’ أَيَّ سوءٍ بعدهم . والأَرضُ تُورَثُ كاللغةْ
هَبَّتْ رياحُ الخيل وانطفأَت رياحُ الخيل ’ وانبثق الشعير من الشعيرْ
عادوا لأنهمُ أَرادوا واستعادوا النارَ في ناياتهم , فأتي البعدُ
من البعيد , مُضَرَّجاً بثيابهم وهشاشة البلور ’ وارتفع النشيدُ-
على المسافة والغياب . بأَيَّ أَسلحة تُصَدُّ الروح عن تحليقها؟
في كل منفى من منافيهم بلادٌ لم يصبها أَي سوءْ...
صنعوا خرافَتَهُمْ كما شاءوا ’ وشادوا للحصى أَلَقَ الطيور . وكُلَّما
مَرُّوا بنهرٍ.. مَزَّقوهُ , وأَحرقوهُ من الحنين ...وكُلّما
مَرُّوا بسَوْسَنَةٍ بكوا وتساءلوا :هل نحن شعب أَم نبيذٌ للقرابين الجديدةْ؟
يا نشيدُ ! خذ العناصر كُلَّها
واصعدْ بنا
سفحاً فسفحاً
واهبط الوديان –
هيّا يا نشيدُ
فأَنت أَدرى بالمكانِ
وأَنت أَدرى بالزمانِ
وقُوَّةِ الأَشياء فينا..
لم يذهبوا أَبداً ولم يصلوا ’ لأَن قلوبهم حَبَّتُ لَوْزٍ في الشوارع . كانت
الساحاتُ أَوسعَ من سماء لا تُغَطِّيهم . وكان البحر ينساهم وكانوا يعرفون شمالهم وجنوبهم ’ ويطِّيرون حمائمَ الذكرى إلى أَبراجها الأُولى , ويصطادون من شهدائهم نجماً يُسَيِّرهم إلى وحشِ الطفولةِ كلما قالوا :
وصلنا ... خرَّ أَوَّلُهُمْ على قوسِ البدايةِ . أَيها البطلُ ابتعدْ عنا لنمشي فيك
نحو نهاية أُخرى ’ فتبّاً أُخرى ’ فتبّاً للبدايةِ أَيها البطل المضرّج بالبدايات الطويلةِ قُلْ
لنا : كم مرةً ستكون رحلتُنا البدايةَ؟ أَيها البطل المُسَجَّى فوق أَرغفة الشعير
وفوق صوف اللوز ’ سوف نحنِّطُ الجرحَ الذي يمتصُّ روحك بالندى : بحليبِ ليلٍ لا ينامُ , بزهرة الليمونِ ’ بالحجر المُدَمَّى , بالنشيد – نشيدنا ,
وبريشةٍ مقلوعة من طائرِ الفينيق-
إِنَّ الأَرضَ تُورَثُ كاللغةْ !
...ونشيدهم حَجَرٌ يَحُكُّ الشمسَ . كانوا طيِّبين وساخرينْ
لا يعرفون الرقص والمزمار إِلاَّ في جنازاتهم الرفاق الراحلينْ
كانوا يُحبُّون النساء كما يحبون الفواكه والمبادئ والقططْ
كانوا يَعُدُّون السنين بعمر موتاهم . كانوا يرحلون إِلى الهواجسْ : ماذا صنعنا بالقرنفل كي نكون بعيدَهُ؟ ماذا صنعنا بالنوارسْ
لنكون سُكَّانَ المرافئ والملوحةِ في هواءٍ يابسٍ : مستقبلين مُوَدِّعينْ؟
...كانوا , كما كانوا , سليقةَ كلَّ نهرِ لا يفتِّش عن ثباتْ
يجرون في الدنيا لعلَّ الدرب يأخذهم إلى درب النجاة من الشتاتْ
....ولأنهم لا يعرفون من الحياة سوى الحياة كما تقدِّمها الحياة
لم يسألوا عما وراء مصيرهم وقبورهم . ما شأنهم بعد القيامهْ ؟
ما شأَنهم إن إِسماعيل أَمْ إِسحقُ شاةً للإِلهْ؟
هذي الجحيم هي الجحيمُ . تعوَّدوا أَن يزرعوا النعناعَ في قمصانهم وتعلَّموا أَن يزرعوا اللبلابَ حول خيامهم , وتعوَّدوا حفظ البنفسج في أَغانيهم وفي أَحواض موتاهم.., ولم يُصَب البناتُ بأَيَّ سوءٍ ’ أَيَّ سوء ’ حين جَسَّدهُ الحنينُ لكنهم عادوا قبيل غروبهم ، عادوا إلى أَسمائهم
وإلى وضوح الوقت في سَفَر السنونو
...وأَمَّا المنافي ’ فهي أمكنةٌ وأَزمنةٌ تُغيِّر أَهلها
وهي المساءُ إِذا تدلَّى من نوافذَ لا تطلُّ على أَحدْ
وهي الوصولُ إلى السواحل فوق مركبة أَضاعتْ خليها
وهي الطيورُ إذا تمادت في مديح غنائها ’ وهي البلدْ
وقد انتمى للعرش ...واختصر الطبيعة في جَسَدْ
...لكنهم عادوا من المنفى ’ وإن تركوا هناك خيولَهُمْ
فلأَنهم كسروا خرافتهم بأَيديهم لكي يتسربوا منها وكي يتحرروا ويفكَّروا بقلوبهم .عادوا من الأسطورة الكبرى يتذكروا أَيامهم وكلامهم . عادوا إلى المألوف فيهم وهو يمشي
فوق الرصيف ويمضغ الكسَلَ اللذيذ ووقتَهُ من غير غاية
ويرى الزهورَ كما ترى الناسُ الزهورَ..بلا حكاية
من زهرةِ الليمون تُولَدُ زَهْرةُ الليمون ثانيةً وتفتح في الظلامِ
نوافذَ الدورِ القديمةِ للمدى ..وعلى سلام العائلة
..وكأَنهم عادوا , لأَن الوقت يكفي كي تعود القافلة
من رحلة الهند البعيدة .أَصلحوا عرباتهمْ وتقدموا قبل الكلامْ
وعلى نوافذ آسيا الوسطى أَضاءوا نجمةَ الذكرى , وعادوا وكأَنهم عادوا من شمال الشام عادوا
وكأَنهم عادوا من الجُزر الصغيرة في المحيط الرحب , عادوا من فتوحات بلا عَدَدٍ ومن سَبي بلا عدد , وعادوا
وكأَنهم عادوا كعودة ظلّ مئذنة إلى صوت المؤذّن في المغيبْ
لم تسخر الطرقاتُ منهم مثلما سخر الغريبُ من الغريبْ
النهر هاجسهم , تَلَعْثَمَ أمْ فاض النهَرْ
ولراية الصفصاف عرَّافٌ يُعَلِّقُها على ما سال من ذهبِ القمرْ
...ولهم حكايَتُهُمْ . وآدَمُ – جَدُّ هجرتهم بكى ندماً وللصحراء هاجَرْ
والأَنبياء تشرَّدوا في كل أرض ’ والحضارةُ هاجَرَتْ ’ والنخل هاجرْ لكنهم عادوا قوافلَ,
أَو رُؤى
أَو فكرةً,
أَو ذاكرهْ
ورأوا من الصَور القديمة فتنةً أَو محنةً تكفي لوصف الآخرة
هل كانت الصحراءُ تكفي للضياع الآدميِّ؟ وصَبَّ آدمْ
في رَحْمَ زوجته ’ على مرأى من التُفَّاح ’ شَهْدَ الشهوةِ الأُولى وقاومَ موتَهُ . يحيا ليعبد رَبَّهُ العالي ليحيا
هل كان أَوَّلُ قاتٍ – قابيلُ – يعرف أَن نومَ أَخيه مَوْتْ؟
هل كان يعرف انه لا يعرف الأسماء, بعد, ولا اللغة
هل كانت إمرأة يغطَّيها قميص التوت أَوِّل خارطة ؟
لا شمسَ تحت الشمس إلا نور هذا القلب يخترق الظلالْ
كم من زمانٍ مرَّ كي يجدوا الجوابَ عن السؤالْ . وما السؤال إلا جوابٌ عن السؤال إلا جواب لا سؤال له . وكانت تلك أسئلة الرمالُ إلى الرمالْ نُبُوءةً ويغافل الصوفيُّ إمراةً ليغزل صوف عتمتِهِ بلحيته , ويعلو جَسَداً من البلور . هل للروح اردافٌ وخاصرةٌ وظلُّ ؟
في الاسر مُتَّسع لشمسِ الشكِّ منذ صاروا سكارى الباب – حُرّباتُهُم هي ماتسقط من فضاء المُطَلق المكسور حول خيامهم :
خوذ , صفيح , زُرْقَةٌ , إبريقُ ماء , اسلحهْ
اثار انسانٍ , غرابٌ , ساعةٌ رمليةٌ , عشبٌ يغطي مذبحهْ .
هل نستطيع بناء بناء معبدنا على متر من الدنيا ... لنعبدْ خالق الحشرات والاسماء والاعداء والسر المُخَبإ في ذبابة ؟
هل نستطيع اعادة الماضي الى اطراف حاضرنا , لنجسدْ فوق صخرتنا لمن كتب الزمان على الكتاب بلا كتابهْ ؟
هل نستطيع غناء أْغنيةٍ على حجر سماويَّ لنصمدْ ؟
للأساطير التي لم نستطع تغييرها الا بتاويلِ السحابة ؟
هل يستطيع بريدُنا المائيُّ أَن يأَتي على منقار هُدْهُدْ
ويعيدَ من سَبَإِ رسالتَنَا ’ لنؤمن بالخُرافةِ والغرابهْ؟
..في التيه مُتَّسع لأحصنة تشبُّ من السفوح إلى الأعالي
ومن السفوح تخر صوب القاع ، مُتَّسعٌ لفرسان يحثون الليالي
إن الليالي كُلَّها ليلٌ وإن الموت قتلٌ في الليالي
...يا نشيدُ ! خُذِ العناصرَ كُلَّها
واصعدْ بنا دهلااً فدهراً
كي نرى من سيرة الإنسان ما سيُعيدُنا
من رحلةِ العبث الطويل إلى المكان – مكانِنَا ,
واصعد بنا قِمَمَ الحراب لكي نُطلَّ على المدينةِ –
أَنتَ أدرى بالمكان , وقُوَّة الأَشياء فينا
أَنت أدرى بالزمان..
خذني إِلى حَجَرٍ –
لأجلس قرب جيتار البعيدِ
خذني إلى قَمَرٍ –
لأعرف ما تبقَّى من شرودي
خذني إلى وَتَرٍ –
يَشُدّ البحرَ للبرِّ الشريدِ
خذني إلى سَفَرٍ –
قليلِ الموت في شريانِ عودِ
خذني إلى مَطَرٍ –
على قرميد منزلنا الوحيدِ
خذني إليَّ لأَنتمي لجنازتي في يوم عيدي
خذني إلى عيدي شهيداً في بنفسجة الشهيدِ
عادوا , ولكن لم أَعُدْ..
خذني هناك إلى هناك من الوريد إلى الوريدِ
..عادوا إلى ما كان فيهم من منازلَ , واستعادوا
قَدَمَ الحرير على البحيرات المضيئة ’ واستعادوا
ما ضاع من قاموسهم : زيتونَ رُومَا في مخيّلة الجنودِ
توراةَ كنعانَ الدفينةَ تحت أنقاض تحت أنقاض الهياكل بين صُورَ وأورشليم
وطريقَ رائحةِ البخور إلى قُرَيْشَ تهبُّ من شامِ الورودِ
وغزالةَ الأبد التي زُفّت إلى النيل الشماليِّ الصعودِ
وإلى فحولةِ دجلةَ الوحشيِّ وَهْوَ يَزُفُّ سُومَرَ للخلودِ
كانوا معاً
كانوا معاً يتحاربون , ويَغْلِبون , ويُغْلَبونْ
كانوا معاً
يتزوَّجون وينجبون سُلالةَ الأَضدادِ أَو نسلَ الجنونْ
كانوا معاً
يتحالفون على الشمال ’ ويرفعون على الجحيمْ
جسرَ العبور من الجحيم إلى انتصار الروح فيهم كُلِّهم
ويعاودون الحربَ حول العقل . مَنْ لا عَقْلَ في إِيمانِهِ
لا روح فيه..
هل نستطيع تناسخَ الإبداع من جلجامشَ المحروم من عُشْبِ الخلودِ
ومن أثينا بعد ذلك ؟ أين نحن الآن ! للرُّومان أَن يجدوا وجودي في الرخام ’ وأَن يعيدوا نقطةَ الدنيا إلى روما ’ وأَن يلدوا جُدودي
من تفوُّق سيفهم
لكنًّ فينا من أَثينا
ما يجعل البحر القديمَ نشيدَنا
ونشيدُنا حَجَرٌ يَحُكُّ الشمسَ فينا
حَجَرٌ يشعُّ غموضَنا أقصي الوضوحِ هو الغموضُ ,
فكيف ندرك ما نسينا؟
عاد المسيحُ إلى العشاء ’ كما نشاء ’ ومريٌ عادتْ إِليهِ
على جديلتها الطويلة كي تُغَطَّيَ مسرحَ الرومان فينا
هل كان في الزيتون ما يكفي من المعنى ..لنملأ راحيتهِ
سكينةً وجروحَهُ حَبَقاً ’ وندلق روحَنَا أَلَقاً عليهِ؟
..ويا نشيدُ , خذِ المعاني كلَّها
واصعدْ بنا جرحاً فجُرحاً
ضمِّدِ النسيانَ
واصعدْ ما استطعتَ بنا إلى الإنسانِ
حولَ خيامهِ الأْولى
يُلَمِّعُ قُبّةَ الأفقِ المُغَطَّى بالنحاسِ
لكي يَرَى
ما لا يَرَى
من قلبِهِ
واصعد بنا ’ واهبط بنَا نحو المكان
فأَنتَ أَدرى بالمكان ,
وأَنتَ أدرى بالزمان
...وفي الممرات استعدُّوا للحصار . نياقُهم عطشتْ وقد حلبوا السرابْ
حلبوا السرابَ ليشربوا لَبَنَ النبوءةِ من مخيّلة الجنوبْ
في كل منفى قلعةٌ مكسورةٌ أَبوابُها لحصارهمْ ’ ولكُلِّ بابْ
صحراءُ تكملُ سيرةَ السفر الطويل من الحروب إِلى الحروبْ
ولكل عَوْسَجَةٍ على الصحراءِ هاجَرُ هاجَرَتْ نحو الجنوبْ
مروا على أسمائهم منقوشةً فوق المعان والحصى
لم يعرفوها ....فالضحايا لا تصدِّق حَدْسها..
لم يعرفوها...
مَمْحُوَّةً بالرمل أَحياناً , وأَحياناً تغطيها نباتاتُ الغروبْ
تاريُخنا تاريخيهم , لولا اختلافُ الطير في الرايات وحَّدتِ الشعوبُ – دروبَ فكرتها . نهايتُنا بدايتنا...
وإِنَّ الأَرضَ
تُورَثُ
كاللغهْ
لو كان ذو القرنين ذا قرن ’ وكان الكونُ أَكبرْ
لتشرَّقَ الشرقيَّ في أَلواحِهِ ..وتغرَّبَ الغربيُّ أَكثرْ
لو كان قصيرُ فيلسوفاً كانت الأرضُ الصغيرةُ دارَ قيصرْ
تاريخُنا تاريخنا...
ولنَخلة البدويَّ أن تمتدِّ نحو الأَطلسيِّ
على طريق دمشقَ كي نشفى من الظمأ المميت إلى غمامهْ
تاريخُنا تاريخهم
تاريخهم تاريخُنا
لولا الخلافُ على مواعيد القيامهْ !
من وحَّد الأَرضَ العنيدة خارج السيفِ المُرَصَّع بالحماسةِ؟
لا أَحدْ...
من عاد من سَفَرٍ إلى حَبَقِ الطفولةِ؟
لا أَحَدْ
من صاغَ سيرته بمنأى عن هُبُوب نقيضها وعن البطولةِ؟
لا أَحدْ...
لا بُدَّ من منفى يَبيضُ لآلئ الذكرى ويختزلُ الأَبَدْ
في لحظة تسعُ الزمانَ ,
...لعلَّهم كتبوا على أَسمائهم أسماءَهم ,
وتذكروا في فضة الزيتون أَوَّلَ شاعرٍ سَجَّى هناك سماءهم
يا بحر إِيجةَ ’ عُدْ بنا يا بحرُ..قد نبحتْ كلابُ العائلاتْ
لتعيدَنا من حيث هَبَّتْ ريحُنا ...فالنَّصْرُ مَوْتْ
والموتُ نصرٌ في هِرَقْلَ...وخطوةُ الشهداء بَيْتْ
نجن الذين أتو لكي يأتون وينتصروا ...رمتنا الكاهناتْ
بشمال غربتنا ولم يَسْأَلنَ عن زوجاتنا . من ماتَ ماتَ,
ومن تذكَّر بيتَهُ قتل المزيد من العجائر والبناتْ
أَلقى بأَطفال المدينة من أسرتهم إلى الوادي السحيق
ليعود قبل الوقتِ من الشيطان،
هل خُنَّا نظامَ ضميرنا
لتخوننا زوجاتُنا ؟
كان الضميرُ إليهنَّ البخورَ وعطرَ هيلينَ الجميلة
النصر موت كالهزيمة ’ والجريمة قد إلى الفضيلة
يا بَحْرُ ! أَنتَ تُزيَّنُ القتلى بقاتلهم ’ أَعِدْنَا أيها البحرُ القديمُ
إلى نُباح كلابنا في أَرضنا الأولى وتابعْ أَيها البحرُ القديمُ
مغامرات البحث عمَّا ضاعَ من أسطولنا ... وزوارق الصيد القديمةِ ، عن رجال أَصبحوا شجراً من المرجان في القيعانِ ,
أَما نحن , فاحملْنا لنرجعَ
من حروب الذَّودِ عن عرشَ السرير إلى فراشِ نسائنا
وإلى قماش الحور أَخضرَ في الرمادِ وفي رؤى شعرائنا
لا بد من بَرِّ لنرسُوَ فوق خطوتنا وبُنْدُقِ دارنا
فالضوء – هذا الضوء ’ لا يكفي لنقطف فيه توتَ ديارنا
....كانوا هناك يحاورون الموجَ كي يتشبَّهوا بالعائدين من المعارك تحت قوس النصر . لم تذهب منافينا سدى أَبداً ’ ولم نذهب إلى المنفى سدى . سيموت موتاهم بلا ندمٍ على شيءِ وللأحياءِ الماضي بحاضرهم ’ وأن يبكوا على مهلٍ على مهلٍ لئلاَّ يسمع الأَعداءُ ما فيهم من الخزف
المكسَّر أَيها الشهداءُ قد كنتم على حَقَّ ’ لأَن البيت أَجملُ من طريقِ البيتِ , رغم خيانةِ الأَزهار ’ لكنَّ النوافذَ لا تُطلُّ على سماء القلب...
والمنفى هو المنفى هنا وهناك . لم نذهب إلى المنفى سُدىً أَبداً ’ ولم تذهبْ منافينا سُدىً
والأرضُ
تُوْرَثُ
كاللغة !
....لم يُشْبهوا الأسرى ’ ولم يتقمَّصُوا حريةَ الشهداءِ . لم يتخلَّصوا من
صيف وحشتهم . لماذا أَشعلوا الجبلَ البعيد بنارِ وحشتهم ’ وغابوا حين لم يجدوا لمنحدراتهم طُرُقاً تُوزِّعهم على الوديان ؟ قد يأتي الرعاةُ الأولون
إلى الصدى . قد يعثرون على بقايا صوتهم وثبابهم , وعلى زمان سلاحهم , وعل تعرُّج نايِهِمْ مِنْ كُلِّ شعبٍ أَلَّفوا أسطورةً كي يشبهوا أَبطالها ’ في كلِّ حربٍ ماتَ منهم فارسٌ ’ لكنَّ للأَنهار وِجْهَتَها وليس الأَمس أَمس
ليسكنوا أَعلى قليلاً من مَصَبِّ النهرِ
جيتاراتُهُمْ فَرَسٌ وأَندلُسٌ على قدَمَيْ
فتاةِ الريحِ دُقِّينا على إِبَرِ
الصنوبرِ الغابات دُقِّينا تَرِقَّ الروحُ
فينا نتركِ الميناء للميناء دُقَّينا
بايقاع النبيذ على سواد السرِّ بين الأَبيضين
وَخلِّصينا الآن من مُرْجانِ واديكِ
الكبير وعَلِّمينا مهنةَ الفَرَحِ المَسَلح
بالدم الغجريِّ دُقِّينا ودُقّي ما يُطلُّ
من القلة بكعبك العالي لتلتفت
الشعوبُ إلى بداية حربها : رَجُلٌ
يفتش في البراري عن سكينته
ويسكن امرأَهْ
....وعلى أَعالي الموج , موج البحر والصحراء كانوا يرفعون جزيرةً لوجودهم
إِني وقد دافعتُ عن سَفري إِلى قَدَري أدافع عن نشيدي
بين النخيل وظلِّه المثقوبِ . من عدمى سأمشي من جديدِ
نحو الوجود – يقول شاعرهم وقد عادوا – سأترك للبعيدِ
ولزهرة الليمون جِسْرَ الأَزرقِ المكسورِ بالأمطار .مُرُّوا
يا منشدونَ , إذا استطعتم أَن تُعيدوا
للخيول صهيلها ’ مُرُّوا إِذاً يا منشدونْ
الخيلُ تلهثُ خلف قلبي وهو يقفز من يديَّ إلى السدودْ
ها نحن نحن, فمن يغيَّرنا ؟ نعودُ ولا نعودْ
ونسير فينا...
عندما يأتي نهارٌ واحدٌ لا موتَ فيه
وليلةٌ لا حلمَ فيها , نبلغ الميناءَ محترقين بالوردِ الأَخيرِ
وكأَنهم عادوا ,
لأَن البحر يهبط عن أَصابعهم وعن طرف السريرِ
كانوا يرون بيوتهم خلفَ السحابِ
ويسمعون ثُغاءَ ماعزهم , وكانوا
يتحسَّسون قُرونَ غزلانِ الحكايةِ..
يضرمون النارَ فوق التَّلِّ . كانوا
يتبادلون الهالَ كانوا يعجنونَ فطائرَ العيد السعيدِ
أَتذكرون؟
أَيامَ غربيتنا هناك ؟ ويرقصون على الحقائبِ ساخرينْ
من سيرة المنفى البعيد ومن بلاد سوف يهجرها الحنينْ
هل تذكرون حصارَ قرطاجَ الأَخيرْ؟
هل تذكرون سقوطَ صورْ
وممالكَ الإفرنجِ فوق الساحلِ السوريَّ ’ والموتَ الكبيرْ
في نهر دجلةَ عندما فاضَ الرمادُ على المدينةِ والعصورْ؟
((ها نحن عدنا يا صلاح الدين))...
فابحث عن بَنِينْ.
كانوا يعيدون الحكاية من نهايتها إلى زمن الفكاهةْ
قد تدخل المأساةُ في الملهاة يوماً
قد تدخل الملهاةُ في المأساة يوماً..
في نَرْجسِ المأساة كانوا يسخرونْ
من فِضَّة الملهاة , كانوا يسألون ويسألون:
ماذا سنحلم حين نعلم أَن مريمَ امرأة؟
كانوا يشمّون الحشائشَ وهي تفتح في الجدار ربيعَها وجروحَهم
وتعيدهم من كل منفى . لَسْعَةُ القُرَّاصِ تشبهُ لسعةَ الأَفعى
ورائحةُ الحَبَقْ
هي قهوة المنفيّ ...ممشى للعواطف حين تمشي في منازلها...
وصلنا !
صَفَّقُوا لكلابهم , لبيوت عودتهم , لأَجدادِ الحكايةِ , للمحاريث القديمة ,
لاحتكاك البحر بالبصل المُعَلِّق فوق أَسلحة قديمهْ
ما كان كانَ ومازحَ الأَزواجُ زوجاتِ الجنازاتِ :
انتهينا من دموع النادباتِ ’ الراقصات , الباكياتْ
نروى , إذاً , رَكْضَ القلوبِ مع الخيول إلى هبوب الذكرياتْ
نروي صُمُودَ هِرَقْل في دمه الأَخيرِ وفي جنون الأمهاتْ
ونَكُونُهُ ,
ونكونُ أُوليسَ إِذا أَرادَ البحرُ ذلك يا بناتْ
نروي ونروي ’ حينما نروي , نداءَ القائد الكُرديِّ
للمتردِّد العربيِّ : هاتْ
سيفاً
وخُذْ مني الصلاةَ على النبيِّ وصَحْبِهِ ونسائِهِ
وخذِ الزكاةْ
...ضحكوا كثيراً : قد يكون السجن أَجمل من بساتين المنافي
ورأوا نوافذهم تطلّ على فُكاهتهم وتُوقد ورْدَها حول الضفافِ
ما كان كانَ , سيقفزون على السلالم ,
يفتحون خزائن الذكرى
وصندوقَ الثيابِ
يُلَمِّعُون مقابضَ الأَبواب أَحياناً,
وأَحياناً يَعُدُّون الخواتمْ
كُبرَتْ أَصابعُهُم مع الأَيام وانتفخت محاجرهم
ولم يجدوا على صَدَأ المرايا والزجاج وجوههم
حسناً ,
ستتسع الحديقةُ عندما يصلون بعد هنيةٍ قبل النشيدْ
وسينظرون وراءهم :
هانحن نحن , فمن سيُرجِعُنا إِلى الصحراءِ؟
سوف نُلَقِّن الأَعداء درساً في الزراعة وانبثاق الماء من حجرٍ...سنزرع فلفلاً في خوذة الجنديِّ ... نزرعُ حنطةً في كل منحدرٍ لأنَّ القمح أَكبر من حدود الإِمبراطورية الحمقاءِ في كل العصورِ سنقتقس عادات موتانا ونغسل فضَّة الأشجار من صدأ السنينِ...
بلادُنا هي أن تكون بلادَنا
وبلادنا هي أَن نكون بلادَها
هي أن نكونَ نباتَها وطيورَها وجمادَها
وبلادُنا ميلادُنا
أَجدادُنا
أَحفادُنا
أَكبادُنا تمشي على أَو زغبِ القطا ,
وبلادُنا هي أَن نُسيِّج بالبنفسج نارَها ورمادَها
هي أَن تكون بلادَنا
هي أن نكون بلادَها
هي جَنَّةٌ
أَو محنةٌ
سَيَّان –
سوف نُعَلِّم الأعداءَ تربيةَ الحمام إذا استطعنا أَن نُعَلِّمهمْ وسوف ننام بعد الظهر تحت عريشةِ العنبِ الظليلةِ , حولنا قططٌ تنام على رذاذِ الضوءِ
أحصنةٌ تنام على انحناء شرودها . بَقَرٌ ينامُ ويمضغ الأعشاب َ . ديكُ لا ينام
لأن في الدنيا دجاجاتٍ وسوف ننامُ بعد الظهرِ تحت عريشةِ العنبِ
الظليلةِ كمْ تعبنا .. كم تعبنا من هواء البحر والصحراءِ –
....كانوا يرجعُونَ
ويحلمون بأَنهم وصلوا
لأَن البحر ينزل عن أَصابعهم وعن أكتاف موتاهم
وكانوا يشهدون ’ فُجاءَةً : ريحانة البطل المسجّى فوق خطوته الأَخيرةْ :
أَهنا يموت على مسدسه وسُندسِهِ وعَتْبَتِهِ الأخيرةْ؟
أهنا يموت هنا ؟ هنا والآن في شمس الظهيرةْ
والآن , هَزَّت إصبعاه بشارةِ النصر الأخيرةْ
بوَّابةَ البيتِ القديم , وهزَّ أَسوار الجزيرةْ
الآن سدَّدَ آخرَ الخطوات نحو الباب ... واختتم المسيرةْ
برجوع موتانا . ونامَ البحرُ تحت نوافذ الدّور الصغيرةْ
...يا بحرُ ! لم نخطئ كثيراً ..أيها البحرُ القديمْ
لا تُعْطِنا ’ يا بحُ ’ أَكثر من سِوان ...نحن ندري
أن الضحايا فيك أَكثرُ والمياهْ هي الغيومْ
....كانوا كما كانوا وكانوا يرجعون ويسألون كآبة الأَقدارِ
هل لا بُدَّ من بطلٍ يموت لتكبر الرؤيا وتزداد النجومْ
نجْماً على راياتنا ؟
لم يستطيعوا أن يضيفوا للنهايةِ وردةً
ويغَّيروا مجرى الأَساطير القديمة :
فالنشيدُ هو النشيدْ :
لا بُدَّ من بطلٍ يخرُّ على سياجِ النصرِ
في أوج النشيدْ
....يَا أيها البطل الذي فينا .. تَمَهَّلْ !
عِشْ ليلةَ أُخرى لنبلغ آخر العمر المُكلَّلْ
ببداية لم تكتملْ ،
عِشْ ليلةً أُخرى لنكملَ رحلةَ الحُلُم المُضَرِّجْ
يا تاجَ شوكتنا ، ويا شَفَقَ الأساطيرِ المُتَوَّجْ
ببدايةٍ لا تنتهي . يا أيها البطلُ الذي فينا ...تمهَّلْ !
عِشْ ساعةً أُخرى لنبدأ رقصةَ النصرِ المُنَزَّلْ
لم ننتصر , بعدُ ’ انتظرْ يا أيها البطلُ انتظرْ
فعلامَ ترحلْ
قبل الوصولِ بساعةٍ ؟
يا أيها البطلُ
الذي
فينا
تمهِّلْ !
...مازالَ فيهم من منافيهم خريفُ الاعترافْ
ما زال فيهم شارعٌ يفضي ؟إلى المنفى ...
وأَنهارٌ تسير بلا ضفافْ
ما زال فيهم نرجسُ رخوٌ يخاف من الجفافْ
ما زال فيهم ما يغيِّرهم إِذا عادوا ولم يجدوا :
الشقائق ذاتها
وَبَرَ السفرجلة العنيدة ذاتَها
والأقحوانةَ ذاتَها
والأَكيدنيا ذاتَها
وسنابلَ القمح الطويلةَ ذاتَها
والبيلسانةَ الثومِ المجفَّف ذاتهَا
والسنديانَةَ ذاتَها
والأَبجديةَ ذاتَها
...كانوا على وشك الهبوط إلى هواءِ بيوتهم..
من أَيَّ حلم يحلمون ؟
بأيِّ شيء يدخلون حدائقَ الأَبوابِ
والمنفى هو المنفى
...وكانوا يعرفون طريقَهم حتى نهايته وكانوا يحلمونْ
جاءوا من الغد نحو حاضرهم ... وكانوا يعرفونْ
ما سوف يحدث للأغاني في حناجرهم ... وكانوا يحلمونْ
بقرنفُل المنفى الجديدِ على سياجِ البيت , كانوا يعرفونْ
ما سوف يحدث للصقور ’ ويحلمونْ
بصراعِ نرْجِسِهم مع الفردوس حين يصير منفاهم , وكانوا يعرفونْ
ما سوف يحدث للسنونو حين يْحرقه الربيعُ , ويحلمونْ
بربيع هاجسهم يجيءُ ولا يجيءُ , ويعرفونْ
ما سوف يحدُث حين يأتي الحُلْمُ من حُلُمٍ
ويعرف أنه كان يحلمُ ،
يعرفُون , ويحلمُون , ويرجعُون , ويخلُمون , ويعرفُون ’ ويرجِعُون ’ ويرجعُون ’ ويحلُمون ’ ويحلُمون , ويحلمُون , ويرجعُونْ .
https://www.youtube.com/watch?v=f29wqKlfi_w
حاتم أبو زيد- عضو متميز
- عدد المساهمات : 447
تاريخ التسجيل : 29/04/2010
رد: مأساة النرجس من أشعار محمود درويش
أحتاج عمراً فوق عمري كي أقرأ هذه القصيدة كما يجب .
شكرا حاتم دائماً أنت رائع في نقل ما نحتاجه من أشعار عذبه .
شكرا حاتم دائماً أنت رائع في نقل ما نحتاجه من أشعار عذبه .
عشتار- عضو متميز
- عدد المساهمات : 895
تاريخ التسجيل : 23/04/2010
رد: مأساة النرجس من أشعار محمود درويش
وشكراً لأنك هنا صديقتي عشتار أشتاق إلى هذا المرور وإلى هذا الحضور المميز .
حاتم أبو زيد- عضو متميز
- عدد المساهمات : 447
تاريخ التسجيل : 29/04/2010
مواضيع مماثلة
» إلى القارىء من أشعار محمود درويش .
» مرثية من أشعار محمود درويش
» انتظرها من أشعار محمود درويش .
» عن الصمود .. من أشعار محمود درويش
» الحزن والغضب ..أشعار محمود درويش .
» مرثية من أشعار محمود درويش
» انتظرها من أشعار محمود درويش .
» عن الصمود .. من أشعار محمود درويش
» الحزن والغضب ..أشعار محمود درويش .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» بعد إذن الغضب في الذكرى الثالثة عشر لوفاة امي
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» من روائع الأدب الروسي أمي لأنطون تشيخوف
الخميس 17 أكتوبر 2024 - 11:18 من طرف هبة الله فرغلي
» مشوار الصمت ... إلى روح أبي الطاهرة في ذكرى رحيله الثالثة عشر
الخميس 3 أكتوبر 2024 - 12:13 من طرف ميساء البشيتي
» في الذكرى الثانية لرحيل الوالد عام مرَّ .
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 12:15 من طرف ميساء البشيتي
» عيد ميلاد ابنتي دينا
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 11:13 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل إلى أمي
السبت 28 سبتمبر 2024 - 13:05 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل في الهواء
السبت 7 سبتمبر 2024 - 12:30 من طرف ميساء البشيتي
» أن تملك مكتبة - أن تخسر مكتبة ..شجاع الصفدي
الخميس 5 سبتمبر 2024 - 11:27 من طرف خيمة العودة
» طباق إلى إدوارد سعيد ..محمود درويش
السبت 31 أغسطس 2024 - 12:05 من طرف حاتم أبو زيد
» سلسلة حلقات جاهلية .
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 12:10 من طرف ميساء البشيتي
» لمن يهمه الأمر
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 11:52 من طرف هبة الله فرغلي
» عندما تنتهي الحرب بقلم شجاع الصفدي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:17 من طرف خيمة العودة
» شجرة التين بقلم نور دكرلي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:11 من طرف خيمة العودة
» عيد ميلاد سعيد يا فرح
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 12:49 من طرف ميساء البشيتي
» مطر أسود
الإثنين 12 أغسطس 2024 - 10:29 من طرف ميساء البشيتي
» بـــ أحس الآن ــــــــ
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» أنا .. أنت .. نحن كلمة ( مشاركة عامة )
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» فقلْ يا رب للشاعر الفلسطيني صبحي ياسين
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:24 من طرف خيمة العودة
» ثورة صامتة
الإثنين 29 يوليو 2024 - 10:53 من طرف مؤيد السالم
» فضل شهر الله المحرّم وصيام عاشوراء
الثلاثاء 16 يوليو 2024 - 11:14 من طرف فاطمة شكري
» "عيون جاهلية" إصدار ميساء البشيتي الإلكتروني السادس
الإثنين 15 يوليو 2024 - 17:53 من طرف ميساء البشيتي
» سيد الصمت .. إلى أبي في ذكرى رحيله السادسة
الأحد 7 يوليو 2024 - 14:45 من طرف ميساء البشيتي
» ليلاي ومعتصمها
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:24 من طرف مريومة
» غزلك حلو
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:21 من طرف ريما مجد الكيال