صناعة الحضارة 1 ..ذالمقرىء الإدريسي أبو زيد ...

الحضارة مفهوم فكري مركب و معقد و في نفس الوقت واضح و بسيط و مركب و معقد لأن هناك منظورات إيديولوجية وثقافية ودينية تتحيز إلى زوايا تحديد و زوايا نظر وإدراك للحضارة،و بالتالي يعطي للحضارة مفهوم أو معنى متغير و أحيانا تغيرا كبيرا،و بالنظرة إلى الزاوية أو إلى التحيز كما يسميه عبد الوهاب المسيري الثقافي و الفكري و الحضاري الذي ينطلق منه المعرف،و لا شك أن مفهومنا للحضارة يختلف عن مفهوم الأوربيين و الصينيين بالبداهة،و لكنه واضح و بسيط في نفس الوقت لأن الإنسان العادي كما الإنسان المثقف،الإنسان المتخصص في تاريخ الحضارة،أو فلسفة الحضارة،أو تاريخ الفكر،أو الثقافة إلى غير ذلك...يدرك بأن الحضارة هي عموما هو هذا الإنجاز الذي ميز الإنسان والذي وضع مسافة بينه و بين الطبيعة.أو كما يقول محمد قطب: هو كل الجهد الذي يملأ المسافة بين الإستجابة الإنسانية والأداء الإنساني _فأخذ الذبيحة وذبحها وفق معتقد ديني أو نظام طبي أو إجراء قانوني ، وطبخها وفق معطيات علمية أو ذوقية ووضعها على الصحون مع الشوكات و غير ذلك،والوردة التي توضع على الطاولة و الموسيقى المصاحبة أحيانا حسب الثقافة حسب المرجعية حسب اللون حسب الذوق،هذا كله حضارة لأنه المسافة التي تملأ الفراغ بين الافتراس الذي يفترس به الحيوان الآخر،و بين الطريقة التي يأكل بها الإنسان لحم ذلك الحيوان،المسافة بين الاستجابة المباشرة و الغريزة لنداء الفطرة في الأكل والشرب أو الجنس أو العمارة أو الحوار أو الصراع..و بين الطريقة الآدمية و من الجهد الذي يملأ هذا الفراغ هو الحضارة،إذن نحن أمام مفهوم ملتبس لأنه كتصور ينطلق من موقع معين يختلف من حضارة إلى حضارة ومن فهم إلى فهم،سوف أتبنى إجرائيا تعريف للحضارة يساعدني على السير معكم،وفق معاني أكثر إجرائية منها إيديولوجية أو ثقافية،علمتنا اللسانيات الحديثة و علمتنا قبلها علم القراءات القرآنية أن التعريف بالمقابلة،التعريف بالنقيض عن طريق الثنائيات يكون أيسر.علماء القراءة و التجويد عندما أرادوا تعريف الأصوات عرفوا المستقر مقابل مستعلي،شديد مقابل الرخاء،وغير ذلك من المقابلات المعروفة،والتي سهلت على الناس أن يستوعبوا صفة الحروف و مخارج الحروف،أيضا نفس الشيء بالنسبة للمناهج الحديثة يضعون الأشياء في شكل متقابل.وهذا التقابل ضروري لأنك إذا أردت مثلا فهم مفهوم الإصلاح في القرآن الكريم لا يمكن أن تدخله في ثنائية المصطلح السياسي الغربي المعاصر الإصلاح في مقابل الثورة مثلا أن تضعه مقابل الإفساد،ثنائية الإصلاح و الإفساد في القرآن الكريم هي التي تعطي لمفهوم الإصلاح معنى ثوريا،أما إذا أدخلته مقابل الثورة تعطيه معنى محافظ،و إلا سيكون أقرب إلى التصالح مع الفساد و التعايش معه،كثير من المفاهيم إنما تفهم في إطار مقابلات،أنا أضع الحضارة في مقابل الثقافة،رغم أن في التعريف المتعارف عليه:الثقافة جزء من الحضارة،الثقافة روح الحضارة،الثقافة رائد الحضارة،لكنني أريد أن أخرج الثقافة لكي أميز أمرا يسهل إدراك الحضارة،ما هو الذي يميز الحضارة عن الثقافة في إطار الثنائية الضدية التقابلية؟
الثقافة هو كل شيء خاص،هو كل شيء لا يقبل أن يكون مشتركا وهو ما لا يقبل النقل ولا التعميم،الثقافة هو الشيء الذي إذا نقلته من القوي و المتقدم و السيد لكي تتقدم مثله زادك تخلفا و رهقا و تبعية،و الحضارة بالمقابل هي كل ما يمكن أن يكون مشتركا،و يستنبث و ينزل في محيطات أخرى مع تبيئته طبعا و سأعطي مثال تبسيطي:أنت لو جئت إلى مسجد أو كنيسة،هما ثقافيا شيئان مختلفان،عقيدتان مختلفتان،تصوران رؤيتان،شكلان رمزيتان...ولمن أراد أن يفهم هذا جيدا أنصحه بقراءة كتاب رائع جدا غالبا ما نهمله ولا نهتم به، كتبه شارل بيرلا و روجي كارودل منذ30 سنة أو يزيد،هو كتاب:"المسجد مرآة الإسلام'' والغربيون عموما عندهم هذا الحس بحكم أنهم متقدمون الآن في علاقة العقيدة و في علاقة الثقافة بالهندسة المعمارية، المسلمون الذين مارسوا هذا بشكل رائع في المساجد،وفي المحارب و في الصوامع و في الأسقف لدور العبادة وفي الأقواس و أيضا
لمساكنهم و قصورهم لآن ليس عندهم من الناحية النظرية زاد كاف في التحليل و في التنظير و عندهم عجز و نقص في الدراسات النظرية و هم الذين أصبغوا روحهم و إيمانهم و توحيدهم على معابدهم و بنياتهم 'بيكودجيف' في كتابه"الإسلام و الشرق و الغرب"أحسن أيضا وصف العلاقة بين العقيدة و العمارة و هو رجل عانى من الصرب و عانى من النظام الشيوعي في يوغوزلافيا شرح كيف أن بؤس العقيدة الماركسية ظاهر في بؤس العمارة الماركسية،و ويقارن طبعا في بلد أوربي مسيحي بين العمارة المسيحية على خلاف المسيحية كيف كانت رائعة و بين العمارة الماركسية كيف كانت مسطحة و منحطة و فقيرة و رمادية،و السؤال لما هذا بسبب الفقر؟و يثبت تاريخيا أنه في الإتحاد السوفياتي وفي الدول المحسوبة عليه وفي أوربا الشرقية مرت البشرية بمراحل أفقر و أكتر تخلفا،ومع ذلك بنو أشكال أصبغت عليه المسيحية روحا خاصا،و حين جاءت الماركسية كإلحاد و كفقر روحي رغم الإمكانيات العملاقة و الغنى و الدولة القوية الجبارة فإنها أنتجت عمارة فقيرة،إذن على مستوى الثقافة،المسجد مختلف عن الكنيسة اختلافا،في الشكل في الوظيفة في الغاية في الهندسة،لأن طريقة العبادة مختلفة و المقصد مختلف،التوحيد ليس التثليت،و ذلك ستجد دائما الأقواس الدائرة اللامتناهية في المسجد ليس هناك شيء حاد يتوقف عليه لأن هناك دوران هناك لجوء كما شرحه علي شريعته في كتابه"الحج فلسفة المنسوك و المعنى"أن تقصد الكعبة ثم تبدأ بالطواف حولها لأنه ليس هناك شيء إلا الله،و عندما تصل إلى الكعبة،مكعب،فارغ من أي شيء،عندما تصل إليه لاتقف عنده تدور حوله تكتشف أن لا غاية إلا الله لكن في الكنيسة التثليت،الصليب التقطعات الحادة،التقاطع العمودي و الأفقي الزوايا ... ولكن علم الهندسة من الناحية التقنية طور الأساسات و السواري و الأعمدة و الأعمدة المتعامدة عليها و كيف درس طبيعة التربة، الخرسانة المسلحة،على أنواع الحديد،هذه تكنولوجيا يمكن أن تبني بها نفس هذا المسجد و نفس هذه الكنيسة،عندما تجد مقاول يضع في الأرض آلات ضخمة كرافعات و حفارات،و مواد البناء كالإسمنت و الحديد و الحجارة،تعجز من فعل وضع هذه الآلات و هذه المواد لن تعرف هل يتعلق الأمر بالمسجد أم بالكنيسة،لكن شيء روحي شيء تاوي في الدهن في الروحية المادية من ورائها هناك تشكيلة المسجد في الدهن ،و هناك تشكيلة الكنيسة و يمكن نقل لكي نميز ما ينتقل وما لا ينتقل،يمكن نقل تكنولوجيا بناء الكنيسة من أوربيون إلينا الآن،بالاعتماد على الخرسانة المسلحة و الدراسات الطبوغرافية و دراسة طبيعة التربة،و الدراسات الهندسية و اعتماد الرافعات، والدراسات القانونية و الإجراءات الإدارية و المتابعة و المراقبة كل التكنولوجيا الحديثة و الهندسة يمكن استعمالها،لكن ما أقبح المساجد التي تمت صياغتها بمهندسين متغربين و أحيانا بمهندسين أوربيين، وعندنا تجارب كثيرة في المغرب و خارجه و إشكالات و فضائح أثيرت آخرها مسجد في الكويت اضطروا إلى هدمه بالكامل لأنه ثم اعتماد مهندس أمريكي مع الانبهار و الهزيمة بإخلاص وَبِدون نية الإسقاط،و بدون نية الإغراض،حتى دون وجود فكرة تآمرية،هو كرجل مسيحي أعطى المسجد ملمح كنيسة إذن ما لاينقل ما يعتبر نقله انتحارا و انضحالا و عجزا و عقم وتبعية و تأييد للهزيمة هو الثقافة،بالمقابل ما يمكن تداوله هو الحضارة،هناك في المجال الطبي هناك عناصر عديدة في الثقافة الطبية و صناعة الأدوية،وفي تكنولوجيا الآلات يمكن أن يكون متداولا،لكن هناك جوانب تتعلق بالروح و الثقافة بالقيم يستحيل انتقالها من جهاز طبي إلى جهاز طبي من نسق طبي إلى نسق طبي ،يستحيل،وهنا نقف عند أول معلم من معالم خطورة العولمة اليوم،و نقف عند أول مستوى لإدراك خطر المسار الانتحاري الذي نمشي فيه كشعوب تسمى نامية أو متخلفة أو العالم الثالث،و هنا نقف على إجراء الاختيارات الرسمية في العالم الثالث،باسم الانفتاح واللحاق بالركب والتعاون الثقافي،و اكراهات العولمة،يحاول أن يمارس علينا الغزو اللغوي،الغزو الثقافي،الغزو القيمي و الغزو الأخلاقي،الغزو المفاهيمي،مثال أوضح من المسجد والكنيسة،مثال الفيلم:تحميض الأفلام،تطوير الأفلام،الإشهار الدعاية الكاميرات،الحفظ،التوزيع،التنظيم الإداري للفيلم،الموسيقى التصويرية،الجانب المحاسبة ليكون الفيلم مربحا،كل هذا يمكن أن يتداول ،ولكن الفيلم،مضمونه لباس ممثليه،الحوار المتبادل،القضايا التي يطرحونها،زاوية النظر،مستحيل أنت الآن تشاهد السينما الإيرانية وصلت مستوى من العملقة و تستعمل تكنولوجيا أمريكية و تقنية حديثة من هوليود،تقلد هوليود و تحاول اللحاق بها ولكن الفيلم الإيراني ليس مطلقا الفيلم الأمريكي،رؤية،زاوية نظر روح،ثقافة،عقيدة،هدف مضمون مجال مختلف كليا،و لكن الجانب التقني الذي هو الحضارة مشترك،نحن يمارس علينا نوع من التدليس الكاذب من اختياراتنا المهزومة،و من حكامنا المنبطحين و من نخبنا الفاشلة المفلسة،و هو أنه لابد من هذا من ذاك،لأنه شيء واحد مترابط و الحداثة لايمكن أن تكون الآلة وإنما الروح وراء الآلة،هذا كلام طبعا مغالط،من الجهة الأخرى خطورة العولمة التي تريد من خلالها أمريكا و الصهيونية العالمية،و الإمبريالية العالمية أن تطرح نموذجا واحد للإصلاح نموذج واحد للثقافة،نموذج واحد للتواصل،نموذج واحد للاعتقاد،و قد بلغ بهم الغرور أن أمريكا مولت مؤخرا عميلا كتب قرآنا استغرق سبع سنوات،كتبه مسلم عندهم غريب الأطوار،قران مسالم لا يثير الأحقاد،و العنف و لا يثير البغض و العنصرية،وزودوه بالأموال،على حد قولهم،ومن أخطر الأمراض المتأصلة عند الغرب من أيام الإغريق و اليونان إلى اليوم،هو أن الغرب عنده مفارقة تصل إلى حد الفاجعة،بقدر كلام الغرب عن الاختلاف،و بقدر ادعائه الاختلاف،و بقدر انتحاله للاختلاف،و بقدر تظاهره بالاختلاف و مستلزمات الاختلاف من حوار و تفاوض و تواصل وتعدد و ديمقراطية بقدر ما الغرب في العمق كائن يرفض الاختلاف ويقصيه كلية و يريد تنميط العالم على نمط واحد حسب هواه،وذوقه و مصلحته و لهذا سأشير لكم بكتاب اسمه ''حرب قذرة'' إبادة الشعب الطاسماني هذا كاتب انجليزي معاصر،مأساة إبادة الشعب الطاسماني بجزيرة طاسمانيا،ما بين أستراليا و نيوزلندا و هو يعرج في الكتاب المأساة و أولا توثيق من أرشيف إدارة الاستعمار البريطانية في القرن التاسع عشر،ومن الصحف الكبرى البريطانيـة وصاحبه عاصر فترة الإبادة و أشار في كتابه إلى إبادة الأستراليين و النيوزلنديين،يقول أن المستعمرين الذين جاءوا من بريطانيا إلى طاسمانيا لم يتحملوا أن يكون سكان طاسمانيا البدائيون-كما يدعونهم-يلبسون باختلاف عنهم و يشربون و يأكلون باختلاف عنهم،فلما قاموا بتدجينهم و تهجينهم و اضطهادهم و استعبادهم باسم تمدينهم تطويرهم أكرهوهم على لبس ملابسهم كانوا لايلبسون لباسا إلا ما يستر العورة و يدهنون شعورهم و جلودهم بنوع من الشحوم المستخرجة من الكانغر وقد تعودوا على أن تقيهم الحر و البرد لن تتصورا النتيجة الكارثية لما منعوهم من استعمال هذه الشحوم و ألبسوهم الملابس،كانت النتيجة أن أول زخرة أمطار بللت هذه الثياب فوق صدورهم أصيبوا بالتهاب رئوي و توفوا جميعا،كيف تكتب التقارير التي اعتمدها هذا الباحث الموثق كيف يفرحون بامرأة طسمانية عندما يعلمونها كيف تصنع الشاي،و اتكيت صبه في الفنجان وتقدميه مع انحنائة الركبة،نوع من القردية،التي يراد بها تنميط العالم على نمط واحد هو مقياس الحضارة و التقدم و ما عداه هو التخلف و الوحشية و حتى علم الأنتروبولجيا-و أنا لا أراه علما-وهو علم اجتماع الشعوب القديمة علم يعاني ربما أكثر من العلوم الأخرى المركزية الأوربية و إن كانت كل العلوم الأوربية تعاني من المركزية الأوربية و في الأنتروبولوجيا مصطلح متوحش أو شعب متوحش هو مصطلح قيمي منحاز،الغرب من أكثر الشعوب كراهية للاختلاف و قدرة على قهرالإختلاف،و إدعائه في نفس الوقت،و لهذا كتب روجي كارو في كتابه –نداء الأحياء-:ما سيسقط يوما الحضارة الغربية إذا زالت شوكتها المادية:التكنولوجيا و القوة و السلاح و الصناعة هو أنها عاجزة عن استيعاب الاختلاف في العالم و أنها لاترغب أن تختلف مع العالم و يقول أحد محرري موسوعة التحيز التي أشرف عليها المسيري لمدة خمسة عشر سنة إن الغرب لا يحاور الآخر، الغرب يحاور نفسه بصدد الآخر و الغرب يدعي الحوار رغم غياب الآخر و هذا من أجل اكتشاف نقطة ضعفه و ستبدأ نحو ثغراته و التحكم فيه لاشيء غير هذا..