بحـث
من أنا ؟
حقوقية، كاتبة، ناشطة في شؤون بلادي وشؤون المرأة، لي عدة منشورات ورقية وإلكترونية
المواضيع الأخيرة
كتب ميساء البشيتي الإلكترونية
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
لقاء الخريف ( سلسلة أجزاء )
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
لقاء الخريف ( سلسلة أجزاء )
لقاء الخريف
(1)
أتى الخريف في موعده , كنت في انتظاره , أنا , وقهوته المعتادة , وبعض جرائد الصباح المنثورة بعشوائية على مائدة اللقاء .
حيَّاني الخريف وفي عينيه ألف سؤال , وأكثر من نظرة عتاب : لماذا لم يخرجوا لاستقبالي ؟
أجبت بنبرة منخفضة تحاول جهدها أن ترتفع قليلاً , وكأنها لم تصفع بالسؤال , وبنظرات العتاب : أتيت أنا , ألا يكفي حضوري يا خريف , وتابعتُ قبل أن يكرر على مسامعي نفس السؤال , قلت بنبرة فيها حسُّ المزاح : أنتَ يا خريف تعلم جيداً أنك حين تأتي تمتد الأرض طولاً وعرضاً حتى تكاد ترى كل شيءٍ أصبح أرضاً , وترتفع السماء قليلاً , قليلاً , حتى أنك تظن أن السماء قد رفعت يدَّها عن الأرض , وأعلنت تخلِّيها الكامل عنها للخريف , وتسليمها إليه تسليم اليد !
وحين لمحتُ في عينيه بعض الاهتمام أدركت أنني في المسار الصحيح فأتممت : والدراسة فتحت أبوابها من جديد فاحتضنت أبناءها , وأخذتهم بين ذراعيها , وأنتَ يا خريف تعلم كل العلم أنَّ أبناءها هم من يهبُّون عادة لاستقبالك , وتزيين الشوارع , والمنصات , وفرد المساحات الحمراء والخضراء , وإطلاق البالونات الملونة في الهواء , وكل ما يتبع من طقوس الاحتفالات .
يبدو أن الجزء الأخير من إجابتي لم يرق للخريف فهزَّ رأسه دون اكتراث , ثم نظر في عينيَّ , وأردف متسائلاً .. وبقية القوم أينهم ؟
عدل سابقا من قبل ميساء البشيتي في السبت 2 يناير 2016 - 13:55 عدل 1 مرات
رد: لقاء الخريف ( سلسلة أجزاء )
(2)
تلعثمت , ولم أدرِ بمَ أجبه ؟
هل أقول له أن قومي لا يحبُّون الخريف .. بل ويشعرون أنه كارثة ثلاثية الأبعاد !
هل أقول له أن النساء في قبيلتي تختفي من وجه الخريف كما تختفي من وجه الشيطان , متشائمة من حضوره الذي ينذرها وربما يهددها بكهولة مبكرة !
وأن أسياد القوم لا يحبذون مخالطة الخريف كثيراً , والخوض معه في أحاديثٍ لا تروق لهم على بال , لأنهم يستشعرون أن الخريف يقصف أجل أحلامهم , ويبدد الكثير من آمالهم مع عواصفه التي تهبُّ دونما سابق إنذار أو ميعاد .
هل أخبره أن قومي جميعهم من الكبير إلى الصغير صرَّحوا لي , وشددوا , على أن ألتقي الخريف على مائدة بعيدة عن حدائقهم , لا يريدون أن يعكروا صفاء أعينهم بأوراق الأشجار الأيلة للتساقط وهي تهبط صفراء , مهترئة , ساكنة , مستسلمة ليد الغدر ..
يد الخريف .
قاطعني فجأة .. أخرجني من صمتي وذهولي : أما زال قومك من أنصار الربيع .. أما يزالون يرفعون رايات الربيع , ويهللون لقدومه .. أما يزالون يثقون أن الربيع يهديَّهم الورود الحمراء , وقصائد الغزل ؟
الربيع يا صديقتي غدر بهم , وهم ما يزالون على العهد والولاء له , ويتنكرون لي , ويصفونني بأنني أنا ذلك السفاح , مصاص الدماء , " الدراكولا " ! وأنا الذي شاهدت بأمِّ عيني أنهار الدماء تسيل من ربيع إلى آخر , حتى أن الشمس اشتكتهم إليَّ في آخر لقاء .. الشمس اشتكت بطش الربيع وتجبره .. وقالت بالحرف الواحد : الربيع تطاول جداً على بني البشر , قصف أعمار أزهارهم قبل أن تتفتح في حدائق العين , و كان شحيحاً في كل شيء .. إلا في آبار الدمار , فلقد حفر بئراً في حديقة كل بيت .
سكتُّ .. لم أعرف بماذا أجبه .. فاجئني بكل ما يعرفه , وأكاد أن أخفيه , وغير مجرى الحديث الذي كنت قد أعددته له
رد: لقاء الخريف ( سلسلة أجزاء )
(3)
نظر إليَّ بحنان مفاجىء وقال : أنتِ لا ذنبَ لك .. أنتِ يا صديقتي بلا أدنى شكٍ تكفين .. حضورك الملائكي يكفي .. ورود استقبالك تكفي .. رحيق كلامك يكفي .. كل شيء منك يكفي ويكفي .. فتعالي إليَّ .. دعينا نشرب أحاديث القهوة معاً .. ثم أقرأ من بعدها عينيك .
تنفست الصعداء أنني خرجت من هذا المأزق بسلام , على الرغم من أنني كنت أثق برجاحة عقل الخريف , وسعة صدره , وأنه لن يقف عند مسائل بسيطة , ويترك حضوري الأكثر أهمية يمرُّ دون أن يقبِّله من بين عينيه , ويتصفح عناوين الأخبار من مقلتيه , ويسمع أعذب الألحان من بين شفتيه , ويغني ملء صوته كما اعتاد في كل خريف على موائد اللقاء .
بدأت مشوار التذمر والشكوى , ألقيت برأسي على صدره , وأغرقته بدموع اختلط فيها الصدق مع الكذب !
الخريف وحده من يسمح لي بالكذب أحياناً , كي أبوح له بكل ما يعتمل في قلبي من عواصف , وبراكين ثائرة , وينتزع هو بمهارة الحاوي الحروف الملتوية كما تُنتزع من العجينة الشعرة ,
دون أن أشعر أنا , أو يشعرني هو كم بُحت إليه بحديثٍ كذب !
قلتُ , كما كل خريف أقول , وأتذمر , وأطيل في الشكوى , وحيدة أنا , هجرني قومي , وهجرتهم , وأنني أمضيت الوقت , أعدُّ الساعات بانتظار أن يلوح إليَّ الخريف بيده , وها قد أتيت قبل الوقتِ بوقتٍ طويل لأنمق الجلسة , وأنني وضعت له ركوة القهوة قبل الفجر بدهر , لكنَّه البرد آخذ معه كل أبخرة القهوة , وأنني أرسمه كل صباح في دفتر الرسم , وأعرض لوحاتي على المارة , لكنهم يمرُّون عنها كأنها غير مرئية لهم , أوكأنني أنا التي لا أرى .
قلت كثيراً .. كثيراً .. وكان الخريف يصغي إليَّ مستمعاً .. لا يقاطع حديثي أبداً .. لكنَّه كان يخرج منديله بين الفينة والأخرى ليمسح الدمع المنكسب بغزارة المطر , قبل أن يخربش الكحل معالم وجهي , فأبدو كلوحة تاهت فيها ريشة رسام فلم تعد تدري أهيَّ أرض أم بقايا حطب ؟
رد: لقاء الخريف ( سلسلة أجزاء )
(4)
قلتُ فيما قلت .. لم يزرني أحد .. أمضيتُ الصيف وحيدة أتسلق جبال الوحدة , وأعدُّ الصخور التي من حولي , وأنه قد ينبت الزهر في الصخر لو أطلت المكوث والعدَّ .
قلتُ فيما قلت أيضاً أنَّ الرفاق قد رحلوا .. بعضهم هاجر , وبعضهم انتقل إلى الضفة الأخرى من الحياة , وبعضهم اعتكف في صومعة الصمت , وبعضهم غلَّف نفسه بأوراق النسيان .
وأنَّ الطيور التي كانت تقيم في العش المجاور رحلت .. وأنَّ ديك الجوار الذي كان يوقظني صوته كل صباح قد أصابه الخرس , وينتظر الذبح في أول ربيع قادم .. وأنَّ القطة المشاغبة التي كانت تمزق أوراق الورد أصابتها شيخوخة مبكرة , فذبلت الوردة قبل أن تُقِّطع أوراقها في لعبتها المفضلة يحبني أولا يحبني!
قلت كثيراً , صدقاً وكذباً , بكيت على صدر الخريف كما لم أبكِ قط .. ثم رفعت عينيَّ الممتلئة بالدموع إلى عينيه فوجدتها باسمة , ممتلئة بالحب , والدفء , والحنان , ففهمت على الفور أنه يريدني أن أكمل كذبي , وصِدقي , وبكائي , وأن أبقي رأسي متكئة على صدره إلى أن أنتهي من حديثي , أو يملَّ هو من كذبي .
رد: لقاء الخريف ( سلسلة أجزاء )
(5)
قال وهو يرفع ناظريه نحو السماء , ثم يميل قليلاً بنظراته نحوي : كل خريفٍ تشتكي من ذات الوحدة .. يبدو أنك يا صغيرتي لا تتعلمين من الحياة دروساً حقيقية .. أنا وقبل أن تبدئي حديثك الشجي هذا كنت مثلك ممتعضاً من قومك الذين خذلوا قدومي , ولم يأتوا للترحيب بيَّ , ولكنِّي سرعان ما نفضت الفكرة من رأسي , ليس لأنَّ حضورك وحده يكفيني فقط , بل لأن حضورهم لم يعد أبداً يعنيني .
في الحياة أيتها الصديقة الوفية الكثير من المتغيرات .. ربما تلحظينها في الطبيعة , وفي حالة الطقس , وتلمسينها في أوراق الشجر , ونمو الزرع في مفاصل الصخر , وتغير مسار الريح ومجرى النهر , ولكن هناك من المتغيرات الكثير والعديد , ولكنك لا تلمسينها لأنك لا تريدين ذلك , وهي التغيرات التي تعتري سلوك بني البشر !
رد: لقاء الخريف ( سلسلة أجزاء )
(6)
هنالك من أصبحت قلوبهم أقسى من الصخر , وهناك من تلونت أمزجتهم , وتقلبت أراؤهم , وماتت ضمائرهم , وتضخمت قوى الشر في نفوسهم , ومنهم من أهدى روحه إلى الشيطان , ومنهم من استعار من الشيطان عباءته وقرنيه , فأصبح لديه قرنان ينطح بهم أفئدة أحبته .
لا تحدثيني عن قسوة البشر , ولا تقارني حديثي عنهم بحديثي عن قسوة الصخر ، فالصخر خلق ليكون صخراً , صلباً , قاسياً , ولو كان هشاً لانتفت عنه صفة الصخر !
بينما الماء خلق ليكون صافياً , رقراقاً , عذباً , سلسبيلاً , وإلا لأصبح ماء الموت , وليس ماء الحياة والعين .
والجبال الشاهقات خلقت متعرجة ليسهل صعودها ووصول القمم , ولو كانت سهلة , منبسطة , لما ارتفع البشر عن سطح الأرض !
هذا الحال يا صغيرتي لا ينطبق على بني البشر . فالبشر أصبحوا قساة القلوب , بل أقسى من الصخر . ضمائرهم , أفئدتهم , أحاسيسهم ، أحاديثهم .. كلها ملتوية , متعرجة ..أكثر من الجبال الشاهقات القمم , ونفوسهم مالحة أكثر من مياه البحار , ورؤاهم شحيحة كأمطار الصيف على الأراضي المقفرة , وعقولهم جدباء كأشجار الزينة .. جميلة نعم لكنها غير مثمرة .
وأكثر من ذلك بكثير .. فهؤلاء قوم لا يُعتب عليهم , ولا يؤخذ منهم عنبٌ .. بعد طول العتب !
رد: لقاء الخريف ( سلسلة أجزاء )
(7)
وقلبي يا أيها الخريف , قلبي اليافع كيف له لكل هذه المتغيرات أن يفهم ؟
قلبي لا يريد الكثير , ولا يريد المستحيل , يريد أن يفتح نوافذ النهار على شمس ذهبية , وليس على شمس كالحة ، يريد أن يسمع زقزقات العصافير , وليس أصوات نواحها , يريد مصافحة أوراق الورد , وليس وخزات أشواكها ، يريد أن يقبِّل الياسمين من بين عينيه , لا أن يضمد عينيَّ الياسمين بعد أن أصيبت بمقتل , يريد أن يجمع حبيبات اللؤلؤ عن شاطىء البحر , لا أن يجمِّع طلقات البارود ، يريد أن يرسم خريطة قلبه على فنجان القهوة , ثم يتتبع أثره ، لا يريد أن يرسم فخاً لصديق , ثم يسرع الخطى ليتقبِّل فيه خالص العزاء !
رد: لقاء الخريف ( سلسلة أجزاء )
رائع جدا
سعدت بالمرور من هنا
سعدت بالمرور من هنا
عروة زياد- عضو جديد
- عدد المساهمات : 126
تاريخ التسجيل : 29/06/2011
مواضيع مماثلة
» قصيدة البردة (البوصيري)
» لا لقاء .. بل لقاء .. لقاء .. لقاء
» في وداع الخريف
» عودة الخريف..
» حديث الخريف
» لا لقاء .. بل لقاء .. لقاء .. لقاء
» في وداع الخريف
» عودة الخريف..
» حديث الخريف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» بعد إذن الغضب في الذكرى الثالثة عشر لوفاة امي
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» من روائع الأدب الروسي أمي لأنطون تشيخوف
الخميس 17 أكتوبر 2024 - 11:18 من طرف هبة الله فرغلي
» مشوار الصمت ... إلى روح أبي الطاهرة في ذكرى رحيله الثالثة عشر
الخميس 3 أكتوبر 2024 - 12:13 من طرف ميساء البشيتي
» في الذكرى الثانية لرحيل الوالد عام مرَّ .
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 12:15 من طرف ميساء البشيتي
» عيد ميلاد ابنتي دينا
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 11:13 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل إلى أمي
السبت 28 سبتمبر 2024 - 13:05 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل في الهواء
السبت 7 سبتمبر 2024 - 12:30 من طرف ميساء البشيتي
» أن تملك مكتبة - أن تخسر مكتبة ..شجاع الصفدي
الخميس 5 سبتمبر 2024 - 11:27 من طرف خيمة العودة
» طباق إلى إدوارد سعيد ..محمود درويش
السبت 31 أغسطس 2024 - 12:05 من طرف حاتم أبو زيد
» سلسلة حلقات جاهلية .
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 12:10 من طرف ميساء البشيتي
» لمن يهمه الأمر
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 11:52 من طرف هبة الله فرغلي
» عندما تنتهي الحرب بقلم شجاع الصفدي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:17 من طرف خيمة العودة
» شجرة التين بقلم نور دكرلي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:11 من طرف خيمة العودة
» عيد ميلاد سعيد يا فرح
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 12:49 من طرف ميساء البشيتي
» مطر أسود
الإثنين 12 أغسطس 2024 - 10:29 من طرف ميساء البشيتي
» بـــ أحس الآن ــــــــ
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» أنا .. أنت .. نحن كلمة ( مشاركة عامة )
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» فقلْ يا رب للشاعر الفلسطيني صبحي ياسين
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:24 من طرف خيمة العودة
» ثورة صامتة
الإثنين 29 يوليو 2024 - 10:53 من طرف مؤيد السالم
» فضل شهر الله المحرّم وصيام عاشوراء
الثلاثاء 16 يوليو 2024 - 11:14 من طرف فاطمة شكري
» "عيون جاهلية" إصدار ميساء البشيتي الإلكتروني السادس
الإثنين 15 يوليو 2024 - 17:53 من طرف ميساء البشيتي
» سيد الصمت .. إلى أبي في ذكرى رحيله السادسة
الأحد 7 يوليو 2024 - 14:45 من طرف ميساء البشيتي
» ليلاي ومعتصمها
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:24 من طرف مريومة
» غزلك حلو
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:21 من طرف ريما مجد الكيال