عـولـيـــس الـفـِلــِســـْطـيـني

د. عبد القادر حسين ياسين

على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ،
نهضت واحدة من أعظم الحضارات القديمة هي الحضارة الآرامية ـ الكنعانية.

وفي هذه المنطقة ازدهرت مدائن رائعة ،
مثل أوغاريت وجبيل وصيدا وصور وعكا وسبسطية ويافا وعسقلان؛

هذه المدائن التي قـدَّمت للبشرية الحرف والفن وعـقـائد الخـصب وديانات الأسرار.

وكانت فـلسطين قـلب هذا العالم القـديم وجوهرته الأنيقة.

ومن شواطئ فـلسطين، ومن موانئ عـكا ويافا وعـسقـلان ،
ابتدعـت المخيلة الفـلسطينية أساطير البحر الجميلة،

وحكايات الأبطال الذين تعـمدوا بماء الملح وباللجج العـميقة ،
وبمقارعة الأنواء الغاضبة، وانغـمروا بزبد الأمواج العاتية.

في تلك البقعة المطرزة بسهول القـمح وبأشجار التـيـن والزيـتون،

والمسيَّـجة بالصبار، انـبـثق إله الخضرة الدائمة ،
الذي صار يدعى "الخضر" أحياناً أو "مار جريس" أحياناً أخرى.

ثم ظهر الإله "داغـون"، إله القمح وأقـدم آلهة الطبيعة،

وهو سرّ الحياة المتجددة في البذرة الأولى،

وسرّ الموت والانبعاث في دورة أزلية لا تنتهي.

ولعـل "نـشـيـد الإنـشـاد" التـوراتي هو، في الأساس،

أغاني الحب والزفاف والحقـول التي ظهرت في هذه الأرض الجميلة،

التي صاغها ببراعة نادرة رعاة الـقـفـار في بيت لحم وقاطنو الوعـر في الجـليل.



هكذا، كانت فـلسطـين دائماً ، مكاناً وادعـاً تلجأ إليه الجماعات الرعـوية،
طلباً للاستقـرار في الأرض والتأمل في السماء.

وفـلسطين الآرامية ـ الكـنعانية هي التي فـتحت ذراعـيـها للأقـوام الوافدة،

وغـمرتها بالدعة، وسربلتها بالطمأنينة، فكانت مسرة للناس وفي أرضها السلام.

وإلى فلسطين جاء إبراهيم الآرامي قادماً من مدينة أور في العراق،

وأقام، بحسب الرواية، في مدينة الخـلـيل طلباً للأمان والرزق معـاً.



كانت أريحـا الـفـلسطـيـنـيـة، أقـدم مـديـنـة في الـتـاريـخ،

أول مكان كـنـعـاني يُـجـيـر التائهـين في برية سيناء.
لكن، بدلاً من ان يحـفـظ هؤلاء التائهـون للـفـلسطـيـنـيـيـن صنيعـهم،
عندما أطعـموهم وسقوهـم،  وفكـّـوا عـنهم الخـوف والجوع والعطش، فـتكـوا بهم.

وما زال الأمر نفسه يتكرر حتى اليوم؛

فأحفاد يـوشـع بن نون يستبيحون بالنار أحفاد الكنعـانيين سكان البلاد الأصلـيـيـن.

في فـلسطين ظهرت المسيحـية كـدين إنساني،
وارث جميع عـقـائد الخـصب القـديمة وديانات الأسرار الجميلة.

فـفي الناصرة، الحية حتى زماننا الحالي، وُلدت العـذراء مـريـم.

وفي بيت لحم وُلد يسوع.

وفـوق سطوح منازلها سطعـت نجمة المجـوس.

وفي مياه الأردن اعـتمد المسيح بين يدي يوحـنا،

النبي المبجـَّـل للصابئة المندائـيـيـن في بلاد الرافدين.

وحتى اليوم ما زالت مياه الأردن تتساقـط بعـذوبة من أعالي حرمون ،
حيث تجـلى الـرَّب بحسب الرواية الإنجيلية.

وفي قـانا الجـلـيـل (كـفـركـنا) صنع المسيح إحدى معجـزاته،
عـندما حوّل الماء الى خمر وسقى.

وفي طبرية مشى المسيح على سطح بحيرتها الأخاذة.

وفي القـدس سار الناس على خطى رسول المحبة حاملين سعـف النخـيل.

وفي درب الجلجـلة اجتاز المسيح مسيرة الآلام.



تستحق فـلسطين أن تفاخر بأن رُسل المسيح إلى العالم ،
وحوارييه الأوائل كانوا فلسطينيين:

بطرس الغـيور بنى كنيسة روما.

ومتى ومرقـص ويوحـنا ولوقـا كتبوا أخبار المعلم ،
وسـَطـَّـروها في الأناجيل الأربعة.

أما بولس فـقـد صارت المسيـحـية على يديه ديناً لجميع الأمم.



ما كان بإمكان اليهـودية أن تصبح ديناً إلا في فـلسطين.

ولولا فـلسطين لاندثرت هذه العـقـيـدة ،
وابتلعـتها رمال صحاري التيه.

وما كان الإسلام ليصبح ديناً عالمياً لولا الشام، وفلسطين قلب الشام.

وعلى أرض فـلسطين كـتـب عـمـر بن الخطاب ،
أحـد أروع نصوص التسامح في التاريخ القديم،

حينما صاغ عهداً بأن يحمي حرية سكان البلاد الأصليين في إيمانهم.



وما زالت الشمس تتوهج في كل صباح ،

فوق قباب كنيسة القيامة وفوق قبة الصخرة معـاً،

وما زال آل نسيبة المسلمون يتوارثون حمـل مفاتيح كنيسة القيامة،

فـيـفـتـحونها للمؤمنين صباحاً، ويغـلقـونها دون الناس ليلاً.



الـتـغـيـيـب والإنـكـار

هذا ما جرى في العصور القديمة.

لكن، منذ سـبـعـيـن عاماً بدأت قـصة "لنكبة".

إنها التراجـيـديـا الـفـلـسـطـيـنـيـة التي دشـَّـنت أولى مآسيها،
بإعلان قيام إسرائيل في 15 أيار 1948.

إن قيام إسرائيل في ذلك اليوم كان، في الوقت نفسه،

إعلاناً عن اندثار المكان الفلسطيني ،
الذي قام هـذا البهاء الحضاري فوقه منذ آلاف السنين.



من غرائب هذا العالم أن الناس يعـيشون في أمكنة لهم،

إلا الفـلـسـطـيـني؛ فالمكان يعيش فيه أينما ارتحـل وأينما حـلّ.

إنه يعيش في أمكنة كثيرة، لكنه لا يعـيش في مكانه البتة،

بل في الزمن: ينتظر، يتذكر، يتأمل، يراقب تساقط شعـيرات رأسه ،
وابيضاض فـوديه، يشوي رحيل الأحبة فؤاده ،

وهو قابع في منافيه الكثيرة ينتظر العـودة إلى مكانه الأول.



وهذا الفـلـسطيني لا يـلـمـلـم مكتبة إلا ليـفـقـدها بعد حين،

ولا يـقـتـنـي النباتات المنزلية إلا كي تـيـبـس بعد رحيله،

ولا يربي الحيوانات الأليفة إلا ليهـديها إلى الجيران الذين سيغادرهم يوماً ما .



والمفارقة هي أن الإسرائيليين اليوم يعيشون في المكان الفلسطيني المفـقـود نفسه،

أي في منازل الفـلسطينيين التي طردهم الإسرائيليون منها ،

ويرتوون من مياه آبارهم التي حفرها أجداد الفلسطينيين القدامى،

وينامون في الأسرة التي غادرها أطفالهم عـند النكبة.

ما زال الفـلسطيني يقض مضاجع الإسرائيليين ليل نهار،
لتشبثه بأرضه وهـويته وبسعـيه الدائم للعـودة.

وسيبقى الإسرائيليون خائفـين حقاً ، ما داموا عاجزين عن الاعـتـراف،
بحق الفلسطينيين في أن يكون لهم وطن،

بعدما فشلوا في محو الذاكرة الفلسطينية، وفي تحويل فكرة الوطن إلى هـباء.



يهدي العاشق حبيبته، في العادة، سلسالاً ومفتاحاً وقـلـباً من ذهـب.

ولأن الفلسطينيين يعيشون في عالم لا قـلـب له،

صارت السلسلة رمزاً للقـيـود والسجون،

وصار المفتاح رمزاً للعودة المؤجلة.

هو ذا الفـلسطـيني الذي صار مثـل عـولـيـس الإغـريـقـي،
الذي غادر مكانه الأول إيثاكا ليشارك في حروب طروادة.

وبعدما أثخـنـتـه آلام الغياب، ونجا من رعـب الحروب،

أمضى سنوات في طريق العـودة.



وعلى هذه الطريق رأى الفردوس والأهـوال معاً، النعيم والجحيم معاً،

وذاق الحب بين ذراعي إلهة البحـر بطريقة لم يذقها كائن بشري من قبل.

ومع ذلك أصرَّ على العـودة إلى مكانه الأول.

وقد اكتشف، في ما بعـد، أن كل شيء صار وهـماً،

وأن ما مضى من الحياة لن يعود، حتى لو عاد الكائن إلى موطن شبابه.

خلاص الـفـلسطيـني، مثل خلاص عـوليس، لا يتحقق إلا بالعـودة.

والعودة دونها عـذاب وموت وجحيم وعـشق ونفي واغـتـراب.

إنها التراجـيـديا بعـيـنـهـا.

وفي معـمعان هذا الألم الكوني انبثـق في سماء فلسطين أكثر من عـولـيس،
من طراز إبراهيم طوقان ، وفـدوى طوقان ،وعـبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) ،
وهارون هاشم رشيد ، وراشد حسين ، وجبرا إبراهيم جبرا ،
وغـسان كنفاني ، وإميل حبيبي،

أو من عـيار محمود درويش الذي حـوّل أغاني التيه الحزينة إلى نشيد للحرية الموعـودة،

وإدوارد سعـيـد الذي جعـل المنـفى مكاناً للأمل.



في القـدس سار المسيح في درب الآلام ،
في أعـظم تراجيديا للخلاص البشري عـلى مرّ العـصور.

لكن الشعـب الـفـلـسطـيـني ما زال، منذ 70 عاماً، يسير، يومياً،

في درب الآلام نفسها في أحد أكبر المصائر التراجيدية في العـصر الحـديث.

وها هي أرض السلام المفـقـود والموؤود ما برحت تكابد محـنـتها،

وتصنع في كل يوم تراجيديا إنسانية فـريـدة.



مسيحيون ومسلمون ويهود،

عـرب وأرمن وشركس ،

وفـرس وأكراد وأتراك ،وأفارقة ويونانيون وإيطاليون ،

ومالطيون ومقدونيون وألبان وروس.

دروز وبهائيون وأحمديون وسامريون.

هؤلاء سكان فـلسطين.

وعلى أرض فـلسطين عاش هؤلاء جميعـاً.

و"عـلى هـذه الأرض ما يـسـتـحـق الحـيـاة" فعـلاً.

وفـلسطين تستحق السلام حقـاً.

لكن، على هذه الأرض ثـمة صراع ممتد في الزمن.

صراع بين النفي والعـودة،

وبين البقاء والفـناء،

وبين الاجتثاث والانبعاث.


د. عبد القادر حسين ياسين