الدكتور عبد القادر حسين ياسين // لــويــس أراغـون وأسـرار الـكـتـابـة

لــويــس أراغـون وأسـرار الـكـتـابـة

ما الذي يجعل واحداً من الناس قوي الحضور ،
وشاهداً على عصره بعد مرور ربع قرن على رحيله؟
أهو الشعر في زمن انحسار متذوقيه؟
أهي الكتابة وقد كسد سوقها؟
أهو التعدد في زمن طغيان أحادية التفكير؟
أم هي الروح الموارة بالحركة التي تواكب التغير ،
وتحتفي بالإنساني والمتجدد؟


لويس أراغـون واحد من كوكبة شعراء فرنسا ،
في القرن العشرين (1897 ـ 1981)،
لم تؤثر ولادته غير الشرعية على تفجر موهبته،
ولم يتردد في ترك دراسة الطب،
والتفرغ للكتابة التي تربطه بالناس ـ كما قالت له أمه حين أبلغها قراره.
ورأى أن وظيفة الكتابة تدوين أسرار الخيال ،
ووسيلة لاستنباط أسرار جديدة منه.


أدرك أراغـون طاقات اللغة غير المتناهية، وفهم احتمالات الحياة،
وتحدى قوى العادات، ولم يخش كسر المتوقع،
وغاص إلى قاع محيط الكلمات لاقتناص لآلئها.


كتب أراغـون القـصيدة والأغـنية والرواية والدراسة النقدية والمقالة،
وكتب عدداً من المقـدمات لكتب أدباء من فرنسا ومن أنحاء العالم،
ومارس الصحافة، وعمل مديراً لمجلة "الآداب" الفرنسية،
وأبرز عدداً من الكتاب الشباب، واكتشف مواهب وقامات أدبية مرموقة ،
مثل بيتشيت وسوللر، وعـدّ الكتابة "الشكل الأرقى بين أشكال الفكر"،
ورأى أن المادة المكتوبة كأنها الحرف الذي يحل ،
عقدة موقف استعصى على الحل ظاهرياً بين الناس،
وهو يجعل الوجود ممكناً لذلك الذي يكتب.


رأى أراغـون أن الكتابة علم المستقبل،
وأنها قوة تغيير للآخر وللعالم وللذات في آن معاً،
ولكنه ظل يردد:
"أنا لم أصل إلى أية حقيقة مؤكدة ،
إلا عبر الشك والقلق والعرق وعناء التجربة.
وأحترم الذين "لا يعرفون" والذين يبحثون ويتلمسون طريقهم ويتعثرون.


وظل يحث على وجوب تسمية الأشياء بأسمائها،
وعلى ضرورة دقّ ناقوس الخطر ، المهمة الأبرز للمبدع ،
في وجه قارعي طبول الحروب.


رأى أراغـون في الحب طاقة خلاقة لبلوغ الأجمل،
فأحب إلزا ، المرأة والفكرة ورمز تجدد الحياة وألقها،
وشغل الدنيا بحبه لها وبجنونه "المتبصر" بها،
ورأى فيها المرأة التي يصير كل شيء من دونها مثل الرمال الهاربة.


ورأى أنه من الصعب أن يُهـزم حـب حـقـيـقـي،
وقال في إحدى قصائده المهداة لحبيبته:
"ذات يوم ، يا إلزا ، ستصعـد أشعاري
إلى شفاه لن تُبتلى بمرض زماننا الغريب ،
ولسوف توقظ أطفالاً ينبضون بالحياة ،
إذ يعلمون أن الحب ليس سوى حمّى ،
وأن هـزيمة العمر الأكيدة له ليست حقيقة
وأن الحب والحياة سواء حتى النهاية"!


سخـر أراغـون من الأنماط الجديدة المبتكرة للطفيلية،
في روايته الشهيرة "أجراس بال"،
وقال فيها على لسان الكاتب باتاي:
"نحن في نهاية عصر، وعلى عتبة عالم، ماذا بوسعـنا أن نفعل؟".
وصـَوَّر في الرواية جان جوريس الاشتراكي الفرنسي ،
الذي اغـتيل فيما بعد ، وهو يخطب في اجتماع الأمـمـيـة الاشتراكية في بال عام 1912، ويقول:


"الأجراس التي يناشد غـناؤها الضمير الشامل،
أنادي الأحياء، وأبكى الموتى، وأحطم الصواعق،
هناك في أمريكا البعيدة تتجمع سحب معتمة،
مثقلة بكهرباء الحروب،
الحرب تُهيأ، إنها هنا، أنادي الأحياء وأبكي الموتى، وأحطم الصواعـق!"


أراغـون صاحب أعمال شعرية ونثرية مهمة منها ،
نار الفرحة، ومجنون إلزا، وتسع أغان ممنوعة،
ومنها روايات "الأحياء الجميلة، والشيوعـيـون، والأسبوع المقـدس"،
وهو السياسي والمترجم والإنسان الذي لم تنته رحلته،
فأشعاره ورواياته تطوف العالم، ويعاد طبعها،
والحياة التي أحبها ما زالت تستحق أن تعاش وتحبّ،
وهو إذ منح الكلمات ألقها، والحبَّ مغازيه العميقة،
والسياسةَ حركتها الدؤوب، أمتعـنا بغـنى تجربتـه،
وأيقظ فينا جرأة المحاولة.