بحـث
من أنا ؟
حقوقية، كاتبة، ناشطة في شؤون بلادي وشؤون المرأة، لي عدة منشورات ورقية وإلكترونية
المواضيع الأخيرة
كتب ميساء البشيتي الإلكترونية
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
عن الرجال والبنادق .. غسان كنفاني .
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
عن الرجال والبنادق .. غسان كنفاني .
عن الرجال والبنادق
*************
الإهداء:
هذه تسع لوحات،أردت منها أن أرسم
الأفق الذي أشرق فيه الرجال والبنادق
والّذين_معاً_سيرسمون اللوحة الناقصة
في هذه المجموعة.
غ -ك
...............................................................
المحتويات
1_مدخل
القسم الأول
2_الصغير يستعير مرتينة خاله ويشرّق إلى صفد
3_الدكتور قاسم يتحدث لايفا عن منصور الذي وصل إلى صفد
4_أبو الحسن يقوّص على سيارة إنكليزيّة
5_الصغير وأبوه والمرتينة يذهبون إلى قلعة جدّين
القسم الثاني
6_الصغير يذهب إلى المخيّم
7_الصغير يكتشف أن المفتاح يشبه الفأس
8_صديق سلمان يتعلم أشياء كثيرة في ليلة واحدة
9_حامد يكف عن سماع قصص الأعمام
ملاحظة: أم سعد تقول: خيمة عن خيمة تفرق
.................................................................
1_مدخل
نمت متأخراً جداً،كان كاتب صيني اسمه(سان تسي) ، عاش قبل الميلاد بعدة مئات السنين، قد اجتذبني تماماً وفكك تعبي واصطاد انتباهي(على أن ذلك كلّه خارج الموضوع الذي سأكتب عنه)
وكتب يقول أن الحرب حيلة.أنّ الإنتصار هو أن تتوقع كل شيء وألاّ تدع عدوّك يتوقّع.كتب يقول أن الحرب مفاجأة.كتب يقول أن الحرب سطوة المعنويّات.كتب يقول...
ولكن ذلك كلّه خارج الموضوع.
نمت متأخلااً جداً،ودقّ الهاتف باكّراً،كان الصوت على الطرف الآخر منتعشاً تماماً،يقظاً،يكاد يكون مرحاً، فخوراً،ليس في طيّاته أي شعور بالذنب.قلت لنفسي _وأنا نصف نائم_ هذا رجل يصحو باكراً.لاشيء يشغله بالليل.كانت الليلة ممطرةوراعدة وعاصفة،ترى ماذا يفعل _في مثل هذه الظروف_الرجال الذين يزحفون تحت العتمة ليبنوا لنا شرفاً نظيفاً غير ملطخ بالوحل؟كان الليل ماطراً،وهذا الرجل،على الطرف الآخر من الهاتف...
ولكن ذلك كلّه ،أيضاً خارج الموضوع.
قال لي "لديّ فكرة،سنجمع ألعاباً للأطفال ونرسلها إلى النازحين في الأردن،إللى المخيّمات،أنت تعلم،هذه أيّام أعياد".
كنت نصف نائم.المخيمات.تلك اللطخات على جبين صباحنا المتعب،الخرق البالية التي ترفّ مثل رايات هزيمة، المرميّة بالمصادفة فوق سهوب الوحل والغبار والشفقة.كنت أعلّم ذات يوم في واحد منها،وكان أحد تلاميذي الصغار يدعى درويش. كان يبيع كعكاً بعد الدوام، وكنت أطارده بين الخيام والوحل والصفيح وبرك الوحل لأحمله إلى الصف الليلي.كان شعره جعداً قصيراً مبتلاً دائماً،وكان ذكيّاً جداً، أحسن من يكتب موضوع لأنشاء في الصف.لو كان يجد ما يطعم به نفسه يومذاك لانبثق منه نابغة، كان المخيّم كبيراً ، وكانوا يسمونه...
ولكن هذا كلّه ،أيضاً، خارج الموضوع.
قال لي الرجل على الطرف الآخر من السلك: "مشروع ممتاز، أليس كذلك؟ ستساعدنا.نريد حملة إخباريّة في الصحيفة، أنت تعلم". وأنا نصف نائم قفزت إلى رأسي الجملة المناسبة:"أمضى السيّد فلان عطلة رأس السنة وهو يجمع ألعاباً للنازحين،وستقوم نخبة من سيّدات المجتمع بتوزيعها في المخيّمات"المخيّمات موحلة، وفساتين هذا الموسم قصيرة،ولكن الأحذية ذات الأعناق الطويلة بيضاء، وأمس مزقت خبراً وصورة: الحسناء فلانة كانت تسهر في الملهى الفلاني، أسقط الشاب الذي يجلس معهاكأسه على فستانها فدلقت القنينة على بذلته. قلت: ثمنها 100 ليرة على الأقل، قلت أن هذا الثمن...
ولكن هذا كلّه ،أيضاً، خارج عن الموضوع.
قال لي متابعاً: "سنضعها في علب من الورق المقوّى ، وسنجد شاحنات تنقلها مجّاناً، وسنوزعها مغلقة. ستكون مفاجأة".
مفاجأة..الحرب مفاجأة أيضاً.هكذا قال الكاتب الصيني (سان تسي) الذي عاش قبل الميلاد ب500سنة، كنت نصف نائم، غير قادر على كبح الهذيان . أحياناً تأتيني هذه النوبات، خصوصاً حين أكون متعباً، وأعجز عندها عن تصديق عيني، أنظر إلى الناس وأتساءل: أيمكن أن تكون هذه هي وجوهنا حقّاً؟كيف استطعنا أن ننظفها بهذه السرعة من الوحل الذي طرشه حزيران فوقها؟ أصحيح أننا نبتسم؟ أصحيح..
ولكن هذا ،أيضاً خارج الموضوع.
قال لي وسماعة الهاتف تنزلق من يدي:
"سيأخذ كل طفل في صباح العيد علبته المغلقة، وداخلها لعبة مجهولة. حظّه." سقطت السماعة ، وحملتني الوسادة إلى ما قبل 19 عاماً.
عام 1949.
قالوا لنا يومئذ: سيوزع الصليب الأحمر عليكم هدايا العيد
كنت طفلاً،أمتلك سروالاً قصيراً وقميصاً من الكتّان الرمادي، وحذاء مقطعاً دون جوارب. كان أقسى شتاء شهدته المنطقة في عمرها،وحين أخذت أمشي ذلك الصباح تجمدت أصابع قدمي وكساها ما يشبه الزجاج الرقيق. جلست على الرصيف وأخذت أبكي، وعندئذ جاء رجل وحملني إلى دكّان قريب. كانوا يشعلون النار في خشب يضعونه في علبة صفيح ،وقربوني منها. دفعت قدمي إلى اللهب وغطست فيه. ثمّ أكملت مشواري إلى مركز الصليب الأحمر راكضاً، ووقفت مع مئات من الأطفال ننتظر دورنا.
كانت العلب تبدو بعيدة،وكنا نرتجف كحقل من القصب العاري، ننط كي تظلّ الدماء تجول في عروقنا. وبعد مليون سنة جاء دوري، فناولتني الممرضة النظيفة علبة حمراء مربّعة.
عدوت إلى البيت دون أن أفتحها.الآن بعد19 سنة ، لست أذكر على الإطلاق ماكان يوجد في تلك العلبة الحلم، إلاّ شيئاً واحداً ، شيئاً واحداً فقط: علبة حساء من مسحوق العدس.
تمسّكت بعلبة الحساء بكلتا يدي المحمرتين من البرد، وضممتها إلى صدري أمام عشرة أطفال هم أخوتي وبعض أقاربي أخذوا ينظرون إليها بعشرين عين مفتوحة على سعتها.
وكان في العلبة _بلا ريب_ لعب أطفال رائعة، ولكنّها لن تكن لتؤكل، وقد أهملت ثم ضاعت. وظلّت علبة الحساء معي أسبوعاً، أعطي أمّي منها كل يوم عبو كأس من الماء كي تطبخه لنا.
لاأذكر شيئاً سوى البرد ، والجليد يكبّل أصابع قدمي، وعلبة الحساء.
وكان صوت االرجل الذي يصحو باكراً مايزال يطنّ في رأسي ، ذلك الصباح الرماديّ المتعب، حي نأخذت الأجراس تدقّ في فراغ مروّع، وكنت أعود من رحلتي القصيرة إلى الماضي الذي ما زال ينبض في رأسي، وكنت ..
ولكن هذا كلّه ،أيضاً، خارج الموضوع.
كانون1_1968
*************
الإهداء:
هذه تسع لوحات،أردت منها أن أرسم
الأفق الذي أشرق فيه الرجال والبنادق
والّذين_معاً_سيرسمون اللوحة الناقصة
في هذه المجموعة.
غ -ك
...............................................................
المحتويات
1_مدخل
القسم الأول
2_الصغير يستعير مرتينة خاله ويشرّق إلى صفد
3_الدكتور قاسم يتحدث لايفا عن منصور الذي وصل إلى صفد
4_أبو الحسن يقوّص على سيارة إنكليزيّة
5_الصغير وأبوه والمرتينة يذهبون إلى قلعة جدّين
القسم الثاني
6_الصغير يذهب إلى المخيّم
7_الصغير يكتشف أن المفتاح يشبه الفأس
8_صديق سلمان يتعلم أشياء كثيرة في ليلة واحدة
9_حامد يكف عن سماع قصص الأعمام
ملاحظة: أم سعد تقول: خيمة عن خيمة تفرق
.................................................................
1_مدخل
نمت متأخراً جداً،كان كاتب صيني اسمه(سان تسي) ، عاش قبل الميلاد بعدة مئات السنين، قد اجتذبني تماماً وفكك تعبي واصطاد انتباهي(على أن ذلك كلّه خارج الموضوع الذي سأكتب عنه)
وكتب يقول أن الحرب حيلة.أنّ الإنتصار هو أن تتوقع كل شيء وألاّ تدع عدوّك يتوقّع.كتب يقول أن الحرب مفاجأة.كتب يقول أن الحرب سطوة المعنويّات.كتب يقول...
ولكن ذلك كلّه خارج الموضوع.
نمت متأخلااً جداً،ودقّ الهاتف باكّراً،كان الصوت على الطرف الآخر منتعشاً تماماً،يقظاً،يكاد يكون مرحاً، فخوراً،ليس في طيّاته أي شعور بالذنب.قلت لنفسي _وأنا نصف نائم_ هذا رجل يصحو باكراً.لاشيء يشغله بالليل.كانت الليلة ممطرةوراعدة وعاصفة،ترى ماذا يفعل _في مثل هذه الظروف_الرجال الذين يزحفون تحت العتمة ليبنوا لنا شرفاً نظيفاً غير ملطخ بالوحل؟كان الليل ماطراً،وهذا الرجل،على الطرف الآخر من الهاتف...
ولكن ذلك كلّه ،أيضاً خارج الموضوع.
قال لي "لديّ فكرة،سنجمع ألعاباً للأطفال ونرسلها إلى النازحين في الأردن،إللى المخيّمات،أنت تعلم،هذه أيّام أعياد".
كنت نصف نائم.المخيمات.تلك اللطخات على جبين صباحنا المتعب،الخرق البالية التي ترفّ مثل رايات هزيمة، المرميّة بالمصادفة فوق سهوب الوحل والغبار والشفقة.كنت أعلّم ذات يوم في واحد منها،وكان أحد تلاميذي الصغار يدعى درويش. كان يبيع كعكاً بعد الدوام، وكنت أطارده بين الخيام والوحل والصفيح وبرك الوحل لأحمله إلى الصف الليلي.كان شعره جعداً قصيراً مبتلاً دائماً،وكان ذكيّاً جداً، أحسن من يكتب موضوع لأنشاء في الصف.لو كان يجد ما يطعم به نفسه يومذاك لانبثق منه نابغة، كان المخيّم كبيراً ، وكانوا يسمونه...
ولكن هذا كلّه ،أيضاً، خارج الموضوع.
قال لي الرجل على الطرف الآخر من السلك: "مشروع ممتاز، أليس كذلك؟ ستساعدنا.نريد حملة إخباريّة في الصحيفة، أنت تعلم". وأنا نصف نائم قفزت إلى رأسي الجملة المناسبة:"أمضى السيّد فلان عطلة رأس السنة وهو يجمع ألعاباً للنازحين،وستقوم نخبة من سيّدات المجتمع بتوزيعها في المخيّمات"المخيّمات موحلة، وفساتين هذا الموسم قصيرة،ولكن الأحذية ذات الأعناق الطويلة بيضاء، وأمس مزقت خبراً وصورة: الحسناء فلانة كانت تسهر في الملهى الفلاني، أسقط الشاب الذي يجلس معهاكأسه على فستانها فدلقت القنينة على بذلته. قلت: ثمنها 100 ليرة على الأقل، قلت أن هذا الثمن...
ولكن هذا كلّه ،أيضاً، خارج عن الموضوع.
قال لي متابعاً: "سنضعها في علب من الورق المقوّى ، وسنجد شاحنات تنقلها مجّاناً، وسنوزعها مغلقة. ستكون مفاجأة".
مفاجأة..الحرب مفاجأة أيضاً.هكذا قال الكاتب الصيني (سان تسي) الذي عاش قبل الميلاد ب500سنة، كنت نصف نائم، غير قادر على كبح الهذيان . أحياناً تأتيني هذه النوبات، خصوصاً حين أكون متعباً، وأعجز عندها عن تصديق عيني، أنظر إلى الناس وأتساءل: أيمكن أن تكون هذه هي وجوهنا حقّاً؟كيف استطعنا أن ننظفها بهذه السرعة من الوحل الذي طرشه حزيران فوقها؟ أصحيح أننا نبتسم؟ أصحيح..
ولكن هذا ،أيضاً خارج الموضوع.
قال لي وسماعة الهاتف تنزلق من يدي:
"سيأخذ كل طفل في صباح العيد علبته المغلقة، وداخلها لعبة مجهولة. حظّه." سقطت السماعة ، وحملتني الوسادة إلى ما قبل 19 عاماً.
عام 1949.
قالوا لنا يومئذ: سيوزع الصليب الأحمر عليكم هدايا العيد
كنت طفلاً،أمتلك سروالاً قصيراً وقميصاً من الكتّان الرمادي، وحذاء مقطعاً دون جوارب. كان أقسى شتاء شهدته المنطقة في عمرها،وحين أخذت أمشي ذلك الصباح تجمدت أصابع قدمي وكساها ما يشبه الزجاج الرقيق. جلست على الرصيف وأخذت أبكي، وعندئذ جاء رجل وحملني إلى دكّان قريب. كانوا يشعلون النار في خشب يضعونه في علبة صفيح ،وقربوني منها. دفعت قدمي إلى اللهب وغطست فيه. ثمّ أكملت مشواري إلى مركز الصليب الأحمر راكضاً، ووقفت مع مئات من الأطفال ننتظر دورنا.
كانت العلب تبدو بعيدة،وكنا نرتجف كحقل من القصب العاري، ننط كي تظلّ الدماء تجول في عروقنا. وبعد مليون سنة جاء دوري، فناولتني الممرضة النظيفة علبة حمراء مربّعة.
عدوت إلى البيت دون أن أفتحها.الآن بعد19 سنة ، لست أذكر على الإطلاق ماكان يوجد في تلك العلبة الحلم، إلاّ شيئاً واحداً ، شيئاً واحداً فقط: علبة حساء من مسحوق العدس.
تمسّكت بعلبة الحساء بكلتا يدي المحمرتين من البرد، وضممتها إلى صدري أمام عشرة أطفال هم أخوتي وبعض أقاربي أخذوا ينظرون إليها بعشرين عين مفتوحة على سعتها.
وكان في العلبة _بلا ريب_ لعب أطفال رائعة، ولكنّها لن تكن لتؤكل، وقد أهملت ثم ضاعت. وظلّت علبة الحساء معي أسبوعاً، أعطي أمّي منها كل يوم عبو كأس من الماء كي تطبخه لنا.
لاأذكر شيئاً سوى البرد ، والجليد يكبّل أصابع قدمي، وعلبة الحساء.
وكان صوت االرجل الذي يصحو باكراً مايزال يطنّ في رأسي ، ذلك الصباح الرماديّ المتعب، حي نأخذت الأجراس تدقّ في فراغ مروّع، وكنت أعود من رحلتي القصيرة إلى الماضي الذي ما زال ينبض في رأسي، وكنت ..
ولكن هذا كلّه ،أيضاً، خارج الموضوع.
كانون1_1968
فاطمة شكري- عضو متميز
- الأبراج الصينية :
عدد المساهمات : 779
تاريخ الميلاد : 01/12/1979
تاريخ التسجيل : 09/08/2010
العمر : 44
رد: عن الرجال والبنادق .. غسان كنفاني .
القسم الثاني
.............
2_الصغير يستعير مرتينة خاله ويشرّق إلى صفد.
اتكأ بظهره المبتل وفرش ساقيه منفرجتين وأخذ ينظر إلى السماء: كانت غيوم داكنة تتسابق فوق رأسه وقد توهجت أطرافها
بضوء الشمس فبدت كأنها تلتهب، وخيّم حوله صمت ثقيل : أبداً لم يخطر في باله أن مثل هذا الوعر يمكن أن يكون موجوداً.حتّى
حين قال له خاله أن الطريق بين مجد الكروم وصفد تستعصي على الماعز لم يصدّق، وابتسم بهدوء وهو يمدّ له كفيه فيتلقى البندقيّة
التركيّة العتيقة، وحين ضمّها إلى صدره قال له خاله مرّة أخرى:
_ الطريق بين مجد الكروم وصفد وعر يستعصي على الماعز ، ان ولداً مثلك سوف يموت في الشول قبل أن يقطع نصف المسافة.
ودون أن يلتفت إليه ردّ، للمرة العاشرة منذ الصباح، على كلمة "ولد" التي لا ينفك خاله يوجهها إليه:
_أنا لست ولداً.
_عمرك سبعة عشر عاماً، والبندقيّة التي تحملها تزن أكثر من نصف وزنك، والطريق طويلة شرسة .
وانتايه الرعب لحظة واحدة فقط، فشد البندقيّة إلى صدره واستدار فواجه خاله من جديد:
_إذا كنت خائفاً على بندقيتك فقل ذلك بصراحة.
_أنا خائف عليك .أنت مجنون صغير ولكنني لا أريد أن أفشلك ، لماذا لا تقف على الطريق وتركب السيارة فتصل إلى صفد؟ لماذا
، أصلاً ، تريد الذهاب إلى صفد؟ قلّة رجال هناك؟
ولم يبد على خاله أنه يريد أجوبة لكل هذه الأسئلة، ففور أن انتهى من الكلام مدّ يده فربّت على كتفه، ووضع حدّاً للحوار الذي
استمرّ ساعة وأكثر من ساعة:
_مع السلامة، انتبه دائماً إلى أنّ هذا المدفع الذي تحمله وحش لا أمان فيه،إنه شيء قديم، ولكنّه مازال صالحاً.
هذا الخال الغريب الذي يطلق أسماء أخرى على الأشياء ، يقول له ولد بدل أن يناديه باسمه، ويسمي البندقيّة العتيقة مدفعاً، يعرف
حقيقة الأمور أكثر من أي مخلوق آخر على ظهر هذه الأرض.
فحين دقّ بابه في أبكر الصبح ورجاه أن يستعير بندقيّته لم يتردد لحظة واحدة،ولكنه أمضى أكثر من ساعة يحذره فيها من الدريق
وضراوة الطريق،وكان تحذيره صحيحاً تماماً،لقد انتصف النهار ولم يزل في منتصف الطريق،ويخشى الآن أن يصل إلى صفد مع
حلول العتمة، إذا وصل!
مطر الليلة بلل التراب وغسل صخور هذا الجبل الأجرد، ورغم ذلك فإن الجفاف مازال متبديّاً بوضوح،حين شاهدته أمه يتسللمن
باب البيت مع الفجر، لم تسأله عنوجهته،ولكنها طلبت إليه أن يتدثر بمعطفه ففعل دون مناقشة.أكانت تعرف ،ياترى، خطته التي
مضغها وحده ثلاثة أيّام.
بعد ربع ساعة فقط مرت سيارة عتيقة قادمة من عكّا، فحشر نفسه في زحام ركّابها الصامتين المتدثرين بمعاطفهم، ودفع للسائق
آخر قرشين كان يحملهما فدسهما في جيبه دون أن ينظر إليهما، وحين نزل على مفرق نحف لاحقهم الركاب بعيونهم الصامتة: كانت
الشمس قد بدأت ترسل أشعتها الواهنة حين أخذ يتسلّق الطريق الترابي الذي يفصل نحف عن الشارع العام، وكان صقيع الليل
الجبلي مازال يخزّ عظامه بقسوة.
دقّ بقبضته الباب الخشبي لدار خاله أبو الحسن. كان يعرف أن خاله قد انتهى من صلاة الفجر وهو في سبيل أن يعود إلى فراشه
لينام مرة أخرى حسب عادته التي لم يغيرها منذ وعي خاله وبيت خاله.وحين فتح الباب وردت العينان المدهوشتان تحيّة الصباح
بسط حكايته بإيجاز، قبل أن يخطو إلى الداخل:
_الشباب في صفد يحاصرون القلعة، جئت أستعير بندقيّتك لأذهب إلى هناك ، هل ستعطينيها؟
_ومن أين ستحصل على الفشك؟
_اشتريته.
_ كم فشكة؟
_حوالي العشرين.
_ وبعشرين فشكة تغزو قلعة صفد؟
_هل ستعيرني بندقيتك؟ سأعيدها لك بعد يومين.
_وإذا مت؟
قالها خاله باسماً كأنه لا يصدق الحكاية، ولكنه لم يبتسم ولم يتردد، كان قد أعدّ جواباً لكل هذه الأسئلة:
_ إذا مت سيعيدها لك حسام،إنه هناك وسأوصيه بذلك.
دار خاله على عقبيه وخطا إلى الداخل ، وحين غيبه الممر سمع صوته ينادي:
_ادخل أيّها الولد ،تناول الفطور.
ولكنه لم يدخل ، كان قد قرر ذلك منذ البدء، وصاح بدوره:
_هل ستعطيني المرتينة؟
_حلمت بها الليلة؟لماذا لا تقول يا فتّاح يا عليم؟
_أريد أن أعرف،لا أريد أن أضيّع وقتاً، إذا كنت لا تريد اعارتي مرتينتك فعليّ أن أذهب فوراً إلى كسرة ، عند أب مصطفى مرتينة
أخرى قد يعيرني إيّاها.
ومرت لحظات صمت طويلة، ثم أطل خاله مرة أخرى من آخر الممر وأخذ ينظر إليه بإمعان: كان طويل القامة عجوزاً لم تؤثر
السنون بعرض منكبيه، مشمراً عن ساعديه المكسوين بشعر غزير شائب وواضعاً طاقيّة مطرزة فوق شعره الأبيض القصير.مرت
لحظات أخرى تبادلا فيها النظر بصمت كأنه الإمتحان، وجاء السؤال الذي كان ينتظره منذ البدء:
_هل رويت هذه القصة للعجوز؟
_أمي لا تقبل أن تسميها عجوزاً.
وابتسم، إلا أن خاله كرر السؤال وهو يقطب حاجبيه معلناً له ، بهذه الطريقة، عدم عزمه على المزاح:
_العجوز،هل عرفت خطّة ابنها؟
وانتابته سعادة مفاجئة، فقد اكتشف لتوًه أن الجد قد بدأ، وأن خاله شرع يدرس التفاصيل . ومعنى ذلك أنه، في نهاية المطاف،
سيحصل على البندقيّة.
خلع نعليه ودخل،فوسع له خاله طريقاً في الممر الذي كان يسدّه بذراعيه، ولاحقه بعينيه الضيقتين وهو يدخل إلى الغرفة المفروشة
ببسط الصوف ومساند القش، وحين جلس هزّ خاله رأسه بأسى وكفّ عن انتظار الجواب ، وما لبث أن توصل للقرار:
_أم الحسن تغلي الشاي، لا تقل لها شيئاً، سأعطيك المدفع.
_كنت أعرف ذلك.
_أنت تستغل طيبة قلب خالك ، أنت ولد شقي..من أين اشتريت الفشك؟
_من مجد الكروم.
_وكم دفعت؟
_جنيهاً ونصف.
_من أين؟
_حلالي، أنت تعرف: قرش فوق قرش.
_على أي حال ،الرصاص المسروق يقتل أيضاً.
كانت المرتينة تحت الفراش، وكان يعرف ذلك تماماً، فطوال أربع سنوات كان خاله يسمح له كل يوم جمعة تقريبلً أن يطلق منها
رصاصة أو رصاصتين في الحقل. وكانت ، فيما بعد، تنظف وتزيّت وتدفن تحت الفراش من جديد.
كانت بندقيّة ثقيلة ، ولكنّه حملها باستخفاف ودون أن ينظر إليها،وحين فتح له خاله الباب بهدوء ، كي يتسلل دون أن تراه أم
الحسن، علّقها على كتفه ،وبخطوات بطيئة ما لبثت أن تسارعت حتى تحولت إلى هرولة، اتجه إلى الشرق، وتسلّق حواجز الحقول
القليلة التي اعترضته، ثم أخذ يضرب في الوعر.
قال له خاله ان عليه الإبتعاد قليلاً عن حقول مستعمرة راما التي ستلاقيه على الطريق،وأنه إذا واصل المسير شرقاً مع انحراف
طفيف إلى الشمال فإنه لن يلاقي إلا بعض القرى العربية ثم سيجد نفسه في الوديان المحيطة بصفد.
مر من النهار نصفه فشعر بالبندقيّة تزداد ثقلاً ويضرب كعبها فخذه بلا هوادة،فقرر أن يستريح هنيهة ، وحين اتكأ بظهره على
صخرة تقع إلى جانب الطريق الضيق الذي حفرته أقدام الانسان منذ عشرات السنين وهي تختصر الجبال، شعر بعضلات ساقيه
تتمزق ، ومرة أخرى انتابه رعب مفاجيء، إلا أن البندقية كانت هناك ، مستريحة فوقر فخذيه ، مثل شيء أسطوري يبعث في صدر
الإنسان اطمئناناً مجهولاً.
_"ذلك أفضل ، على أي حال ، من فقدان المرتينة". قال ذلك بصوت عال ليزيد في اطمئنانه " الطريق المعبّد مليء بالدوريات
الإنكليزيّة ، وإذا شاهدوها معي صادروها"
ربت على ذراع البندقيّة وابتسم بوهن:
_ثم إن النقود ذهبت إلى الفشك...أنت تعرفين ذلك.
أوقفها أمامه قليلاً وثبّت كعبها بين قدميه ثم عاد وضغطها بكلتا كفيه فغاصت قليلاً في التراب الرطب، أزاح كفيه عنها بحرص
ولمّا لم تقع عقدهما خلف رأسه واتّكأ على الصخرة من جديد وأنشأ ينظر إليها.
_سوف أحصل عمّا قريب على مرتينة خاصّة، ستكون لي وحدي ، وأنت ستعودين إلى بيتك تحت فراش الصوف،وإذا سمح لك
بالخروج فإنما لاصطياد العصافير والسناجيب فقط، الثعالب أيضاً، ربما ، في حالات نادرة..
كانت بندقيّة ذات ماسورة طويلة تنتهي بفوهة فقدت مسمارها ، وكان حزامها الجلدي قد انقطع فربط خاله عوضاً عنه حبلاً من
الليف بلله الزيت وسوًدته الأيدي المتسخة بالطين سنة بعد أخرى فاكتسب لوناً قاتماً ثقيلاً. كان بيت النار يتسع لفشكة واحدة فقط
تدخل إليه من فتحة في الجانب، ولم يكن يدري فيما إذا كانت البندقيّة في الأصل صنعت على هذه الشاكلة، أم أن مرور الزمن قد
انتهى بها إلى هذه الصورة الغريبة. لا شك أن مكاناً ما قد خصص لوضع مشط لخمس فشكات أوست ، ىوكان عليك أن تسحب
المغلاق مرة إلى فوق ومرّة إلى الوراء كي تسقط فشكة وراء الأخرى في بيت النار، إلا أن مثل هذا الشيْ لم يعد موجوداً الآن،
وربما كان أمر اكتشاف الصورة الأصليّة لهذه المرتينة قد أضحى من اختصاص خبير متمكن في علم تاريخ السلاح،لقد عامل خاله
البندقيّة هذه كما كان يعامل أشجار حقله الصغير..يقصص عروقها، ويسلخ فروعاً منها ليطعم فيها فروعاً أخرى، يرقّعها ويشذبها
ويملأنواقصها حتى تعود فتبدو كتلة واحدة من جديد.ترى ماذا فعل بهذه البندقيّة في ربع القرن الأخير؟ ربما كانت علاقته بها هي
التي جعلته يسميها مدفعاً، فقد فقدت في الحقيقة كثيراً من صفات البندقيّة، ولسبب ما صارت تصدر ، حين الإطلاق، صوتاً مدويّاً
كالرعد.
_" ورغم ذلك فأنت مرتينة طيبة، وتصويبك يكاد لا يخطيء...المهم في الأمر هو أنك أمينة، فأنت لا تخرجين رصاصك إلا من
مكان واحد، إني أرجو ذلك على الأقل.".
كان لذراعها لون بني كامد، وبدا كأنه مكون من قطعة واحدة، إلا أن ذلك لم يكن صحيحاً،فقد شهد خاله مرة ، يرقع الذراع بقطعة
من خشب الزيتون نشرها ونعمها بعناية لا تصدق ، ثم دقها إلى الذراعببراعة فائقة: كانت قطعة من الذراع قد انسلخت حين اضطر
خاله ذات يوم ، لأن يستعمل عقب البندقية في قتل أفعة فاجأته في طريق عودته إلى الدار و قد تحطم يومئذ رأس الأفعى و جزء من
ذراع البندقية معاً، و لكن ذلك الحادث لم يكن ليستطيع أن يقنع أبا الحسن بأن عمر المرتينة قد انتهى .
" لو كنت أملك بندقية لما استعرتك من خالي أبي الحسن و يجب أن تكوني طيبة جداً معي كي أستعيرك مرة أخرى في المستقبل .
انه شئ غريب أليس كذلك ؟ أعني أ ن أذهب من مجد الكروم إلى نحف كي أستعير مرتينة أقاتل بها في صفد... إن مرتينة أبو
مصطفى في كسرة مرتينة جيدة ، لها مشط و حزام و كل ما يلزم المرتينة لتكون سلاحاً جيداً و لكن أبو مصطفى لن يعيرني مرتينته
، ثم إن كسرة ليست على الطريق بين مجد الكروم و صفد ، و ذلك حري بجعل المسافة أطول .."
و في أقل من لحظة واحدة كان قد انتصب و اقفاً و اختطف البندقية و أنشأ يحث خطاه ضارباً في الوادي تجاه الشرق :
" لعن الله الخيال، لعن الله أحلام اليقظة ، كما يقول الأستاذ " .
و حاول أن يفكر بالأستاذ ، إلا أنه هز راسه مبعداً الفكرة بعنف . و علق البندقية على كتفه و شد قبضته على الرصاص في
جيب سرواله و بدأ يهرول : كانت الشمس قد صارت فوق رأسه مباشرة ،إلا أنها كانت سجينة غيوم تتكاثف تحتها مثل ندف القطن .
- بعشرين فكة تغزو قلعة صفد !
هتف مرة اخرى بتلك الجملة الساخرة التي قالها خاله، والتي بدأت الآن تلح على ذهنه ، وأزاح كومة عوسج بكفه و بدأ يتسلق
ركاماً من الحجارة اعترضت الطريق و فكر :" لو حمل كل رجل في الجليل عشرين فشكة و اتجه إلى قلعة صفد لمزقناها في لحظة
واحدة" . بدأ يهبط كومة الحجارة بحذر و بساقين متصلبتين فيما امسك ذراع البندقية ، وراء ظهره ،بكفه و ابعدها عن جسده ليحتفظ
بتوازنه :
"هذايحتاج إلى كثير من الجهد، وإلى قيادة ،كما قال الحاج".وحاول للحظات قليلة أن يتصور معنى الكلمة ، قيادة ، إلا أنه لم يفلح،
تصور باديء الأمر أن مهمة القائد هي أن يدور على المقاتلين واحداً واحداً ويرشدهم إلى مايتوجب عليهم فعله ، إلا أنه استبعد هذه
الصورة: " كلام فارغ، ليس الأمر بهذه البساطة". وحين عجز عن تصور المزيد من التفاصيل استبعد الفكرة نهائياً وانصرف إلى
حساب الساعات التي قضاها في الوعر:" ولا بد أن تكون ست ساعات أو سبعاً". وفكر في أن يستريح مرة أخرى ، إلا أنه قرر
مواصلة السير.
أبوه وأمه سينتظرانه لتناول الغداء، اليوم يوم الجمعة،ووقت الصلاة قد مر منذ أكثر من ساعتين ، عادة يتناول الغداء مع والديه يوم
الجمعة.وسوف يفتقدانه ، ثم يبدأ أبوه الطعام ، وسيقول وهو يمضغ اللقوةالـولى:
"قلبك على إبنك وقلب لإبنك على الحجر.....هذا الصغير الشقي...
وستلردد أمه برهة ، حاستها السادسة ستخزها،عفريتها ، كما تحب أن تقول،يوشوش في أذنها أخباراً تبعث في نفسها القلق ،
ولكنها تخفيذلك عن زوجها ، وتمد يدها ببرود إلى الطعام ، وسوف يراقبها بطرف عينه ،ثم يقول:
" أنت تحسبين أنه لن يأكل الآن،ها؟ تحسبين أنه يتناول طعامه الآن من قفا يده، كما تفعلين ،أقسم بعظام رقبة والدي أنه يلتهم
طعامه في جهنم الحمراء بكلتل يديه وملء حلقه دون أن نخطر على باله لحظة واحدة".
ولن ترد أمه وتواصل الأكل كأن ماقيل ليس موجهاً إليها،هذه هي عادتها حين تكون ، في أعماقها، منصرفة إلى التفكير بأمر آخر.
على بعد ساعة بالسيارة إلى الغرب ، تقع عكا، منها إلى الجنوب قليلاً تقع حيفا.
في شارع الملك فيصل يعيش ابنها الأكبر ويعمل، ففي الغرفة الخارجيّة من شقة فخمة في الطابق الثاني توجد عيادته، فيما يعيش في
الغرفتين الداخليتين وحده،لم يتزوج بعد. في سبيل أن يناديه الناس" يا دكتور " باع أبوه قطعة زيتون ، وخصص لكل عام كومة من
تنكات الزيت تباع لتصرف على كتب ونظارات الدكتور قاسم.
ورغم سخرية الأب فقد أفلح الإبن ، وعاد من بيروت ذات يوم ، وكان أول شيء فعله ، حين تلاقى مع أبيه الذي ذهب ليستقبله
في عكا ، هو أن مدّ لسانه على قدر ما يستطيع بلعومه أن يدفع، في وجهه:
_أهذا هو ماتعلمت عند الأمريكان في بيروت،يا ولد يا قليل الأدب؟
وقال قاسم الذي أعد الجواب بدقة طوال الطريق:
_ كلا، تعلمت الطب، أنا دكتور الآن، دكتور طويل عريض رغم أنك صرفت السنوات الماضية كلها تقول أن ذلك مستحيل ، وتقول
أنني ولد فاشل سأدرس ألف سنة ثم أعود إلى المحراث!
ولم يستطع الأب أن يكبت فرحة اجتاحت صدره ، فلأخذ بذراع ابنه ودفعه إلى سيارة فورد عتيقة عربن عليها منذ الصباح لتنقلهما
والحقائب والمتب، إلى مجد الكروم، حيث حشت أم قاسم ثلاث دجاجات ورقبة وفوارغ، ولمت العائلة والحمولة وغربت إلى نصف
الطريق تتلقى العائد العزيز.
_يادكتور قاسم، منذ عشرات السنين تعلمت في القراءة الرشيدة أن...
وقاطعه قاسم ضاحكاً:
_ الحمار حمار ولو بين الخيول ربّي!دائماً تقول ذلك حين أقول لك أنني سأصير طبيباً. الأمر يختلف الآن ، الحمير والخيول ستبقى
في مجد الكروم ومحسوبك سيفتح عيادةفي حيفا .
وبنفس السرعة التي يستطيع الفرح أن يجتاح بها صدر أبي قلسم اجتاح الغضب عروق جبهته:
_حيفا؟ قلة أطباء في حيفا؟
_أين تريدني أن أعمل إذن ؟
_ في مجد الكروم يا ولد ياعاق.
_مجد الكروم ؟ تحسب أن نني حلاق أداوي الأمراض بالعلق؟ إن إتخن رأس في مجد الكروم سينقدني تعريفة، على الأكثر،ماذا؟
تريدني لأن أموت جوعاً؟
وأطبق أبو قاسم شفتيه بإحكام ، انتهى الأمر ،لحظات الفرح كلها انتهت، وهو يعرف تماماً أنه إذا ما استمر في الحديث فسيهدر بما
لن يرضي الولد الذي وصل لتوه من آخر الدنيا. ولوهلة أحس بغصّة في حلقه، ولكنه لم يشأ أن يظهر لإبنه لحظة ضعف واحدة.
فأنشأ يحدّق من شباك السيارة فتنسحب أمام عينيه حقول الزيتون تلتمع أوراقه في الشمس كصفائح صغيرة من الفضة.
_ كيف أمي؟
_بخير.
_والصغير؟
_في المدرسة، هذا الصغير يحب الحقول.
وانفرج صدره، وعاد إليه الفرح فجأة وتبدت أمامه حقول الزيتون تشع بضوء مقدس:
_ الصغير يحب الحقول، حين يعود من المدرسة يغوص في الساقية إلى ركبتيه، إن له يدي فلاح حقيقي.....في كثير من الأحيان
يتسلل من البيت في الليل وينام تحت الزيتون..
ومرة أخرى جاء صوت قاسم مقاطعاً:
_ أنتم تقتلون هذا الولد...تقتلونه والله العظيم! غداً سآخذه معي إلى حيفا، وسيعرف كيف يصنع مستقبله كما يشاء.
وفجأة استدار أبو قاسم وأمسك إبنه من زنده بقوة:
_ انظر إلى اليهود، حين يجيء الواحد منهم ينصرف إلى العمل في القرى ...لماذا لا تفتح عيادتك في مجد الكروم؟
إلا أن السيارة وقفت،وفب اللحظة نفسها شهد أبو قاسم بوضوح ، بوضوح لن ينساه مدى الحياة، نظرة احتقار عابرة تلتمع في
عيني ابنه، نظرة
لم تلبث أكثر من لحظة صغيرة بارقة، ولكنه استطاع أن يلتقطها وأحس بها تسقط إلى صدره كانهيار جبلي راعد،وفي اللحظة التالية
علت الزغاريد وانفتح باب السيارة، ونزل قاسم فتلقفته الأذرعة والأثواب المزركسة، ومن داخل السيارة ، وهو مسمر في مقعده
كالحجر، شهد زوجته تمرّغ وجهها الأسمر الباكي على وجه ولدها العائد فتبلله بالدموع ثم تنهمر على ركبتيها وتجهش ببكاء غريب
على صدره فيما أخذت تشده إليها بذراعيها المعقودتين وراء ظهره بإحكام، وحولهما كانت الزغاريد تعلن فخارها العميق بالرجل
الذي ذهب فلاحاً وعاد طبيباً: يا سندي ياولدي ياكبدي، ياابن مجد الكروم يافخرها.....ياعودة الفارس،يا احرسه يل حارس ،يا مئة
اصبع في عين الحسود يا احميه يامعبود!
وفيما كانت العائلة تزف قاسم إلى البيت كان أبو قاسم يسير بعيداً وراء الحشد الصاخب، يلتقط عوداً ويضرب به جانب قنبازه
فيصدر صوتاً كالتمزق، ومن مكانه شاهد الصغير يعدو وراء الحشد محاولاً تلمس أخيه الكبير العائد.قصف العود وطواه إلى بعضه
ثم ألقاه إلى الأرض وبدأ يحث خطاه :
_"بقي الصغير".
.............
2_الصغير يستعير مرتينة خاله ويشرّق إلى صفد.
اتكأ بظهره المبتل وفرش ساقيه منفرجتين وأخذ ينظر إلى السماء: كانت غيوم داكنة تتسابق فوق رأسه وقد توهجت أطرافها
بضوء الشمس فبدت كأنها تلتهب، وخيّم حوله صمت ثقيل : أبداً لم يخطر في باله أن مثل هذا الوعر يمكن أن يكون موجوداً.حتّى
حين قال له خاله أن الطريق بين مجد الكروم وصفد تستعصي على الماعز لم يصدّق، وابتسم بهدوء وهو يمدّ له كفيه فيتلقى البندقيّة
التركيّة العتيقة، وحين ضمّها إلى صدره قال له خاله مرّة أخرى:
_ الطريق بين مجد الكروم وصفد وعر يستعصي على الماعز ، ان ولداً مثلك سوف يموت في الشول قبل أن يقطع نصف المسافة.
ودون أن يلتفت إليه ردّ، للمرة العاشرة منذ الصباح، على كلمة "ولد" التي لا ينفك خاله يوجهها إليه:
_أنا لست ولداً.
_عمرك سبعة عشر عاماً، والبندقيّة التي تحملها تزن أكثر من نصف وزنك، والطريق طويلة شرسة .
وانتايه الرعب لحظة واحدة فقط، فشد البندقيّة إلى صدره واستدار فواجه خاله من جديد:
_إذا كنت خائفاً على بندقيتك فقل ذلك بصراحة.
_أنا خائف عليك .أنت مجنون صغير ولكنني لا أريد أن أفشلك ، لماذا لا تقف على الطريق وتركب السيارة فتصل إلى صفد؟ لماذا
، أصلاً ، تريد الذهاب إلى صفد؟ قلّة رجال هناك؟
ولم يبد على خاله أنه يريد أجوبة لكل هذه الأسئلة، ففور أن انتهى من الكلام مدّ يده فربّت على كتفه، ووضع حدّاً للحوار الذي
استمرّ ساعة وأكثر من ساعة:
_مع السلامة، انتبه دائماً إلى أنّ هذا المدفع الذي تحمله وحش لا أمان فيه،إنه شيء قديم، ولكنّه مازال صالحاً.
هذا الخال الغريب الذي يطلق أسماء أخرى على الأشياء ، يقول له ولد بدل أن يناديه باسمه، ويسمي البندقيّة العتيقة مدفعاً، يعرف
حقيقة الأمور أكثر من أي مخلوق آخر على ظهر هذه الأرض.
فحين دقّ بابه في أبكر الصبح ورجاه أن يستعير بندقيّته لم يتردد لحظة واحدة،ولكنه أمضى أكثر من ساعة يحذره فيها من الدريق
وضراوة الطريق،وكان تحذيره صحيحاً تماماً،لقد انتصف النهار ولم يزل في منتصف الطريق،ويخشى الآن أن يصل إلى صفد مع
حلول العتمة، إذا وصل!
مطر الليلة بلل التراب وغسل صخور هذا الجبل الأجرد، ورغم ذلك فإن الجفاف مازال متبديّاً بوضوح،حين شاهدته أمه يتسللمن
باب البيت مع الفجر، لم تسأله عنوجهته،ولكنها طلبت إليه أن يتدثر بمعطفه ففعل دون مناقشة.أكانت تعرف ،ياترى، خطته التي
مضغها وحده ثلاثة أيّام.
بعد ربع ساعة فقط مرت سيارة عتيقة قادمة من عكّا، فحشر نفسه في زحام ركّابها الصامتين المتدثرين بمعاطفهم، ودفع للسائق
آخر قرشين كان يحملهما فدسهما في جيبه دون أن ينظر إليهما، وحين نزل على مفرق نحف لاحقهم الركاب بعيونهم الصامتة: كانت
الشمس قد بدأت ترسل أشعتها الواهنة حين أخذ يتسلّق الطريق الترابي الذي يفصل نحف عن الشارع العام، وكان صقيع الليل
الجبلي مازال يخزّ عظامه بقسوة.
دقّ بقبضته الباب الخشبي لدار خاله أبو الحسن. كان يعرف أن خاله قد انتهى من صلاة الفجر وهو في سبيل أن يعود إلى فراشه
لينام مرة أخرى حسب عادته التي لم يغيرها منذ وعي خاله وبيت خاله.وحين فتح الباب وردت العينان المدهوشتان تحيّة الصباح
بسط حكايته بإيجاز، قبل أن يخطو إلى الداخل:
_الشباب في صفد يحاصرون القلعة، جئت أستعير بندقيّتك لأذهب إلى هناك ، هل ستعطينيها؟
_ومن أين ستحصل على الفشك؟
_اشتريته.
_ كم فشكة؟
_حوالي العشرين.
_ وبعشرين فشكة تغزو قلعة صفد؟
_هل ستعيرني بندقيتك؟ سأعيدها لك بعد يومين.
_وإذا مت؟
قالها خاله باسماً كأنه لا يصدق الحكاية، ولكنه لم يبتسم ولم يتردد، كان قد أعدّ جواباً لكل هذه الأسئلة:
_ إذا مت سيعيدها لك حسام،إنه هناك وسأوصيه بذلك.
دار خاله على عقبيه وخطا إلى الداخل ، وحين غيبه الممر سمع صوته ينادي:
_ادخل أيّها الولد ،تناول الفطور.
ولكنه لم يدخل ، كان قد قرر ذلك منذ البدء، وصاح بدوره:
_هل ستعطيني المرتينة؟
_حلمت بها الليلة؟لماذا لا تقول يا فتّاح يا عليم؟
_أريد أن أعرف،لا أريد أن أضيّع وقتاً، إذا كنت لا تريد اعارتي مرتينتك فعليّ أن أذهب فوراً إلى كسرة ، عند أب مصطفى مرتينة
أخرى قد يعيرني إيّاها.
ومرت لحظات صمت طويلة، ثم أطل خاله مرة أخرى من آخر الممر وأخذ ينظر إليه بإمعان: كان طويل القامة عجوزاً لم تؤثر
السنون بعرض منكبيه، مشمراً عن ساعديه المكسوين بشعر غزير شائب وواضعاً طاقيّة مطرزة فوق شعره الأبيض القصير.مرت
لحظات أخرى تبادلا فيها النظر بصمت كأنه الإمتحان، وجاء السؤال الذي كان ينتظره منذ البدء:
_هل رويت هذه القصة للعجوز؟
_أمي لا تقبل أن تسميها عجوزاً.
وابتسم، إلا أن خاله كرر السؤال وهو يقطب حاجبيه معلناً له ، بهذه الطريقة، عدم عزمه على المزاح:
_العجوز،هل عرفت خطّة ابنها؟
وانتابته سعادة مفاجئة، فقد اكتشف لتوًه أن الجد قد بدأ، وأن خاله شرع يدرس التفاصيل . ومعنى ذلك أنه، في نهاية المطاف،
سيحصل على البندقيّة.
خلع نعليه ودخل،فوسع له خاله طريقاً في الممر الذي كان يسدّه بذراعيه، ولاحقه بعينيه الضيقتين وهو يدخل إلى الغرفة المفروشة
ببسط الصوف ومساند القش، وحين جلس هزّ خاله رأسه بأسى وكفّ عن انتظار الجواب ، وما لبث أن توصل للقرار:
_أم الحسن تغلي الشاي، لا تقل لها شيئاً، سأعطيك المدفع.
_كنت أعرف ذلك.
_أنت تستغل طيبة قلب خالك ، أنت ولد شقي..من أين اشتريت الفشك؟
_من مجد الكروم.
_وكم دفعت؟
_جنيهاً ونصف.
_من أين؟
_حلالي، أنت تعرف: قرش فوق قرش.
_على أي حال ،الرصاص المسروق يقتل أيضاً.
كانت المرتينة تحت الفراش، وكان يعرف ذلك تماماً، فطوال أربع سنوات كان خاله يسمح له كل يوم جمعة تقريبلً أن يطلق منها
رصاصة أو رصاصتين في الحقل. وكانت ، فيما بعد، تنظف وتزيّت وتدفن تحت الفراش من جديد.
كانت بندقيّة ثقيلة ، ولكنّه حملها باستخفاف ودون أن ينظر إليها،وحين فتح له خاله الباب بهدوء ، كي يتسلل دون أن تراه أم
الحسن، علّقها على كتفه ،وبخطوات بطيئة ما لبثت أن تسارعت حتى تحولت إلى هرولة، اتجه إلى الشرق، وتسلّق حواجز الحقول
القليلة التي اعترضته، ثم أخذ يضرب في الوعر.
قال له خاله ان عليه الإبتعاد قليلاً عن حقول مستعمرة راما التي ستلاقيه على الطريق،وأنه إذا واصل المسير شرقاً مع انحراف
طفيف إلى الشمال فإنه لن يلاقي إلا بعض القرى العربية ثم سيجد نفسه في الوديان المحيطة بصفد.
مر من النهار نصفه فشعر بالبندقيّة تزداد ثقلاً ويضرب كعبها فخذه بلا هوادة،فقرر أن يستريح هنيهة ، وحين اتكأ بظهره على
صخرة تقع إلى جانب الطريق الضيق الذي حفرته أقدام الانسان منذ عشرات السنين وهي تختصر الجبال، شعر بعضلات ساقيه
تتمزق ، ومرة أخرى انتابه رعب مفاجيء، إلا أن البندقية كانت هناك ، مستريحة فوقر فخذيه ، مثل شيء أسطوري يبعث في صدر
الإنسان اطمئناناً مجهولاً.
_"ذلك أفضل ، على أي حال ، من فقدان المرتينة". قال ذلك بصوت عال ليزيد في اطمئنانه " الطريق المعبّد مليء بالدوريات
الإنكليزيّة ، وإذا شاهدوها معي صادروها"
ربت على ذراع البندقيّة وابتسم بوهن:
_ثم إن النقود ذهبت إلى الفشك...أنت تعرفين ذلك.
أوقفها أمامه قليلاً وثبّت كعبها بين قدميه ثم عاد وضغطها بكلتا كفيه فغاصت قليلاً في التراب الرطب، أزاح كفيه عنها بحرص
ولمّا لم تقع عقدهما خلف رأسه واتّكأ على الصخرة من جديد وأنشأ ينظر إليها.
_سوف أحصل عمّا قريب على مرتينة خاصّة، ستكون لي وحدي ، وأنت ستعودين إلى بيتك تحت فراش الصوف،وإذا سمح لك
بالخروج فإنما لاصطياد العصافير والسناجيب فقط، الثعالب أيضاً، ربما ، في حالات نادرة..
كانت بندقيّة ذات ماسورة طويلة تنتهي بفوهة فقدت مسمارها ، وكان حزامها الجلدي قد انقطع فربط خاله عوضاً عنه حبلاً من
الليف بلله الزيت وسوًدته الأيدي المتسخة بالطين سنة بعد أخرى فاكتسب لوناً قاتماً ثقيلاً. كان بيت النار يتسع لفشكة واحدة فقط
تدخل إليه من فتحة في الجانب، ولم يكن يدري فيما إذا كانت البندقيّة في الأصل صنعت على هذه الشاكلة، أم أن مرور الزمن قد
انتهى بها إلى هذه الصورة الغريبة. لا شك أن مكاناً ما قد خصص لوضع مشط لخمس فشكات أوست ، ىوكان عليك أن تسحب
المغلاق مرة إلى فوق ومرّة إلى الوراء كي تسقط فشكة وراء الأخرى في بيت النار، إلا أن مثل هذا الشيْ لم يعد موجوداً الآن،
وربما كان أمر اكتشاف الصورة الأصليّة لهذه المرتينة قد أضحى من اختصاص خبير متمكن في علم تاريخ السلاح،لقد عامل خاله
البندقيّة هذه كما كان يعامل أشجار حقله الصغير..يقصص عروقها، ويسلخ فروعاً منها ليطعم فيها فروعاً أخرى، يرقّعها ويشذبها
ويملأنواقصها حتى تعود فتبدو كتلة واحدة من جديد.ترى ماذا فعل بهذه البندقيّة في ربع القرن الأخير؟ ربما كانت علاقته بها هي
التي جعلته يسميها مدفعاً، فقد فقدت في الحقيقة كثيراً من صفات البندقيّة، ولسبب ما صارت تصدر ، حين الإطلاق، صوتاً مدويّاً
كالرعد.
_" ورغم ذلك فأنت مرتينة طيبة، وتصويبك يكاد لا يخطيء...المهم في الأمر هو أنك أمينة، فأنت لا تخرجين رصاصك إلا من
مكان واحد، إني أرجو ذلك على الأقل.".
كان لذراعها لون بني كامد، وبدا كأنه مكون من قطعة واحدة، إلا أن ذلك لم يكن صحيحاً،فقد شهد خاله مرة ، يرقع الذراع بقطعة
من خشب الزيتون نشرها ونعمها بعناية لا تصدق ، ثم دقها إلى الذراعببراعة فائقة: كانت قطعة من الذراع قد انسلخت حين اضطر
خاله ذات يوم ، لأن يستعمل عقب البندقية في قتل أفعة فاجأته في طريق عودته إلى الدار و قد تحطم يومئذ رأس الأفعى و جزء من
ذراع البندقية معاً، و لكن ذلك الحادث لم يكن ليستطيع أن يقنع أبا الحسن بأن عمر المرتينة قد انتهى .
" لو كنت أملك بندقية لما استعرتك من خالي أبي الحسن و يجب أن تكوني طيبة جداً معي كي أستعيرك مرة أخرى في المستقبل .
انه شئ غريب أليس كذلك ؟ أعني أ ن أذهب من مجد الكروم إلى نحف كي أستعير مرتينة أقاتل بها في صفد... إن مرتينة أبو
مصطفى في كسرة مرتينة جيدة ، لها مشط و حزام و كل ما يلزم المرتينة لتكون سلاحاً جيداً و لكن أبو مصطفى لن يعيرني مرتينته
، ثم إن كسرة ليست على الطريق بين مجد الكروم و صفد ، و ذلك حري بجعل المسافة أطول .."
و في أقل من لحظة واحدة كان قد انتصب و اقفاً و اختطف البندقية و أنشأ يحث خطاه ضارباً في الوادي تجاه الشرق :
" لعن الله الخيال، لعن الله أحلام اليقظة ، كما يقول الأستاذ " .
و حاول أن يفكر بالأستاذ ، إلا أنه هز راسه مبعداً الفكرة بعنف . و علق البندقية على كتفه و شد قبضته على الرصاص في
جيب سرواله و بدأ يهرول : كانت الشمس قد صارت فوق رأسه مباشرة ،إلا أنها كانت سجينة غيوم تتكاثف تحتها مثل ندف القطن .
- بعشرين فكة تغزو قلعة صفد !
هتف مرة اخرى بتلك الجملة الساخرة التي قالها خاله، والتي بدأت الآن تلح على ذهنه ، وأزاح كومة عوسج بكفه و بدأ يتسلق
ركاماً من الحجارة اعترضت الطريق و فكر :" لو حمل كل رجل في الجليل عشرين فشكة و اتجه إلى قلعة صفد لمزقناها في لحظة
واحدة" . بدأ يهبط كومة الحجارة بحذر و بساقين متصلبتين فيما امسك ذراع البندقية ، وراء ظهره ،بكفه و ابعدها عن جسده ليحتفظ
بتوازنه :
"هذايحتاج إلى كثير من الجهد، وإلى قيادة ،كما قال الحاج".وحاول للحظات قليلة أن يتصور معنى الكلمة ، قيادة ، إلا أنه لم يفلح،
تصور باديء الأمر أن مهمة القائد هي أن يدور على المقاتلين واحداً واحداً ويرشدهم إلى مايتوجب عليهم فعله ، إلا أنه استبعد هذه
الصورة: " كلام فارغ، ليس الأمر بهذه البساطة". وحين عجز عن تصور المزيد من التفاصيل استبعد الفكرة نهائياً وانصرف إلى
حساب الساعات التي قضاها في الوعر:" ولا بد أن تكون ست ساعات أو سبعاً". وفكر في أن يستريح مرة أخرى ، إلا أنه قرر
مواصلة السير.
أبوه وأمه سينتظرانه لتناول الغداء، اليوم يوم الجمعة،ووقت الصلاة قد مر منذ أكثر من ساعتين ، عادة يتناول الغداء مع والديه يوم
الجمعة.وسوف يفتقدانه ، ثم يبدأ أبوه الطعام ، وسيقول وهو يمضغ اللقوةالـولى:
"قلبك على إبنك وقلب لإبنك على الحجر.....هذا الصغير الشقي...
وستلردد أمه برهة ، حاستها السادسة ستخزها،عفريتها ، كما تحب أن تقول،يوشوش في أذنها أخباراً تبعث في نفسها القلق ،
ولكنها تخفيذلك عن زوجها ، وتمد يدها ببرود إلى الطعام ، وسوف يراقبها بطرف عينه ،ثم يقول:
" أنت تحسبين أنه لن يأكل الآن،ها؟ تحسبين أنه يتناول طعامه الآن من قفا يده، كما تفعلين ،أقسم بعظام رقبة والدي أنه يلتهم
طعامه في جهنم الحمراء بكلتل يديه وملء حلقه دون أن نخطر على باله لحظة واحدة".
ولن ترد أمه وتواصل الأكل كأن ماقيل ليس موجهاً إليها،هذه هي عادتها حين تكون ، في أعماقها، منصرفة إلى التفكير بأمر آخر.
على بعد ساعة بالسيارة إلى الغرب ، تقع عكا، منها إلى الجنوب قليلاً تقع حيفا.
في شارع الملك فيصل يعيش ابنها الأكبر ويعمل، ففي الغرفة الخارجيّة من شقة فخمة في الطابق الثاني توجد عيادته، فيما يعيش في
الغرفتين الداخليتين وحده،لم يتزوج بعد. في سبيل أن يناديه الناس" يا دكتور " باع أبوه قطعة زيتون ، وخصص لكل عام كومة من
تنكات الزيت تباع لتصرف على كتب ونظارات الدكتور قاسم.
ورغم سخرية الأب فقد أفلح الإبن ، وعاد من بيروت ذات يوم ، وكان أول شيء فعله ، حين تلاقى مع أبيه الذي ذهب ليستقبله
في عكا ، هو أن مدّ لسانه على قدر ما يستطيع بلعومه أن يدفع، في وجهه:
_أهذا هو ماتعلمت عند الأمريكان في بيروت،يا ولد يا قليل الأدب؟
وقال قاسم الذي أعد الجواب بدقة طوال الطريق:
_ كلا، تعلمت الطب، أنا دكتور الآن، دكتور طويل عريض رغم أنك صرفت السنوات الماضية كلها تقول أن ذلك مستحيل ، وتقول
أنني ولد فاشل سأدرس ألف سنة ثم أعود إلى المحراث!
ولم يستطع الأب أن يكبت فرحة اجتاحت صدره ، فلأخذ بذراع ابنه ودفعه إلى سيارة فورد عتيقة عربن عليها منذ الصباح لتنقلهما
والحقائب والمتب، إلى مجد الكروم، حيث حشت أم قاسم ثلاث دجاجات ورقبة وفوارغ، ولمت العائلة والحمولة وغربت إلى نصف
الطريق تتلقى العائد العزيز.
_يادكتور قاسم، منذ عشرات السنين تعلمت في القراءة الرشيدة أن...
وقاطعه قاسم ضاحكاً:
_ الحمار حمار ولو بين الخيول ربّي!دائماً تقول ذلك حين أقول لك أنني سأصير طبيباً. الأمر يختلف الآن ، الحمير والخيول ستبقى
في مجد الكروم ومحسوبك سيفتح عيادةفي حيفا .
وبنفس السرعة التي يستطيع الفرح أن يجتاح بها صدر أبي قلسم اجتاح الغضب عروق جبهته:
_حيفا؟ قلة أطباء في حيفا؟
_أين تريدني أن أعمل إذن ؟
_ في مجد الكروم يا ولد ياعاق.
_مجد الكروم ؟ تحسب أن نني حلاق أداوي الأمراض بالعلق؟ إن إتخن رأس في مجد الكروم سينقدني تعريفة، على الأكثر،ماذا؟
تريدني لأن أموت جوعاً؟
وأطبق أبو قاسم شفتيه بإحكام ، انتهى الأمر ،لحظات الفرح كلها انتهت، وهو يعرف تماماً أنه إذا ما استمر في الحديث فسيهدر بما
لن يرضي الولد الذي وصل لتوه من آخر الدنيا. ولوهلة أحس بغصّة في حلقه، ولكنه لم يشأ أن يظهر لإبنه لحظة ضعف واحدة.
فأنشأ يحدّق من شباك السيارة فتنسحب أمام عينيه حقول الزيتون تلتمع أوراقه في الشمس كصفائح صغيرة من الفضة.
_ كيف أمي؟
_بخير.
_والصغير؟
_في المدرسة، هذا الصغير يحب الحقول.
وانفرج صدره، وعاد إليه الفرح فجأة وتبدت أمامه حقول الزيتون تشع بضوء مقدس:
_ الصغير يحب الحقول، حين يعود من المدرسة يغوص في الساقية إلى ركبتيه، إن له يدي فلاح حقيقي.....في كثير من الأحيان
يتسلل من البيت في الليل وينام تحت الزيتون..
ومرة أخرى جاء صوت قاسم مقاطعاً:
_ أنتم تقتلون هذا الولد...تقتلونه والله العظيم! غداً سآخذه معي إلى حيفا، وسيعرف كيف يصنع مستقبله كما يشاء.
وفجأة استدار أبو قاسم وأمسك إبنه من زنده بقوة:
_ انظر إلى اليهود، حين يجيء الواحد منهم ينصرف إلى العمل في القرى ...لماذا لا تفتح عيادتك في مجد الكروم؟
إلا أن السيارة وقفت،وفب اللحظة نفسها شهد أبو قاسم بوضوح ، بوضوح لن ينساه مدى الحياة، نظرة احتقار عابرة تلتمع في
عيني ابنه، نظرة
لم تلبث أكثر من لحظة صغيرة بارقة، ولكنه استطاع أن يلتقطها وأحس بها تسقط إلى صدره كانهيار جبلي راعد،وفي اللحظة التالية
علت الزغاريد وانفتح باب السيارة، ونزل قاسم فتلقفته الأذرعة والأثواب المزركسة، ومن داخل السيارة ، وهو مسمر في مقعده
كالحجر، شهد زوجته تمرّغ وجهها الأسمر الباكي على وجه ولدها العائد فتبلله بالدموع ثم تنهمر على ركبتيها وتجهش ببكاء غريب
على صدره فيما أخذت تشده إليها بذراعيها المعقودتين وراء ظهره بإحكام، وحولهما كانت الزغاريد تعلن فخارها العميق بالرجل
الذي ذهب فلاحاً وعاد طبيباً: يا سندي ياولدي ياكبدي، ياابن مجد الكروم يافخرها.....ياعودة الفارس،يا احرسه يل حارس ،يا مئة
اصبع في عين الحسود يا احميه يامعبود!
وفيما كانت العائلة تزف قاسم إلى البيت كان أبو قاسم يسير بعيداً وراء الحشد الصاخب، يلتقط عوداً ويضرب به جانب قنبازه
فيصدر صوتاً كالتمزق، ومن مكانه شاهد الصغير يعدو وراء الحشد محاولاً تلمس أخيه الكبير العائد.قصف العود وطواه إلى بعضه
ثم ألقاه إلى الأرض وبدأ يحث خطاه :
_"بقي الصغير".
فاطمة شكري- عضو متميز
- الأبراج الصينية :
عدد المساهمات : 779
تاريخ الميلاد : 01/12/1979
تاريخ التسجيل : 09/08/2010
العمر : 44
العزيزة فينوس
عزيزتي ..دائما متميزة فينوس حتي باطلالتك علي العظماء
هم رجال كما قال عنهم الاديب المناضل غسان ..هم من صادقوا فصدقوا ..شيمتهم شيمة المناضلين الذين استمدوا رجولتهم منهم..هم رجال البنادق والخنادق
كثيرا راقية في كل شئ
تحياتي لك عزيزتي
هم رجال كما قال عنهم الاديب المناضل غسان ..هم من صادقوا فصدقوا ..شيمتهم شيمة المناضلين الذين استمدوا رجولتهم منهم..هم رجال البنادق والخنادق
كثيرا راقية في كل شئ
تحياتي لك عزيزتي
سميرة عبد العليم- عضو متميز
- الأبراج الصينية :
عدد المساهمات : 1340
تاريخ الميلاد : 01/07/1973
تاريخ التسجيل : 10/01/2011
العمر : 51
مواضيع مماثلة
» 10 حقائق قد لا يعرفها الكثيرون عن غسان كنفاني
» غسان كنفاني
» ما تبقى لكم من أدب غسان كنفاني
» منتصف أيار ..غسان كنفاني
» مقتطفات من روايات غسان كنفاني
» غسان كنفاني
» ما تبقى لكم من أدب غسان كنفاني
» منتصف أيار ..غسان كنفاني
» مقتطفات من روايات غسان كنفاني
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» بعد إذن الغضب في الذكرى الثالثة عشر لوفاة امي
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» من روائع الأدب الروسي أمي لأنطون تشيخوف
الخميس 17 أكتوبر 2024 - 11:18 من طرف هبة الله فرغلي
» مشوار الصمت ... إلى روح أبي الطاهرة في ذكرى رحيله الثالثة عشر
الخميس 3 أكتوبر 2024 - 12:13 من طرف ميساء البشيتي
» في الذكرى الثانية لرحيل الوالد عام مرَّ .
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 12:15 من طرف ميساء البشيتي
» عيد ميلاد ابنتي دينا
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 11:13 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل إلى أمي
السبت 28 سبتمبر 2024 - 13:05 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل في الهواء
السبت 7 سبتمبر 2024 - 12:30 من طرف ميساء البشيتي
» أن تملك مكتبة - أن تخسر مكتبة ..شجاع الصفدي
الخميس 5 سبتمبر 2024 - 11:27 من طرف خيمة العودة
» طباق إلى إدوارد سعيد ..محمود درويش
السبت 31 أغسطس 2024 - 12:05 من طرف حاتم أبو زيد
» سلسلة حلقات جاهلية .
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 12:10 من طرف ميساء البشيتي
» لمن يهمه الأمر
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 11:52 من طرف هبة الله فرغلي
» عندما تنتهي الحرب بقلم شجاع الصفدي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:17 من طرف خيمة العودة
» شجرة التين بقلم نور دكرلي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:11 من طرف خيمة العودة
» عيد ميلاد سعيد يا فرح
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 12:49 من طرف ميساء البشيتي
» مطر أسود
الإثنين 12 أغسطس 2024 - 10:29 من طرف ميساء البشيتي
» بـــ أحس الآن ــــــــ
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» أنا .. أنت .. نحن كلمة ( مشاركة عامة )
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» فقلْ يا رب للشاعر الفلسطيني صبحي ياسين
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:24 من طرف خيمة العودة
» ثورة صامتة
الإثنين 29 يوليو 2024 - 10:53 من طرف مؤيد السالم
» فضل شهر الله المحرّم وصيام عاشوراء
الثلاثاء 16 يوليو 2024 - 11:14 من طرف فاطمة شكري
» "عيون جاهلية" إصدار ميساء البشيتي الإلكتروني السادس
الإثنين 15 يوليو 2024 - 17:53 من طرف ميساء البشيتي
» سيد الصمت .. إلى أبي في ذكرى رحيله السادسة
الأحد 7 يوليو 2024 - 14:45 من طرف ميساء البشيتي
» ليلاي ومعتصمها
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:24 من طرف مريومة
» غزلك حلو
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:21 من طرف ريما مجد الكيال