جـورج فـيـلـهـلـم هـيغـل و"الـبـحـث عـن الـذات"
د. عبد القادر حسين ياسين

معرفتي به قديمة...
كان أكبر مني سناً وكنتُ معجباً به جداً.  
أذكر أنني كنت أتمنى دائماً أن أكبر بسرعة لأصبح مثله.
كبرت .....  
أصبحت أقرأ مجلدات  كارل ماركس وفريدريش إنـجـلز ،
وفلاديمير لينين وجوزيف ستالين وروزا لوكسمبورغ .  
كنت أوفر كل مليم أحصل عليه من والدتي المسكينة ،
لأنفق ما جمعته خلال شهور على شراء الكتب الثقافية ،
من "مكتبة الفجر" التي كانت تبيعها بتنزيلات هائلة مرة واحدة في الشهر.
كانت والدتي نموذجـا للفـلاحـة الفلسـطينية البسيطة ،
ولم تكن تعـرف في أي صفّ أنا ...
ولا تجد فائدة تذكر من هـذه " المهزلة " التي يسمونها مدرسة ...
فالولد - كما كانت ترى - " يشتد عـوده ويصلب بالعمل المبكر ... وليس بخرافة التعليم " .
ومع ذلك قبلت تعلمي على مضض ،
مع أن التعليم في مدرسة الوكالة في مخيم النويعـمـة لم يكن يكلفها شيئا.

كنت أذهب إلى المدرسة بأسـمال بالية لأنني لا أملك غيرها .
وكنا نـقـرأ على فوانيس الكاز ؛
إذ لم تكن الكهرباء قد دخلت المخيمات الفلسطينية في بداية الستينات .
فلا مصابيح ، ولا مروحة  تحرك هواء الصيف اللاهـب في أريحا ،
حيث تـصل درجة الحرارة أحيانا إلى 45 درجة مئوية في الظل ،
ولا ثمرة فاكهة تحرك الدم في الوجوه .
قدح الشاي ، وكسرة من  خبز الطابون  ، كانت كافية لجعـل الحياة تستمر .
أذكر أنني اشتريت المجموعة الكاملة لمؤلفات لينين بثلاثة دنانير ونصف الدينار.
والمجموعة الكاملة لمؤلفات ماركس بثلاثة دنانير وخمسة سبعين قرشاً.

كانت فـرحتي لا تضاهـيها فرحة وأنا أضع على رفـوف مكتبتي ،
الفكر الماركسي كله تقريباً بكلفة أقـل من ثمانية دنانير أردنية .
ما كنت أصل إلى بيتي كل يوم حتى أهـرع إلى كتبي تلك ،
أنهل منها ما استطعـت تخزينه في عـقـلي الصغير ، وجسمي النحيف ، ومعـدتي الخاوية.

كان كل هـَـمـّي أن أصبح "ثورياً."

كنت كل مرة ألتقي فيها "الأستاذ عـدلي" ،
أُخرج له ما عـندي من الكتب التي اشتريتها ،
وتلك التي تابعت على شرائها حتى ملأت خزائني ورفوف مكتبتي،
وتبعثرت تحت طاولتي ولحافي ومخدتي..

وكنت كل مرة أحاول أن أظهر فيها لأستاذي ،
الذي "لا يـُعـجبـه العجب... ولا الصيام في رجب" ،
مبلغ ما توصلت إليه في مطالعاتي آملاً أن اسمع منه كلمة ثناء أو تشجيع،
أُفاجأ به يخيّب أملي بنظراته المستخفة المتعجرفة وقوله :
"هذا لا يكفي.. يجب أن تقـرأ هذا قـبـل ذلك... وذاك بعـد ذلك...!"

جمعـتُ ذات مرة كل طاقاتي ، وأقـسمت أنني لن اترك له مجالاً للاستهزاء بي.
حرصت على أن أقرأ كل كلمـة في "الأعـمـال الكاملة لماركس وإنـغـلز"،
ولـينين وروزا لوكسمبورغ وغيرهم من المفكرين الثوريين ،
في محاولة لتعـمـيق ثقافـتي الاشتراكية.

تخـطيـتـه بأشواط في التهجم عـلى الإمبريالية الأمريكية ،
وربيبتها الصهيونية وعملائها من الأنظمة الرجعـية العربية.  
فلم تصدر عـنـه كلمة إعـجاب أو ثناء واحدة، إنما اقترب يسألني :

"هل قرأت مؤلفات جورج فـلـهلـم هيغـل؟ ...
كيف يمكن أن تستوعب مبادئ  الاشتراكية العلمية ،
وأنت لا تعرف شيئاً عن هيغـل؟!..

لعـنته ولعـنت كارل ماركس وفريدريش إنجـلز وفلاديمير لينين ،
وجوزيف ستالين وجورج فيـلـهلـم هيغـل...
وعدت إلى لعـنه ولعـن هؤلاء، وأنا أنظر إلى عيون أخوتي الجائعين،
فمؤلفات ونظريات هؤلاء لم تقـدّم لهم شيئاً إلا الجـوع والعـذاب.

لقد قضيتُ معظم أيام حياتي بالدراسة والبحث في مؤلفات هؤلاء المفكرين ،
وانتهت بي أبحاثي ، بعـد أن زادت في جوعي وعـذابي وتشـردي ،
الى أقصى شمال الأرض... في الـدائرة القطبيـة الشماليـة...
وانتهت بـه "شـطارتـه" (فـتـّح عـيـنـك...تـأكل ملبن" ، كما يقول المصريون) ،
الى مدير كازينو "يلعـب بالبيضـة والحـجـر" في جزر البـاهـامـا...
أظن ( و"بعـض الظنّ"  ـ وليس كلـه ـ إثـم ) ،
أن جورج فيـلـهلـم هـيغـل يـتـقـلب الآن في قـبره...
لو عرف أن فـلسـفـتـه في "البحث عن الذات" ،
انتهت بـ "الأستاذ عـدلي" إلى التنكر لـذاتـه ، وأولئك المستـضـعـفـيـن في الأرض...
و "يـا خـفيّ الألـطـاف... نـجـِّـنـا مـمـا نـخـاف...!!"  
لـو ... لـو تـُفـتـح نافـذة ٌ للحـُلم ،
لـو حـصـلنا على بيت ذاتَ يوم...
سـَنـَنـْصـُب حوله عريشــة ياسمين،
وسـنأذنُ للريحان، أن يـَنمو على الجـُدران...
لـو .....لـو... لـو...


د. عبد القادر حسين ياسين