بحـث
من أنا ؟
حقوقية، كاتبة، ناشطة في شؤون بلادي وشؤون المرأة، لي عدة منشورات ورقية وإلكترونية
المواضيع الأخيرة
كتب ميساء البشيتي الإلكترونية
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
الـحـرب الـبـاردة الـثـقـافـيـة الدكـتـور عـبـد القـادر حـسين ياسين
صفحة 1 من اصل 1
الـحـرب الـبـاردة الـثـقـافـيـة الدكـتـور عـبـد القـادر حـسين ياسين
الـحـرب الـبـاردة الـثـقـافـيـة الدكـتـور عـبـد القـادر حـسين ياسين
حينما صدر هذا الكتاب عن دار Granta غـرانتا ، تحول الفضول إلى اهتمام حقيقي بالكتاب، على امتداد العالم . لم يأت هذا الفضول والاهتمام من فراغ، ولا نبعاً من المجهول، وإنما كان رد الفعل الطبيعي لحشد من المفاجآت أثارها الكتاب.
المفاجأة الأولى هي أن الكتاب ليست ثمرة جهود حشد من الباحثين، وإنما هو النتيجة المباشرة لدأب مؤلفته، فرانسيس ستونور سوندرز، التي تعد اسماً جديداً في دنيا الكتاب، وعلى الرغم من خبرتها في عالم التوثيق إلا أن هذا الكتاب يعد الإطلالة الأولى من نوعها لها.
فمن هي مؤلفة الكتاب?
وكيف أتيح لها أن تضع يدها على هذا الحشد الرهيب من الأسرار والحقائق والأرقام والوقائع والصفقات والمؤامرات وعمليات التلاعب والخداع? وما هي الوثائق والمقابلات والأصول والأساليب التي أتاحت لها أن تخرج على العالم بكتاب على هذا القدر من الجرأة والجسارة؟
تخرجت فرانسيس ستونور سوندرز من جامعة أكسفورد عام 1987 وعملت منتجة مستقلة للأفلام الوثائقية. ومن أبرز الأعمال التي أنجزتها فيلم وثائقي يعرض في شكل سلسلة تستغرق أربع سنوات بعنوان: "أيد خفية: تاريخ مختلف للحداثة"، وهي تقيم في لندن غير أن نشاطاتها تمتد عبر شاطئ الأطلسي، وتتركز حول التوثيق.
وهي تطلعنا على جانب من الصعوبات التي واجهتها قبل أن يرى كتابها النور، فتوضح أن تأليف الكتاب كان في جوهره رحلة تشرد هائلة، انطلقت فيها ، ومعها ملفاتها وصناديقها الحافلة بالوثائق، من مكان إلى آخر ... وعلى الرغم من القائمة الممتدة لمن ساعـدوها في جهدها ، والذين تدرجهم في صدر الكتاب، فإنها توضح أنها عـندما بدأت في توثيق وقائع الحرب الباردة الثقافية كانت تعلق آمالاً كباراً على الاستفادة من قانون "حرية المعلومات الأمريكي". غير أنها سرعان ما اصطدمت بحائط الواقع الصلد.
وثائق باهظة الثمن
ربما كان مصدر هذه الآمال الكبار أن العديد من الوثائق الحكومية الأمريكية التي كانت محظورة في السابق قد كشف النقاب عنها، إعمالاً لهذا القانون، وتم تسليمها للباحثين، ونتج عن هذا إثراء العديد من الدراسات الحديثة التي تدور حول "مكتب التحقيقات الإتـحـادي" الأمريكي إلى حد كبير.
وتوضح سوندرز أن الحصول على الوثائق من وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة أمر مختلف تمام الاختلاف، حيث تقدمت لهذا الجهاز بطلب رسمي للحصول على وثائق ينطبق عليها قانون"حرية الإعلام الأمريكي" وذلك في عام ... 1992 وحتى صدور الكتاب لم تكن قد حصلت على ما طلبته من وثائق. وأقر مسئولو الجهاز بتلقي طلب رسمي لاحق منها، ولكنهم حذروها من أن تقديم الوثائق المطلوبة سيكلـفها مبلغاً إجمالياً يصل إلى ثلاثين ألف دولار، وأوضح لها منسق المعلومات والخصوصية في الجهاز الأمريكي أن فرص الحصول على الوثائق من وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة مـعـدومة.
وهكذا، لم يكن أمام المؤلفة من بديل إلا اللجوء إلى الوثائق الموجودة في المجموعات الخاصة، حيث إن إدارات أمريكية متتابعة مدَّت تعاونها إلى القطاع الخاص، وفي مرحلة الحرب الباردة بصفة خاصة شاركت مع الخارجية الأمريكية في صنع مقومات السياسة الخارجية الأمريكية مجموعة من المؤسسات والشخصيات شبه الحكومية، وقد أدى هذا إلى توفير إمكان التدقيق في العديد من العمليات، بما في ذلك العمليات السرية.
وساعد في عمليات التدقيق هذه وجود أرشيفات ومكتبات تقدم ثروة حقيقية للباحثين، منها مكتبة جوزيف ريجنشتاين في شيكاغو، دوايت أيزنهاور في إبيلين، الأرشيف الوطني في واشنطن، بتلر في جامعة كولومبيا، مركز جورج ميني في واشنطن، مكتبة جون كـنيدي في بوسطن، فضلاً عن مكتب السجلات العامة في لندن. ولكن ما هو جوهر ما تقدمه المؤلفة ؟
الجبهة الثقافية
في الـمقدمة تلقي المؤلفة الضوء على الأطروحة الرئيسية للكتاب ، وخاتمة تؤكد فيها على الخلاصات الأساسية التي توصلت إليها من عملية جمع المعلومات. وبين المقدمة والخاتمة يمتد ستة وعشرون فصلاً يلقي كل منها الضوء على جانب محدد من جوانب الحملة المكثفة والمتصاعدة التي شنتها وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة على الجبهة الثقافية في إطار الحرب الباردة.
تـقـول الـمـؤلفـة إنه خلال الحرب الباردة وجد العـديد من الكتّاب والأدباء والفنانين والمبدعين أنفسهم في مواجهة تحد هائل، فـفي الاتحاد السوفـيـيـتي والدول الدائرة في فـلكه كان من المتوقع منهم أن يـقـدموا أعمالاً "تمجد النزعة الكفاحية والنضال والتفاؤل المطلق" ، وفي الغرب جرى التباهي بحرية التعبير باعتبارها "الجوهرة الأثيرة في تاج الديموقراطية الليبرالية"، ولكن مثل هذه الحرية يمكن أن تكبّد من يحظون بها ثمناً باهظاً.
يقدم الكتاب، بالوثائق والمقابلات والتدقيق في المصادر، بانوراما هائلة للحملة السرية التي شنتها وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة ، والتي لم تتردد في إطارها في تحويل عـدد من أبرز أنصار حرية الثقافة والفكر إلى أدوات يجري التلاعـب بها من جانب جهاز المخابرات الأمريكي العـتيد، سواء بعـلمهم أو من وراء ظهورهم، وسواء أحبوا ذلك أم كرهوه.
وتوضح فرانسيس ستونور سوندرز كيف تسللت وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة إلى كل ركن في المعمار الثقافي العالمي، وكيف قامت المنظمات والمؤسسات "الخيرية" التي تتخذها واجهة لنشاطها في هذا المجال ـ والتي تحولت إلى قـنوات تـتـدفـق أموالها عبرها ـ قامت بعـقـد المؤتمرات، وتنظيم المعارض ، والإشراف على الحفلات الفـنية ، ونقـل فـرق الأوركسترا في مختلف أرجاء العالم، وتصدت لرعاية الـفـن التجريدي كرد على الواقعـية الاشتراكية، ودعـمت مشروعات باهظة التكلفة للنشر والترجمة، ودفعـت بعناصر تابعة لها إلى دعم صحف ومجلات في أوروبا وغيرها من أرجاء العالم وإلى تغطية خسائرها.
وبوضوح، وبلا مواربة، وبالدليل المقنع ، تقدم المؤلفة: آرثر كوستلر، ملفين لاسكي، توم برادن، نيكولاس نابوكوف ومايكل جوسيلسون باعتبارهم في مقـدمة حشد هائل من نظرائهم الذين أداروا هذه الحملة، وقاموا بإغـواء المساهمين فيها من فنانين وكتّاب ومحررين وأدباء.
ويـقـدم الكتاب سيرة حياة جماعية ونقـدية لهذه المجموعة التي انغمست في هذه الحملة. وكان بعضهم ممن يكنون حباً حقيقياً للقيم الغربية، بينما كان هناك آخرون تدفعهم حماسة منبعثة من أهواء أخرى.
في عام 1947، بدأت وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة في بناء ما يمكن وصفه بأنه "كونسرتيوم" هائل له مهمة مزدوجة تتفـرع إلى عشرات المهام، حيث يتعـين عـليه تطعيم العالم ضد عـدوى الشيوعـية ، وتسهيل تمرير مصالح السياسة الخارجية الأمريكية في الخارج... وحشدت لهذا الغرض موارد مالية وبشرية كبيرة، وكانت النتيجة شبكة محكمة من الناس تعمل جنباً إلى جنب مع ذراع الجاسوسية الأمريكية على الترويج لفكرة محددة، وهي أن العالم بحاجة إلى "سلام أمريكي"، وإلى "عصر تنوير جديد".
ونفذت الحكومة الأمريكية برنامجاً سرياً قوامه الدعاية الثقافية ، الذي أداره العميل مايكل جوسيلسون في الفترة من 1950 إلى 1967،... وفي أوج نشاطه قام بتشغيل العشرات من الكوادر، وأصدر ما يزيد على عشرين مجلة بارزة ، وأقام العديد من المعارض والحفلات الفـنـية، ونظّم مؤتمرات دولية بارزة، وقـدَّم المنح، والجوائز للموسيقيين والفنانين، بالإضافة إلى فرص العرض والأداء. وشكل هذا كله السلاح السري لأمريكا في الحرب الباردة، وكانت له آثار بالغة الخطورة ربما لا تزال تمتد حتى اليوم، فـقـلـة محدودة من الكتّاب والشعراء والفنانين والمؤرخين والعلماء والنقاد في أوروبا ما بعد الحرب العالمية هي التي لم ترتبط أسماؤها بشكل أو بآخر ـ وسواء علمت أو لم تعلم وأرادت أو لم ترد ـ بهذه الحملة السرية المكثفة والممتدة.
الفكر المقيد
يظل المدى الذي ذهبت إليه وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة في التغلغل في الشئون الثقافية لحلفائها الغربيين، بما في ذلك تحريك المثقفين والأدباء والفنانين كقطع الشطرنج والتلاعـب بمقومات نطاق عريض من الأنشطة الإبداعـية، يظل واحداً من أكثر جوانب الحرب الباردة إثارة للخلاف والجدل. والدفاع التقـليدي الذي يطرحه بعض المنتمين إلى هذه المرحلة عـند وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة قوامه الزعم بأن الاستثمار المالي الهائل الذي حشدته ذراع التجسس الأمريكية لم يرتبط بخيوط محددة للتحرك في اتجاهات بعـينها من جانب من صبت هذه الاستثمارات في جيوبهم، وإن وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة كانت مهتمة بمد نطاق إمكانات التعبير الثقافي والديموقراطي الحر.
ويقول بعضهم : "إنما أردنا مساعدة الناس على أن يقولوا ما كانوا سيقولونه على أي حال". ويمضي هؤلاء إلى القول إنه إذا كان المستـفـيدون من أموال وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة يجهلون حقيقة مصدرها، وبالتالي فإن سلوكهم لم يتغير، فإنه يترتب على هذا أن استقلالهم كمفكرين نقـديين وكمبدعـين مستقـلين لا يمكن أن يكون قد تأثر.
غير أن الوثائق الرسمية المتعلقة بالحرب الباردة الثقافية تضع بصورة مؤكدة حداً لأسطورة الإيثار هـذه، ذلك أنه وفقاً لما توضحه هذ الوثائق فإن هؤلاء الأشخاص كان يتوقع منهم أن يشكل أداؤهم جـزءاً من حملة إقـناع واسعة النطاق، من حرب دعائية تعرف الدعاية في إطارها بأنها "أي جهد منظم أو حركة منظمة لنشر معلومات أو مذهـب معيّن عن طريق الأخبار أو الحجج الخاصة أو النداءات المعدة للتأثير على أفكار أي مجموعة معينة أو تصرفاتها".
ومن هـذه المكونات الحرب النفسية باعتبارها "الاستخدام المخطط من قبل أمة ما للدعاية والأنشطة الأخرى التي توصل الأفكار والمعلومات المقصود بها التأثير في الآراء والمواقف والمشاعر والسلوك الخاص بالجماعات الأجنبية بطرق تؤيد تحقيق الأهداف القومية".
أي نوع من الحرية؟
يثير ما تكشف عـنه الوثائق مجموعة بالغة الخطورة من الأسئلة وعلامات الاستفهام المتعلقة بأنشطة وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة على الجبهة الثقافية في مرحلة الحرب الباردة. فمن الواضح أن ذراع التجسس الأمريكية قد تحركت، في غمار قيامها بتمويه استثماراتها في القطاع الثقافي، على أساس افـتراض أن ما تـقدمه سيتم رفـضه إذا عـرض صراحة وبلا تمويه، والسؤال المطروح هـنا هو: أي نوع من الحرية هذا الذي يجري ترسيخه وتكريسه بمثل هذا الخداع؟ هل كان هناك أي تبرير حقيقي لافتراض أن مبادئ الديموقراطية الغربية لا يمكن إحياؤها في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية وفقاً لآلية داخلية من نوع ما؟ إلى أي حد كان ما يمكن السماح به أن تقوم الولايات المتحدة بالتدخل سراً في العمليات الأساسية المتعلقة بالنمو الثقافي العضوي أو النقاش الحر والتدفق الذي لا تلاعب فيه للأفكار في أوروبا؟
والأسئلة حول خوض وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة لغمار الحرب الثقافية لا تـقـتـصر على ذلك، وإنما تمتد إلى المزيد والمزيد من علامات الاستفهام. فهل أدى الدعم المالي الأمريكي إلى تشويه العملية التي بمقـتضاها يتطور المثـقـفـون والأفكار التي يعملون على تطويرها؟ هل كان الناس يختارون لمواقفهم وليس على أساس ما يتمتعون به من مزايا فكرية؟ كم من الكتّاب والمفكرين والفنانين الذين حققوا شهرة عالمية في تلك المرحلة هم في حقيقة الأمر رجال ونساء متواضعو المواهب؟
ما كان يمكن لحملة وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة على الجبهة الثقافية أن تستمر إلى الأبد، ربما لأنها استنـفـذت جانباً ليس بالقليل من أغـراضها، وربما لأن العديد من أساليبها أصبحت تنتمي إلى مرحلة آذنت شمسها بالمغيب، وربما لأن أنشطتها بحكم طبيعتها لا يمكن أن تظل سراً إلى الأبد.
في عام 1966 نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" سلسلة من المقالات كشفـت فيها النقاب عن نطاق عـريض من العمل السري الذي يقوم به مجتمع المخابرات الأمريكي، وهكذا طغـت على السطح وقائع محاولات الانقلابات وعمليات الاغـتـيال السياسي... ووسط هذا كله تسربت تفاصيل عن عمل وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة على الجبهة الثقافية.
أدى الطرح القائل إن العديد من المثقفين والأدباء والفنانين كانوا يتصرفون بتعليمات من صانعي السياسات الأمريكية وليس انطلاقاً من معاييرهم المستقلة إلى إثارة موجات من التقـزز والاستياء على مستوى لا يستهان به، والأمر الأكثر خطورة هو أن السلطة المعـنوية والأخلاقية التي تمتعـت بها النخبة الثقافية خلال مرحلة الذروة من الحرب الباردة تعرضت للاهتزاز بشدة، بل غـدت موضع سخرية واستهزاء من جانب البعض.
لعله من قبيل المفارقة الجديرة بالاهتمام حقاً أن الظروف التي جعـلـت من الممكن الكشف عن الحملة الأمريكية السرية على الجبهة الثقافية هي نفـسها التي أسهـمت في إضفاء الغموض على المغزى الحقيقي لهذه الحملة، فمع انطلاق الحملة الأمريكية الاستحواذية المعادية لـلـشـيوعـية في فـيتنام ، وما تركته على الساحة الداخلية الأمريكية من انقـسامات ونزاعات، ومع ما أعـقـب ذلك من فضائح من مستوى "ووترغـيت" و "أوراق البنتاغـون"، غدا من الصعب أن يتواصل الاهـتمام، دع جانباً الغضب والحنق، حيال الحملة الاستخبارية الأمريكية على الجبهة الثقافية.
وعلى الرغم من الاهتمام الكبير الذي حظي به هذا الكتاب في العديد من مناطق العالم، ، فإن المرء لا يملك إلا التوقف عـنـد عـدد من الملاحظات:
الملاحظة الأولى تدور حول أنه في الكتاب الأول لإعلامية مهنتها التوثيق، وفي كتاب مهمته الأولى التوثيق لوقائع حملة سرية استمرت قـرابة عـقـدين من الزمان، ومع التـقـدير للجهد الذي بذلته المؤلفة في مطاردة المصادر والمراجع، فإن من المـثيـر للدهـشة أن ملاحق الكتاب لا تتضمن وثيقـة واحدة ، ولا شهادة ، ولا بياناً ، ولا جزءاً من تفريغ لمقابلة أجرتها المؤلفة، ولست أشك في أن الكثير من الباحثين المهتمين بموضوع الكتاب والراغبين في المزيد من التعمق في موضوعه سيتوقـفـون بدورهم عـنـد هذه الملاحظة الببلـيـوغـرافـيـة.
يـبـدوأن الكتاب قد تم تأليفه من منظور أوروبي محض، فالمؤلفة تهتم بوقائع الحملة السرية الأمريكية التي شهدتها أوروبا، وهذا أمر طبيعي ومنطقي ومفهوم، ولكن ما ليس مفهوماً أن وقائع هـذه الحملة السرية التي تحدث خارج أوروبا لا تحظى إلا بإشارات عابرة، تصل في حالة الوقائع التي تجري في العالم الثالث إلى حد التهميش. والكتاب لا يمكن إلا أن يكون مخيباً للآمال من منظور القارئ العربي، حيث لم يتطرق إلى وقائع الحملة السرية الأمريكية التي شهـدها الـعالم العربي، وهي عـديدة، وبعضها معروف منذ زمن ليس بالقـصير، وعلى سبيل المثال لا الحـصـر، فإن إصدار "مؤتمر الحرية الثقافية" لمجلة "حوار" باللغـة العربية، وهو الموضوع الذي يرد في صفحة 334 من الكتاب ، لا يستغرق من المؤلفة أكثر من أربعة عشر سطراً.
تـتـحـدث المؤلفـة عن تمويل وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة لأكثر من عشرين مجلة بارزة على امتداد العالم ، إلا أننا لا نحصل على قائمة بهذه المجلات العشرين أبداً، وفي صفحة 245 من الكتاب تـتـحدث عن ضلوع الوكـالـة في تمويل نشر ألف كتاب ، إلا أننا لا نحصل على قائمة بهذه الكتب الألف، ولا نعرف إلا عـناوين عـدد جد محدود منها، مثل كتاب لاسكي "الثورة المجرية"، وترجمات لـ "الأرض اليباب" لإليوت، و"دكتور جيفاغـو" لبوريس باسترناك، و"التاريخ والأمل" لكوت جيلنسكي.
ويمكن للقارئ أن يغــفـر هـذه الملاحـظـات ، غير أن الأمر الذي لا يمكن اغتفاره للمؤلفة هو أنها وضعت صيغة عـنوان كتابها في الماضي فجعـلته "مـن الذي دفـع لـلـزمـَّـار؟" في إشارة للحكاية الشعـبية الأوروبية الشهيرة عن الزمـَّـار الذي خلص البلدة من الجـراد ، والعمدة الشره الذي أراد أن يسلبه أجره. بينما ، في حقيقة الأمر ، كان ينبغي أن تجعـل العـنوان "من الذي يدفع للزمـَّأر؟"
هذا الـتـفـضـيل لصـــيغـة المضارع في العـنوان مرده أن الكثيرين على امتداد العالم تساورهم شكوك عـميقة حول أن العـديد من الزمـَّـارين لا يـزالون يـتـلـقـون مدفـوعاتهم من لانجـــلي في زمن العـــولمة ، للقـــيام بأدوار لا تخـتـــلف كثيراً عن تلك التي قــــام بها نظـــــراؤهم تحـــت ســـقـف الحرب الباردة.
وفي الفصل الأخير من الكتاب تـلخص المؤلفة نقدهـا لوكالة المخابرات المركزيـة، فـتـقـول: "إن الوكالة تتبع سياسة خارجية خاصة بها، وأنها ـ على الرغم من كل توصيات لجان التحقيق التي شكلها الكونغرس ـ تقوم بأعمالها "بعيداً عن رقابة الرئيس والكونغرس"، و أنها تشوه المعلومات الأمنية السرية التي تحصل عليها لتبرير العمليات التي تقوم بها".
وثـمة مشكلات متراكمة تنطوي عليها العلاقات التي تربط وكالة المخابرات المركزية بالرئيس الأمـريكي. فهو "لا يستطيع أن يعالجها بشكل عـلني، ولا يستطيع أن يخضعها للأجهزة السياسة المتاحة له، ولا يمكنه أن يتخطى رؤساء أجهزة المخابرات ليتحدث بشأنها إلى الشعب الأمريكي وهو (الرئيس) يدرك جيداً، في الوقت نفسه، أن بوسع الأعضاء الساخطين في الوكالة أن يضايقوه، وذلك بأن يُطلعوا رجال الكونغرس والصحافة على ما يريدون إفـشاءه من أسرار"!!
وعلى الرغم من أن المؤلفة تـدين وكالة المخابرات المركزية وعملياتها القذرة، إلا أنها تطالب الوكالة بالامتناع عن القيام بمثل هذه العمليات "إلا بعد أن يكون الرئيس قد قام بدراستها في هدوء وروية مستطلعاً رأي الخبراء" (كـــذا....!!).
والمؤلفة، وإن لم تـطالب الوكالة بالكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول العالم الثالث، فإنهـا تـطالبها "باطلاع السفراء الأمريكيين على نشاطها في الدول التي يعملون فيها". وتـخـتم المؤلفة كتابها بدعوة الجامعات الأمريكية لأن "تعيد النظر في علاقاتها بوكالة المخابرات المـركزية، حتى لا تـفـقـد مصداقيتها وما هي جديرة به من حرية لنقد الحكم والمجتمع".
وتـطالب المؤلفة بالمزيد من الإشراف والرقابة من قبل الحكومة الأمريكية والكونغرس والصحافة على وكالة المخابرات، وتـسـتـشـهد بقول الرئيس الأمريكي الأسبق توماس جيفرسون:
"إن وجود أية قوة مستغـلة (بكسر الغـين) في أية حكومة يجعلها قوة مطلقة".
حينما صدر هذا الكتاب عن دار Granta غـرانتا ، تحول الفضول إلى اهتمام حقيقي بالكتاب، على امتداد العالم . لم يأت هذا الفضول والاهتمام من فراغ، ولا نبعاً من المجهول، وإنما كان رد الفعل الطبيعي لحشد من المفاجآت أثارها الكتاب.
المفاجأة الأولى هي أن الكتاب ليست ثمرة جهود حشد من الباحثين، وإنما هو النتيجة المباشرة لدأب مؤلفته، فرانسيس ستونور سوندرز، التي تعد اسماً جديداً في دنيا الكتاب، وعلى الرغم من خبرتها في عالم التوثيق إلا أن هذا الكتاب يعد الإطلالة الأولى من نوعها لها.
فمن هي مؤلفة الكتاب?
وكيف أتيح لها أن تضع يدها على هذا الحشد الرهيب من الأسرار والحقائق والأرقام والوقائع والصفقات والمؤامرات وعمليات التلاعب والخداع? وما هي الوثائق والمقابلات والأصول والأساليب التي أتاحت لها أن تخرج على العالم بكتاب على هذا القدر من الجرأة والجسارة؟
تخرجت فرانسيس ستونور سوندرز من جامعة أكسفورد عام 1987 وعملت منتجة مستقلة للأفلام الوثائقية. ومن أبرز الأعمال التي أنجزتها فيلم وثائقي يعرض في شكل سلسلة تستغرق أربع سنوات بعنوان: "أيد خفية: تاريخ مختلف للحداثة"، وهي تقيم في لندن غير أن نشاطاتها تمتد عبر شاطئ الأطلسي، وتتركز حول التوثيق.
وهي تطلعنا على جانب من الصعوبات التي واجهتها قبل أن يرى كتابها النور، فتوضح أن تأليف الكتاب كان في جوهره رحلة تشرد هائلة، انطلقت فيها ، ومعها ملفاتها وصناديقها الحافلة بالوثائق، من مكان إلى آخر ... وعلى الرغم من القائمة الممتدة لمن ساعـدوها في جهدها ، والذين تدرجهم في صدر الكتاب، فإنها توضح أنها عـندما بدأت في توثيق وقائع الحرب الباردة الثقافية كانت تعلق آمالاً كباراً على الاستفادة من قانون "حرية المعلومات الأمريكي". غير أنها سرعان ما اصطدمت بحائط الواقع الصلد.
وثائق باهظة الثمن
ربما كان مصدر هذه الآمال الكبار أن العديد من الوثائق الحكومية الأمريكية التي كانت محظورة في السابق قد كشف النقاب عنها، إعمالاً لهذا القانون، وتم تسليمها للباحثين، ونتج عن هذا إثراء العديد من الدراسات الحديثة التي تدور حول "مكتب التحقيقات الإتـحـادي" الأمريكي إلى حد كبير.
وتوضح سوندرز أن الحصول على الوثائق من وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة أمر مختلف تمام الاختلاف، حيث تقدمت لهذا الجهاز بطلب رسمي للحصول على وثائق ينطبق عليها قانون"حرية الإعلام الأمريكي" وذلك في عام ... 1992 وحتى صدور الكتاب لم تكن قد حصلت على ما طلبته من وثائق. وأقر مسئولو الجهاز بتلقي طلب رسمي لاحق منها، ولكنهم حذروها من أن تقديم الوثائق المطلوبة سيكلـفها مبلغاً إجمالياً يصل إلى ثلاثين ألف دولار، وأوضح لها منسق المعلومات والخصوصية في الجهاز الأمريكي أن فرص الحصول على الوثائق من وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة مـعـدومة.
وهكذا، لم يكن أمام المؤلفة من بديل إلا اللجوء إلى الوثائق الموجودة في المجموعات الخاصة، حيث إن إدارات أمريكية متتابعة مدَّت تعاونها إلى القطاع الخاص، وفي مرحلة الحرب الباردة بصفة خاصة شاركت مع الخارجية الأمريكية في صنع مقومات السياسة الخارجية الأمريكية مجموعة من المؤسسات والشخصيات شبه الحكومية، وقد أدى هذا إلى توفير إمكان التدقيق في العديد من العمليات، بما في ذلك العمليات السرية.
وساعد في عمليات التدقيق هذه وجود أرشيفات ومكتبات تقدم ثروة حقيقية للباحثين، منها مكتبة جوزيف ريجنشتاين في شيكاغو، دوايت أيزنهاور في إبيلين، الأرشيف الوطني في واشنطن، بتلر في جامعة كولومبيا، مركز جورج ميني في واشنطن، مكتبة جون كـنيدي في بوسطن، فضلاً عن مكتب السجلات العامة في لندن. ولكن ما هو جوهر ما تقدمه المؤلفة ؟
الجبهة الثقافية
في الـمقدمة تلقي المؤلفة الضوء على الأطروحة الرئيسية للكتاب ، وخاتمة تؤكد فيها على الخلاصات الأساسية التي توصلت إليها من عملية جمع المعلومات. وبين المقدمة والخاتمة يمتد ستة وعشرون فصلاً يلقي كل منها الضوء على جانب محدد من جوانب الحملة المكثفة والمتصاعدة التي شنتها وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة على الجبهة الثقافية في إطار الحرب الباردة.
تـقـول الـمـؤلفـة إنه خلال الحرب الباردة وجد العـديد من الكتّاب والأدباء والفنانين والمبدعين أنفسهم في مواجهة تحد هائل، فـفي الاتحاد السوفـيـيـتي والدول الدائرة في فـلكه كان من المتوقع منهم أن يـقـدموا أعمالاً "تمجد النزعة الكفاحية والنضال والتفاؤل المطلق" ، وفي الغرب جرى التباهي بحرية التعبير باعتبارها "الجوهرة الأثيرة في تاج الديموقراطية الليبرالية"، ولكن مثل هذه الحرية يمكن أن تكبّد من يحظون بها ثمناً باهظاً.
يقدم الكتاب، بالوثائق والمقابلات والتدقيق في المصادر، بانوراما هائلة للحملة السرية التي شنتها وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة ، والتي لم تتردد في إطارها في تحويل عـدد من أبرز أنصار حرية الثقافة والفكر إلى أدوات يجري التلاعـب بها من جانب جهاز المخابرات الأمريكي العـتيد، سواء بعـلمهم أو من وراء ظهورهم، وسواء أحبوا ذلك أم كرهوه.
وتوضح فرانسيس ستونور سوندرز كيف تسللت وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة إلى كل ركن في المعمار الثقافي العالمي، وكيف قامت المنظمات والمؤسسات "الخيرية" التي تتخذها واجهة لنشاطها في هذا المجال ـ والتي تحولت إلى قـنوات تـتـدفـق أموالها عبرها ـ قامت بعـقـد المؤتمرات، وتنظيم المعارض ، والإشراف على الحفلات الفـنية ، ونقـل فـرق الأوركسترا في مختلف أرجاء العالم، وتصدت لرعاية الـفـن التجريدي كرد على الواقعـية الاشتراكية، ودعـمت مشروعات باهظة التكلفة للنشر والترجمة، ودفعـت بعناصر تابعة لها إلى دعم صحف ومجلات في أوروبا وغيرها من أرجاء العالم وإلى تغطية خسائرها.
وبوضوح، وبلا مواربة، وبالدليل المقنع ، تقدم المؤلفة: آرثر كوستلر، ملفين لاسكي، توم برادن، نيكولاس نابوكوف ومايكل جوسيلسون باعتبارهم في مقـدمة حشد هائل من نظرائهم الذين أداروا هذه الحملة، وقاموا بإغـواء المساهمين فيها من فنانين وكتّاب ومحررين وأدباء.
ويـقـدم الكتاب سيرة حياة جماعية ونقـدية لهذه المجموعة التي انغمست في هذه الحملة. وكان بعضهم ممن يكنون حباً حقيقياً للقيم الغربية، بينما كان هناك آخرون تدفعهم حماسة منبعثة من أهواء أخرى.
في عام 1947، بدأت وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة في بناء ما يمكن وصفه بأنه "كونسرتيوم" هائل له مهمة مزدوجة تتفـرع إلى عشرات المهام، حيث يتعـين عـليه تطعيم العالم ضد عـدوى الشيوعـية ، وتسهيل تمرير مصالح السياسة الخارجية الأمريكية في الخارج... وحشدت لهذا الغرض موارد مالية وبشرية كبيرة، وكانت النتيجة شبكة محكمة من الناس تعمل جنباً إلى جنب مع ذراع الجاسوسية الأمريكية على الترويج لفكرة محددة، وهي أن العالم بحاجة إلى "سلام أمريكي"، وإلى "عصر تنوير جديد".
ونفذت الحكومة الأمريكية برنامجاً سرياً قوامه الدعاية الثقافية ، الذي أداره العميل مايكل جوسيلسون في الفترة من 1950 إلى 1967،... وفي أوج نشاطه قام بتشغيل العشرات من الكوادر، وأصدر ما يزيد على عشرين مجلة بارزة ، وأقام العديد من المعارض والحفلات الفـنـية، ونظّم مؤتمرات دولية بارزة، وقـدَّم المنح، والجوائز للموسيقيين والفنانين، بالإضافة إلى فرص العرض والأداء. وشكل هذا كله السلاح السري لأمريكا في الحرب الباردة، وكانت له آثار بالغة الخطورة ربما لا تزال تمتد حتى اليوم، فـقـلـة محدودة من الكتّاب والشعراء والفنانين والمؤرخين والعلماء والنقاد في أوروبا ما بعد الحرب العالمية هي التي لم ترتبط أسماؤها بشكل أو بآخر ـ وسواء علمت أو لم تعلم وأرادت أو لم ترد ـ بهذه الحملة السرية المكثفة والممتدة.
الفكر المقيد
يظل المدى الذي ذهبت إليه وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة في التغلغل في الشئون الثقافية لحلفائها الغربيين، بما في ذلك تحريك المثقفين والأدباء والفنانين كقطع الشطرنج والتلاعـب بمقومات نطاق عريض من الأنشطة الإبداعـية، يظل واحداً من أكثر جوانب الحرب الباردة إثارة للخلاف والجدل. والدفاع التقـليدي الذي يطرحه بعض المنتمين إلى هذه المرحلة عـند وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة قوامه الزعم بأن الاستثمار المالي الهائل الذي حشدته ذراع التجسس الأمريكية لم يرتبط بخيوط محددة للتحرك في اتجاهات بعـينها من جانب من صبت هذه الاستثمارات في جيوبهم، وإن وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة كانت مهتمة بمد نطاق إمكانات التعبير الثقافي والديموقراطي الحر.
ويقول بعضهم : "إنما أردنا مساعدة الناس على أن يقولوا ما كانوا سيقولونه على أي حال". ويمضي هؤلاء إلى القول إنه إذا كان المستـفـيدون من أموال وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة يجهلون حقيقة مصدرها، وبالتالي فإن سلوكهم لم يتغير، فإنه يترتب على هذا أن استقلالهم كمفكرين نقـديين وكمبدعـين مستقـلين لا يمكن أن يكون قد تأثر.
غير أن الوثائق الرسمية المتعلقة بالحرب الباردة الثقافية تضع بصورة مؤكدة حداً لأسطورة الإيثار هـذه، ذلك أنه وفقاً لما توضحه هذ الوثائق فإن هؤلاء الأشخاص كان يتوقع منهم أن يشكل أداؤهم جـزءاً من حملة إقـناع واسعة النطاق، من حرب دعائية تعرف الدعاية في إطارها بأنها "أي جهد منظم أو حركة منظمة لنشر معلومات أو مذهـب معيّن عن طريق الأخبار أو الحجج الخاصة أو النداءات المعدة للتأثير على أفكار أي مجموعة معينة أو تصرفاتها".
ومن هـذه المكونات الحرب النفسية باعتبارها "الاستخدام المخطط من قبل أمة ما للدعاية والأنشطة الأخرى التي توصل الأفكار والمعلومات المقصود بها التأثير في الآراء والمواقف والمشاعر والسلوك الخاص بالجماعات الأجنبية بطرق تؤيد تحقيق الأهداف القومية".
أي نوع من الحرية؟
يثير ما تكشف عـنه الوثائق مجموعة بالغة الخطورة من الأسئلة وعلامات الاستفهام المتعلقة بأنشطة وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة على الجبهة الثقافية في مرحلة الحرب الباردة. فمن الواضح أن ذراع التجسس الأمريكية قد تحركت، في غمار قيامها بتمويه استثماراتها في القطاع الثقافي، على أساس افـتراض أن ما تـقدمه سيتم رفـضه إذا عـرض صراحة وبلا تمويه، والسؤال المطروح هـنا هو: أي نوع من الحرية هذا الذي يجري ترسيخه وتكريسه بمثل هذا الخداع؟ هل كان هناك أي تبرير حقيقي لافتراض أن مبادئ الديموقراطية الغربية لا يمكن إحياؤها في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية وفقاً لآلية داخلية من نوع ما؟ إلى أي حد كان ما يمكن السماح به أن تقوم الولايات المتحدة بالتدخل سراً في العمليات الأساسية المتعلقة بالنمو الثقافي العضوي أو النقاش الحر والتدفق الذي لا تلاعب فيه للأفكار في أوروبا؟
والأسئلة حول خوض وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة لغمار الحرب الثقافية لا تـقـتـصر على ذلك، وإنما تمتد إلى المزيد والمزيد من علامات الاستفهام. فهل أدى الدعم المالي الأمريكي إلى تشويه العملية التي بمقـتضاها يتطور المثـقـفـون والأفكار التي يعملون على تطويرها؟ هل كان الناس يختارون لمواقفهم وليس على أساس ما يتمتعون به من مزايا فكرية؟ كم من الكتّاب والمفكرين والفنانين الذين حققوا شهرة عالمية في تلك المرحلة هم في حقيقة الأمر رجال ونساء متواضعو المواهب؟
ما كان يمكن لحملة وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة على الجبهة الثقافية أن تستمر إلى الأبد، ربما لأنها استنـفـذت جانباً ليس بالقليل من أغـراضها، وربما لأن العديد من أساليبها أصبحت تنتمي إلى مرحلة آذنت شمسها بالمغيب، وربما لأن أنشطتها بحكم طبيعتها لا يمكن أن تظل سراً إلى الأبد.
في عام 1966 نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" سلسلة من المقالات كشفـت فيها النقاب عن نطاق عـريض من العمل السري الذي يقوم به مجتمع المخابرات الأمريكي، وهكذا طغـت على السطح وقائع محاولات الانقلابات وعمليات الاغـتـيال السياسي... ووسط هذا كله تسربت تفاصيل عن عمل وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة على الجبهة الثقافية.
أدى الطرح القائل إن العديد من المثقفين والأدباء والفنانين كانوا يتصرفون بتعليمات من صانعي السياسات الأمريكية وليس انطلاقاً من معاييرهم المستقلة إلى إثارة موجات من التقـزز والاستياء على مستوى لا يستهان به، والأمر الأكثر خطورة هو أن السلطة المعـنوية والأخلاقية التي تمتعـت بها النخبة الثقافية خلال مرحلة الذروة من الحرب الباردة تعرضت للاهتزاز بشدة، بل غـدت موضع سخرية واستهزاء من جانب البعض.
لعله من قبيل المفارقة الجديرة بالاهتمام حقاً أن الظروف التي جعـلـت من الممكن الكشف عن الحملة الأمريكية السرية على الجبهة الثقافية هي نفـسها التي أسهـمت في إضفاء الغموض على المغزى الحقيقي لهذه الحملة، فمع انطلاق الحملة الأمريكية الاستحواذية المعادية لـلـشـيوعـية في فـيتنام ، وما تركته على الساحة الداخلية الأمريكية من انقـسامات ونزاعات، ومع ما أعـقـب ذلك من فضائح من مستوى "ووترغـيت" و "أوراق البنتاغـون"، غدا من الصعب أن يتواصل الاهـتمام، دع جانباً الغضب والحنق، حيال الحملة الاستخبارية الأمريكية على الجبهة الثقافية.
وعلى الرغم من الاهتمام الكبير الذي حظي به هذا الكتاب في العديد من مناطق العالم، ، فإن المرء لا يملك إلا التوقف عـنـد عـدد من الملاحظات:
الملاحظة الأولى تدور حول أنه في الكتاب الأول لإعلامية مهنتها التوثيق، وفي كتاب مهمته الأولى التوثيق لوقائع حملة سرية استمرت قـرابة عـقـدين من الزمان، ومع التـقـدير للجهد الذي بذلته المؤلفة في مطاردة المصادر والمراجع، فإن من المـثيـر للدهـشة أن ملاحق الكتاب لا تتضمن وثيقـة واحدة ، ولا شهادة ، ولا بياناً ، ولا جزءاً من تفريغ لمقابلة أجرتها المؤلفة، ولست أشك في أن الكثير من الباحثين المهتمين بموضوع الكتاب والراغبين في المزيد من التعمق في موضوعه سيتوقـفـون بدورهم عـنـد هذه الملاحظة الببلـيـوغـرافـيـة.
يـبـدوأن الكتاب قد تم تأليفه من منظور أوروبي محض، فالمؤلفة تهتم بوقائع الحملة السرية الأمريكية التي شهدتها أوروبا، وهذا أمر طبيعي ومنطقي ومفهوم، ولكن ما ليس مفهوماً أن وقائع هـذه الحملة السرية التي تحدث خارج أوروبا لا تحظى إلا بإشارات عابرة، تصل في حالة الوقائع التي تجري في العالم الثالث إلى حد التهميش. والكتاب لا يمكن إلا أن يكون مخيباً للآمال من منظور القارئ العربي، حيث لم يتطرق إلى وقائع الحملة السرية الأمريكية التي شهـدها الـعالم العربي، وهي عـديدة، وبعضها معروف منذ زمن ليس بالقـصير، وعلى سبيل المثال لا الحـصـر، فإن إصدار "مؤتمر الحرية الثقافية" لمجلة "حوار" باللغـة العربية، وهو الموضوع الذي يرد في صفحة 334 من الكتاب ، لا يستغرق من المؤلفة أكثر من أربعة عشر سطراً.
تـتـحـدث المؤلفـة عن تمويل وكـالـة الـمـخـابـرات الـمـركـزيـة الأمـريـكـيـة لأكثر من عشرين مجلة بارزة على امتداد العالم ، إلا أننا لا نحصل على قائمة بهذه المجلات العشرين أبداً، وفي صفحة 245 من الكتاب تـتـحدث عن ضلوع الوكـالـة في تمويل نشر ألف كتاب ، إلا أننا لا نحصل على قائمة بهذه الكتب الألف، ولا نعرف إلا عـناوين عـدد جد محدود منها، مثل كتاب لاسكي "الثورة المجرية"، وترجمات لـ "الأرض اليباب" لإليوت، و"دكتور جيفاغـو" لبوريس باسترناك، و"التاريخ والأمل" لكوت جيلنسكي.
ويمكن للقارئ أن يغــفـر هـذه الملاحـظـات ، غير أن الأمر الذي لا يمكن اغتفاره للمؤلفة هو أنها وضعت صيغة عـنوان كتابها في الماضي فجعـلته "مـن الذي دفـع لـلـزمـَّـار؟" في إشارة للحكاية الشعـبية الأوروبية الشهيرة عن الزمـَّـار الذي خلص البلدة من الجـراد ، والعمدة الشره الذي أراد أن يسلبه أجره. بينما ، في حقيقة الأمر ، كان ينبغي أن تجعـل العـنوان "من الذي يدفع للزمـَّأر؟"
هذا الـتـفـضـيل لصـــيغـة المضارع في العـنوان مرده أن الكثيرين على امتداد العالم تساورهم شكوك عـميقة حول أن العـديد من الزمـَّـارين لا يـزالون يـتـلـقـون مدفـوعاتهم من لانجـــلي في زمن العـــولمة ، للقـــيام بأدوار لا تخـتـــلف كثيراً عن تلك التي قــــام بها نظـــــراؤهم تحـــت ســـقـف الحرب الباردة.
وفي الفصل الأخير من الكتاب تـلخص المؤلفة نقدهـا لوكالة المخابرات المركزيـة، فـتـقـول: "إن الوكالة تتبع سياسة خارجية خاصة بها، وأنها ـ على الرغم من كل توصيات لجان التحقيق التي شكلها الكونغرس ـ تقوم بأعمالها "بعيداً عن رقابة الرئيس والكونغرس"، و أنها تشوه المعلومات الأمنية السرية التي تحصل عليها لتبرير العمليات التي تقوم بها".
وثـمة مشكلات متراكمة تنطوي عليها العلاقات التي تربط وكالة المخابرات المركزية بالرئيس الأمـريكي. فهو "لا يستطيع أن يعالجها بشكل عـلني، ولا يستطيع أن يخضعها للأجهزة السياسة المتاحة له، ولا يمكنه أن يتخطى رؤساء أجهزة المخابرات ليتحدث بشأنها إلى الشعب الأمريكي وهو (الرئيس) يدرك جيداً، في الوقت نفسه، أن بوسع الأعضاء الساخطين في الوكالة أن يضايقوه، وذلك بأن يُطلعوا رجال الكونغرس والصحافة على ما يريدون إفـشاءه من أسرار"!!
وعلى الرغم من أن المؤلفة تـدين وكالة المخابرات المركزية وعملياتها القذرة، إلا أنها تطالب الوكالة بالامتناع عن القيام بمثل هذه العمليات "إلا بعد أن يكون الرئيس قد قام بدراستها في هدوء وروية مستطلعاً رأي الخبراء" (كـــذا....!!).
والمؤلفة، وإن لم تـطالب الوكالة بالكف عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول العالم الثالث، فإنهـا تـطالبها "باطلاع السفراء الأمريكيين على نشاطها في الدول التي يعملون فيها". وتـخـتم المؤلفة كتابها بدعوة الجامعات الأمريكية لأن "تعيد النظر في علاقاتها بوكالة المخابرات المـركزية، حتى لا تـفـقـد مصداقيتها وما هي جديرة به من حرية لنقد الحكم والمجتمع".
وتـطالب المؤلفة بالمزيد من الإشراف والرقابة من قبل الحكومة الأمريكية والكونغرس والصحافة على وكالة المخابرات، وتـسـتـشـهد بقول الرئيس الأمريكي الأسبق توماس جيفرسون:
"إن وجود أية قوة مستغـلة (بكسر الغـين) في أية حكومة يجعلها قوة مطلقة".
خيمة العودة- عضو متميز
- عدد المساهمات : 485
تاريخ التسجيل : 03/12/2011
مواضيع مماثلة
» الـرَّحـَّـالة الـظـُـرفـاء الـمـَـنـبـوذون الدكـتـور عـبـد القـادر حـسين ياسين
» أزمة الـقـراءة في العـالم العــربي! الدكتور عـبـد القـادر حـسين ياسين
» "ما الجدوى مِن ورقة تـلقى في صناديق الاقـتراع...؟!" الدكتور عـبـد القـادر حـسين ياسين
» غـابرئـيـل غـارسـيـا ماركيز: حـَكـَّـاء مـن الـطـراز الأوَّل..! الدكـتـور عـبـد القـادر حسين ياسين
» أمـَّـة من "المُـحـلليـن السِّـيـاسـيـيـن"..! الدكـتـور عـبـد القـادر حـسـين يـاسـين
» أزمة الـقـراءة في العـالم العــربي! الدكتور عـبـد القـادر حـسين ياسين
» "ما الجدوى مِن ورقة تـلقى في صناديق الاقـتراع...؟!" الدكتور عـبـد القـادر حـسين ياسين
» غـابرئـيـل غـارسـيـا ماركيز: حـَكـَّـاء مـن الـطـراز الأوَّل..! الدكـتـور عـبـد القـادر حسين ياسين
» أمـَّـة من "المُـحـلليـن السِّـيـاسـيـيـن"..! الدكـتـور عـبـد القـادر حـسـين يـاسـين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس 3 أكتوبر 2024 - 12:13 من طرف ميساء البشيتي
» في الذكرى الثانية لرحيل الوالد عام مرَّ .
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 12:15 من طرف ميساء البشيتي
» عيد ميلاد ابنتي دينا
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 11:13 من طرف ميساء البشيتي
» منشورات ميساء البشيتي في جريدة عرب كندا
السبت 28 سبتمبر 2024 - 13:06 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل إلى أمي
السبت 28 سبتمبر 2024 - 13:05 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل في الهواء
السبت 7 سبتمبر 2024 - 12:30 من طرف ميساء البشيتي
» أن تملك مكتبة - أن تخسر مكتبة ..شجاع الصفدي
الخميس 5 سبتمبر 2024 - 11:27 من طرف خيمة العودة
» طباق إلى إدوارد سعيد ..محمود درويش
السبت 31 أغسطس 2024 - 12:05 من طرف حاتم أبو زيد
» سلسلة حلقات جاهلية .
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 12:10 من طرف ميساء البشيتي
» لمن يهمه الأمر
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 11:52 من طرف هبة الله فرغلي
» عندما تنتهي الحرب بقلم شجاع الصفدي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:17 من طرف خيمة العودة
» شجرة التين بقلم نور دكرلي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:11 من طرف خيمة العودة
» عيد ميلاد سعيد يا فرح
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 12:49 من طرف ميساء البشيتي
» مطر أسود
الإثنين 12 أغسطس 2024 - 10:29 من طرف ميساء البشيتي
» بـــ أحس الآن ــــــــ
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» أنا .. أنت .. نحن كلمة ( مشاركة عامة )
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» فقلْ يا رب للشاعر الفلسطيني صبحي ياسين
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:24 من طرف خيمة العودة
» ثورة صامتة
الإثنين 29 يوليو 2024 - 10:53 من طرف مؤيد السالم
» فضل شهر الله المحرّم وصيام عاشوراء
الثلاثاء 16 يوليو 2024 - 11:14 من طرف فاطمة شكري
» "عيون جاهلية" إصدار ميساء البشيتي الإلكتروني السادس
الإثنين 15 يوليو 2024 - 17:53 من طرف ميساء البشيتي
» سيد الصمت .. إلى أبي في ذكرى رحيله السادسة
الأحد 7 يوليو 2024 - 14:45 من طرف ميساء البشيتي
» ليلاي ومعتصمها
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:24 من طرف مريومة
» غزلك حلو
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:21 من طرف ريما مجد الكيال
» أنت َ عنواني .. أنتِ عنواني
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:18 من طرف لبيبة الدسوقي
» تحركوا أيها الدمى
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:14 من طرف لبيبة الدسوقي