مِـعـيـارٌ لـمـا فـَـعــَلـَته الحـَياة بـنـا..!/ الـدكـتـور عـبـد الـقـادر حسـين ياسـين
كان الـشـاعـر والـنـاقـد الأرجنتيني خـورخي لويس بورخيس Jorge Luis Borges، (1899 – 1986) من أبرز كتاب القرن العشرين . وكـان بورخيس، الأعـمى شأنه شأن عـميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، لا يستطيع ، لفقدانه البصر أن يقرأ، لكنه ظلَّ يقتني الكتب ، ويملأ بها منزله.
ويـقـول غـابرئيل غـارسيا ماركيز أنه تمَّ إهـداء بورخيس ،
موسوعة كبيرة تقع في عـشرين مجلداً،
ورغم أنه كان يدرك أن عـينيه لن تقعا أبداً على صفحات هذه المجلدات،
فإنه أحسَّ بوجودهـا في بيته،
بل شكَّل وجودهـا مصدر سعادته.
لكن بورخيس لم يكن يجد المتعة في الاقتناء بحد ذاته.
صحيح أن وجود الكتب في بيته يشعره بالألفة والأمان،
فالكتاب ، في رأيه،  ينطوي على قدسية من نوعٍ ما يجب الحفاظ عليها،
لكن الكلمات النائمة في الكتاب يجب إيقاظها،
والقارئ هو من يقوم بفعل الإيقاظ هذا،
لذا فإن قيام الفرد بأخذ الكتاب وفتحه ،
هو بحد ذاته ظاهرة جمالية محققة.
الكتاب، رغم ألفة وجوده في البيت،
قد لا يعـدو كونه مجموعة أوراق بين دفتين.
ثمة وصف جميل منسوب للـشـاعـر الألـمـاني غـوتـه ،
مفاده أن خزانة الكتب تشبه غرفة سحرية ،
تقيم بها أفضل أرواح البشرية وأحسن عقولها وأقواها،
لكن هذه الأرواح والعقول تلوذ بالصمت بين دفتي الكتاب،
على القارئ أن يخرجها عن صمتها ويستدرجها للحديث،
بأن يحاورها في ما تقول…
فإن لم يفعل القارئ ذلك ظلت تلك الـعـقـول والأرواح صامتة،
وربما هجعـت في النوم العميق ، إذا طال أمد انتظارها،
من دون أن تمتد أيادي أحدنا نحو الرفوف التي تسكن فيها،
ويدعوها للكلام معه…
لكن العلاقة مع الكتاب ،لا تقف عند حدود استدراج كاتبه إلى الكلام فحسب،
وإنما يمكن أن تنشأ بيننا وبين هذا الكتاب صحبة وصداقة.
أجمل وأعمق الصداقات هي مع الكتب.
بوسع كل منا طالما وجد عـنده حد أدنى من الاهتمام بالقراءة،
أن يسمي كتاباً واحداً على الأقل يعـده كتاباً صديقاً،
أحدث في عـقـله ووجدانه من الأثر ما تحدثه رفقة طويلة،
مع صديق تعلمنا منه شيئاً أو أشياء.
لكننا لا نجد المتسع الكافي من الوقت ، لنقرأ كل ما نـقـتـنـيه من كتب،
وأحياناً كثيرة نجد الوقت ، ولكننا لا نجد المزاج ولا الرغبة في القراءة،
إننا نميل للاسترخاء والكسل أكثر من ميلنا للقراءة،
التي تتطلب قدراً لا بد منه من التركيز والجهد،
بيد أننا لا نكف عن اقتناء الكتب رغم ذلك.
فما الذي يحدونا لفعل ذلك؟
أهي ذاتها تلك الأحاسيس بالألفة والأمان،
التي كان بورخيس فاقد البصر يشعر بها ،
وهو “يرى” الكتب تملأ بيته…؟!
الأرجح أن في الأمر شيئاً من هذا،
ولكنه لا يقدم التفسير الكامل للموضوع،
فـنحن إذ نفعل ذلك، فإننا نعيش على أمل في أننا سنجد الوقت للقراءة،
إن أيادينا ستمتد يوماً لهذه الكتب،  وندعـو كتّابها الذين أخذهم النعاس للتكلم إلينا،
بل لعـلنا نعود إلى هذه الكتب مرة ومثنى وثلاثاً…
الكتاب نفسه إذ نقرأه في مقـتبل العمر،
لا يعـود هو نفسه حين نقرأه في منتصف العمر،
ولا يعود كما كان في الحالين السابقـتين لو عـدنا إليه ونحن في خريف العمر.
لقد امتلكنا من المعرفة والخبرة والتجربة والذائقة،
ما يجعـل الكتاب نفسه “يتطور” ونحن نتلقى أفكاره ،
كناية عن أننا لا نعـود أنفسنا في كل مرحلة عمرية.
لقد تغيرنا، وطريقة تلقينا لكتاب قرأناه ،
قد تكون معياراً لقياس ما الذي فعـلته الحياة بنا.