بحـث
من أنا ؟
حقوقية، كاتبة، ناشطة في شؤون بلادي وشؤون المرأة، لي عدة منشورات ورقية وإلكترونية
المواضيع الأخيرة
كتب ميساء البشيتي الإلكترونية
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
غـابرئـيـل غـارسـيـا ماركيز: حـَكـَّـاء مـن الـطـراز الأوَّل..! الدكـتـور عـبـد القـادر حسين ياسين
صفحة 1 من اصل 1
غـابرئـيـل غـارسـيـا ماركيز: حـَكـَّـاء مـن الـطـراز الأوَّل..! الدكـتـور عـبـد القـادر حسين ياسين
غـابرئـيـل غـارسـيـا ماركيز: حـَكـَّـاء مـن الـطـراز الأوَّل..!
الدكـتـور عـبـد القـادر حسين ياسين
سبعة عشر عاماً أمضاها جيرالد مارتن في قراءة أعـمال ماركيز ومنجزاته الإبداعية ،
في القـصة القـصيرة والرواية والمقالات الصحافية والنصوص السينمائية،
والسفر إلى عـدد كبير من دول العالم ، لمقابلة أصدقاء لماركيز ،
من صحافيين وأدباء وروائيين وسياسيين وزعـماء أحزاب ورؤساء دول،
ومن ضمنهم الزعيم الكوبي الراحل فـيدل كاسترو،
والرئيس الفرنسي الراحل فـرانسوا ميتران،
ورئيس وزراء إسبانيا السابق فـيليب غـونزاليس،
وغـيرهم من الشخـصيات التي نهجت نهجاً اشتراكياً في سياستها،
بـهـدف الإطلاع على تفاصيل علاقاتهم مع الروائي الكولومبي ،
رائد الواقعـية السحرية التي يفـضل هو عليها مصطلح “الواقعـية المأساوية”.
بـيـد أن جيرالد مارتن لا يقـدم قـراءة في سيرة غارسيا ماركيز عـبر ما نقـله إليه المقـربون منه ،
على اخـتلاف مواقـفهم السياسية والفكرية والعـقائدية وصلاتهم العائلية به وحسب،
بل يقـدم أيضاً دراسة نقـدية معـمقـة عن رواياته ،
ومعظم قـصصه القـصيرة ومقالاته الأدبية والسياسية، المبكرة والمتأخرة،
مشفـوعة بإضاءات لا غـنى عـنها في أية محاولة لفهم عـوالم غارسيا ماركيز،
فضلاً عن نشاطات ماركيز في كتابة النصوص السينمائية.
سعى ماركيز في مؤلفاته الروائية والقـصصية الى تخليد شخصيات كبرى،
أكـثـرها حـقـيقـية، مـستمدة من قـرى وبلدات كولومبيا، بدءاً بمسقـط رأسه أراكاتاكا،
وحكى عن فـقـرها وعـزلتها، وعن وجودها خارج التاريخ، عـن اضمحلالها،
وعن عـلاقات أبنائها الاجتماعـية، وظروفها السياسية والاقـتصادية،
وما تنطوي عليه تلك العلاقات من حـُب وبغـضاء .
في هذا كله، سعى ماركيز الى توكيد مكانته الإبداعية وخطابه الأدبي الروائي،
سرداً وصنعة، على رغم ظروف الفاقة والحرمان،
التي دفعته يوماً ما إلى أن يفـتـش في كومة نفايات،عن بقايا طعام تسد رمقه،
والى أن يعـتذر لطفله الرضيع ليلاً،
لعـدم امتلاكه المال اللازم لشراء الحليب ليتناوله قبل النوم،
والى أن يرسل نصف مخطوطة “مـئة عام من العـزلة”، بالبريد الى الناشر الأرجنتيني،
لأنه لم يكن يملك ما يكفي من المال لإرسالها كلها.
أما النصف الثاني من المخطوطة فـقـد أرسله بعد أن رهـنـت زوجـته،
المدفأة الكهربائية ومجفـف الشعـر والمفـرمة الكهربائية،
وهي آخر ما تبقى لهما في البيت من حاجات منزلية ،
بعد أن باعا أو رهـنا كل ما يملكان.
حاول غارسيا ماركيز أن يوثق الصلة بين التاريخ الاجتماعي،
تاريخ البلدات والمدن الأمـريكية اللاتينية ، والتاريخ الفردي،
متمثلاً بتاريخ شخصيات عسكرية ، جدّه العـقـيد نيكولاس وبوليفار وغيرهما ،
فجسَّـد بذلك قـدراته في التماهي بالتاريخي وبالجماعة ،
“مئة عام من العـزلة” على وجه الخصوص،
فأسس بذلك عـوالم منـفـصلة خارج الزمان وخارج المكان،
تشابكت فيها وقائع الصدام التاريخي بمجريات الواقع الاجتماعي/ الفردي.
وهكذا كان بوليفار وآليندي ونيرودا وفـويـنـتـس ،
وعمر توريخوس وكورتاثار وفـيـدل كاسترو من الذين احتفى بهم ،
وعـزَّز بهم مواقفه السياسية التقـدمية ومقارعة الاستعـمار والإمبريالية ،
ونادى بالاشتراكية الديموقراطية، وإن راوده قـلق شديد،
وهو يرى أثناء زيارته الاتحاد السوفـيـيـتي الاشتراكية وقد أُسيء تطبيقها،
فابتعـدت عن أفكار مؤسسيها الأوائل ، وفـلسفة منظريها ،
الذين جاؤوا بها لإنقاذ الـفـقـراء من براثن الاستغلال الرأسمالي.
لعـلَّ ماركيز توجب عليه أن يؤمن، وهو ما توضحه كتاباته،
بأن التاريخ العلمي “أسطورة”، وأن التفسيرات أحادية الجانب غير مجدية،
فلجأ إلى نماذج بشرية جماعية لدراسة السببية التاريخية المكونة لهذه الجماعات،
مجتمع ماكوندو في “مئة عام من العـزلة” ومجتمع الأم الكبيرة في “جنازة الأم الكبيرة”،
ومجتمع المتوازيات الأفـقـية في “الجنرال في متاهـته”،
ليحلل بدقة دلالاتها الثقافية في نظام سوسيولوجي عام،
يستند إلى تجربة تاريخية ومنظومات ذات معان متعـددة.
من هنا جاءت شعـبوية غارسيا ماركيز وهو يكشف عن سير أبطاله،
الحقـيقـيين والمتخـيلين، من التاريخ البعيد والتاريخ القريب،
حتى إن بعض النقاد قارنوه، على رغم التباين الواضح، بالروائي هـمـنغواي،
وهو الروائي الذي أُعجب به غارسيا ماركيز ،
قدر إعجابه بروائي آخر هو وليم فوكنر،
الذي خلَّدت رواياته الجنوب الأمـريكي في حقبة عـصيبة من تاريخ الولايات المتحدة.
وانسجاماً مع تماهي غارسيا ماركيز بالتاريخ والشخصيات،
نجده يكتب أيضاً موضوعات أخرى ذات صلة مباشرة بها،
ألا وهي الحب والسلطة والانتظار والأمل،
انطلاقاً من قناعـته أن الناس في بلده، كولومبيا، كما في بلاد العالم الثالث،
تهوى السلطة وأصحاب السلطة، وتحيا منتظرة،
والأمل يحـدوها في حـدوث تغيير قـلما يأتي،
وإن أتى فإنه في معظم الأحيان قد لا يكون تغييراً إيجابياً مناسباً.
وقد أشار في مقابلة صحافية إلى أنه لو لم يكن كاتباً ،
لرغـب في أن يكون عازفاً على البيانو لأنه يريد العـزف في الحانات ،
فيسهم بدوره في جعل العشاق يشعرون بحب أكبر تجاه أحبائهم.
ويؤكد أنه لو أمكنه أن يجعل الآخرين يحب أحدهم الآخر من خلال كتبه،
فذلك هو المعـنى الذي أراده لحياته.
من هنا كانت الكتابة عنده شعوراً باطنياً، ودافعاً لا يقاوم، وطموحاً،
بل كانت في أحيان كثيرة عـذاباً لذيذاً وسعادة لا توازيها سعـادة.
إصراره على الكتابة لا يضاهـيه إصرار آخر.
فمن جهة أولى، قال له والده يوماً ما:
“إن المطاف سينتهي بك الى أن تأكل الورق”،
وذلك عندما قـرر في عام 1949 أن يتخلى عن دراسة الحقوق،
بسبب إخفاقه في النجاح في السنة الثالثة من دراسته.
وعندما حاول أحد أصدقائه أن يدافع عنه أمام أبيه،
موضحاً له أن غارسيا ماركيز بات اليوم ،
واحداً من أفضل كتّاب القصة القصيرة في كولومبيا،
انفجر الأب صائحاً:
“إنه قـصّاص، حسناً، طالما كان كـذّاباً منذ طفـولته!”
من جهة أخرى، نجده يتلقى في عام 1952 ،
رسالة مدمرة من دار نشر لوسادا،
في بوينس آيرس، التي أرسل إليها مخطوطة روايته الأولى “عاصفة الأوراق” بغية نشرها،
يخبره فيها مدير الدار غييرمو دي توري،
وهو أحد أبرز نقاد الأدب الإسبان في المنفى ،
وأحد أقرباء الأديب الأرجنتيني المعروف خورخه لويس بورخس،
انه ليس لديه أي مستقـبل في كتابة الرواية، واقترح عليه أن يبحث عن مهنة أخرى.
لكن أصدقاء غارسيا ماركيز تجمهروا حوله،
وقال له أحدهم: “يعلم الجميع أن الإسبان أغـبياء”!
روايات غارسيا ماركيز وقـصصه ليست سوى صور من حياته الصاخـبة،
العاصفة، المدوية، أوهي انعكاسات لحياة من عـرفـهم وعاش معهم،
هي مزيج من السيرة الذاتية والخيال الجامح، يتداخلان ويتشابكان في أبعاد مختلفة.
وبهذا تكون السيرة قـد شكلت أفـق الرواية الماركيزية ،
في تمثيل شكل ارتباطها بالواقع والتاريخ،
وهما الأمران اللذان سبق للوكاش أن أوضح بأنهما “يختزلان أبعاد الواقع والتجربة الحياتية “،
وذلك لكون “الكلية المنفـصلة للواقع تلتحم وتتماسك في الرواية،
عبر السيرورة، ومن خلال ارتباطها بالشخصية الأساسية”.
وبـعــد؛
إن هذه السيرة المـتـقـنـة الصنع تكشف للقـرَّاء ،
عن جوانب وتفاصيل دقـيقة من حياة الأديب الكولومبي،
مما قـد يحفـزهم على العـودة من جديد الى قراءة مؤلفاته،
مرات ومرات من دون أن يصيبهم الملل.
حين صدرت الترجمة الانجليزية لمذكرات غـابريئيـل غـارسـيـا ماركيز،
قرأتها في ليلة واحـدة ، فهذا كتاب ممتع يقرأ مثنى وثلاث ورباع،
وتجد فيه جديداً كلما عـدت اليه.
ببساطة تليق بالكبار يعترف ماركيز بفـقـره وعـوزه ،
وتواضع أصوله الاجتماعية، التي لم تمنعه أن يكون ممتلئا بنفسه واثقا من موهـبته،
فـقـد وُلـِدَ وفي فمه ملعـقة من تراب،
وظل حتى خمسينياته بالكاد يتدبر مصروف طعامه وإيجار شقـته.
عـنـدمـا صدرت قـصته الأولى، لم يكن معه ثمن الصـحـيـفـة التي نشرتها،
فاستعار الصـحـيـفـة من عابر سبيل،
ومن شدة فـقـره وهو يناضل ليصبح كاتبا،
ما كان يجد غـضاضة من النوم في الحدائق،
حين لا يجد في جيبه بيزو واحداً (أقـل من دولار)،
لينام ليلة في فندق من الدرجة العاشرة من تلك التي تشغلها بائعات الهوى الحزينات،
اللواتي ألهمنه روايته الأخيرة.
ماركيز حكاء من الطراز الأول، يعرف متى يسترسل ومتى يغوي ،ومتى يقـف.
ليس هذا فحسب فهو يريد أن يقـنعـنا منذ صفحة الاهداء ،
ان الحياة “ليست ما يعيشه أحدنا، وانما ما يتذكره” ، وكيف يتذكره ليرويه …
يـبـدو أن مـاركيـز كان يحضر قصاصاته منذ زمن طويل،
ليروي لنا سيرته بهذا الأسلوب الراقي الممتع البسيط،
الذي ترتشفه ارتشافا وأنت تنتقل من غرامياته الى أدبياته الى نضاله السياسي،
الذي يذيبه بين السطور تواضعا كي لا يأخذ الأضواء ،
ممن يظنهم أكثر جدارة منه في معترك السياسة.
أدبيا لا يخجل من القول إنه بدأ بمحاكاة قصة المسخ لكافكا ،
وفي أول رواياته وقع في فخ حبكة انتيغون لسوفوكليس،
ثم عرف طريقه حين اكتشف ان الريبورتاج الصحفي والرواية ينحدران من أم واحدة،
فالتحقيقات الصحفية هي التي علمت ماركيز، كيف يطور تقنياته في الرواية والقـصة.
وبـعــد ؛
إن جرأة ماركيز في الاعـتراف هي التي تجعل مذكراته،
غنية وممتعة وجذابة الى أقصى الحدود.
#غابرئيل_ماركيز_عبد_القادر_حسين_عصفورة_الشجن_غارسيا
الدكـتـور عـبـد القـادر حسين ياسين
سبعة عشر عاماً أمضاها جيرالد مارتن في قراءة أعـمال ماركيز ومنجزاته الإبداعية ،
في القـصة القـصيرة والرواية والمقالات الصحافية والنصوص السينمائية،
والسفر إلى عـدد كبير من دول العالم ، لمقابلة أصدقاء لماركيز ،
من صحافيين وأدباء وروائيين وسياسيين وزعـماء أحزاب ورؤساء دول،
ومن ضمنهم الزعيم الكوبي الراحل فـيدل كاسترو،
والرئيس الفرنسي الراحل فـرانسوا ميتران،
ورئيس وزراء إسبانيا السابق فـيليب غـونزاليس،
وغـيرهم من الشخـصيات التي نهجت نهجاً اشتراكياً في سياستها،
بـهـدف الإطلاع على تفاصيل علاقاتهم مع الروائي الكولومبي ،
رائد الواقعـية السحرية التي يفـضل هو عليها مصطلح “الواقعـية المأساوية”.
بـيـد أن جيرالد مارتن لا يقـدم قـراءة في سيرة غارسيا ماركيز عـبر ما نقـله إليه المقـربون منه ،
على اخـتلاف مواقـفهم السياسية والفكرية والعـقائدية وصلاتهم العائلية به وحسب،
بل يقـدم أيضاً دراسة نقـدية معـمقـة عن رواياته ،
ومعظم قـصصه القـصيرة ومقالاته الأدبية والسياسية، المبكرة والمتأخرة،
مشفـوعة بإضاءات لا غـنى عـنها في أية محاولة لفهم عـوالم غارسيا ماركيز،
فضلاً عن نشاطات ماركيز في كتابة النصوص السينمائية.
سعى ماركيز في مؤلفاته الروائية والقـصصية الى تخليد شخصيات كبرى،
أكـثـرها حـقـيقـية، مـستمدة من قـرى وبلدات كولومبيا، بدءاً بمسقـط رأسه أراكاتاكا،
وحكى عن فـقـرها وعـزلتها، وعن وجودها خارج التاريخ، عـن اضمحلالها،
وعن عـلاقات أبنائها الاجتماعـية، وظروفها السياسية والاقـتصادية،
وما تنطوي عليه تلك العلاقات من حـُب وبغـضاء .
في هذا كله، سعى ماركيز الى توكيد مكانته الإبداعية وخطابه الأدبي الروائي،
سرداً وصنعة، على رغم ظروف الفاقة والحرمان،
التي دفعته يوماً ما إلى أن يفـتـش في كومة نفايات،عن بقايا طعام تسد رمقه،
والى أن يعـتذر لطفله الرضيع ليلاً،
لعـدم امتلاكه المال اللازم لشراء الحليب ليتناوله قبل النوم،
والى أن يرسل نصف مخطوطة “مـئة عام من العـزلة”، بالبريد الى الناشر الأرجنتيني،
لأنه لم يكن يملك ما يكفي من المال لإرسالها كلها.
أما النصف الثاني من المخطوطة فـقـد أرسله بعد أن رهـنـت زوجـته،
المدفأة الكهربائية ومجفـف الشعـر والمفـرمة الكهربائية،
وهي آخر ما تبقى لهما في البيت من حاجات منزلية ،
بعد أن باعا أو رهـنا كل ما يملكان.
حاول غارسيا ماركيز أن يوثق الصلة بين التاريخ الاجتماعي،
تاريخ البلدات والمدن الأمـريكية اللاتينية ، والتاريخ الفردي،
متمثلاً بتاريخ شخصيات عسكرية ، جدّه العـقـيد نيكولاس وبوليفار وغيرهما ،
فجسَّـد بذلك قـدراته في التماهي بالتاريخي وبالجماعة ،
“مئة عام من العـزلة” على وجه الخصوص،
فأسس بذلك عـوالم منـفـصلة خارج الزمان وخارج المكان،
تشابكت فيها وقائع الصدام التاريخي بمجريات الواقع الاجتماعي/ الفردي.
وهكذا كان بوليفار وآليندي ونيرودا وفـويـنـتـس ،
وعمر توريخوس وكورتاثار وفـيـدل كاسترو من الذين احتفى بهم ،
وعـزَّز بهم مواقفه السياسية التقـدمية ومقارعة الاستعـمار والإمبريالية ،
ونادى بالاشتراكية الديموقراطية، وإن راوده قـلق شديد،
وهو يرى أثناء زيارته الاتحاد السوفـيـيـتي الاشتراكية وقد أُسيء تطبيقها،
فابتعـدت عن أفكار مؤسسيها الأوائل ، وفـلسفة منظريها ،
الذين جاؤوا بها لإنقاذ الـفـقـراء من براثن الاستغلال الرأسمالي.
لعـلَّ ماركيز توجب عليه أن يؤمن، وهو ما توضحه كتاباته،
بأن التاريخ العلمي “أسطورة”، وأن التفسيرات أحادية الجانب غير مجدية،
فلجأ إلى نماذج بشرية جماعية لدراسة السببية التاريخية المكونة لهذه الجماعات،
مجتمع ماكوندو في “مئة عام من العـزلة” ومجتمع الأم الكبيرة في “جنازة الأم الكبيرة”،
ومجتمع المتوازيات الأفـقـية في “الجنرال في متاهـته”،
ليحلل بدقة دلالاتها الثقافية في نظام سوسيولوجي عام،
يستند إلى تجربة تاريخية ومنظومات ذات معان متعـددة.
من هنا جاءت شعـبوية غارسيا ماركيز وهو يكشف عن سير أبطاله،
الحقـيقـيين والمتخـيلين، من التاريخ البعيد والتاريخ القريب،
حتى إن بعض النقاد قارنوه، على رغم التباين الواضح، بالروائي هـمـنغواي،
وهو الروائي الذي أُعجب به غارسيا ماركيز ،
قدر إعجابه بروائي آخر هو وليم فوكنر،
الذي خلَّدت رواياته الجنوب الأمـريكي في حقبة عـصيبة من تاريخ الولايات المتحدة.
وانسجاماً مع تماهي غارسيا ماركيز بالتاريخ والشخصيات،
نجده يكتب أيضاً موضوعات أخرى ذات صلة مباشرة بها،
ألا وهي الحب والسلطة والانتظار والأمل،
انطلاقاً من قناعـته أن الناس في بلده، كولومبيا، كما في بلاد العالم الثالث،
تهوى السلطة وأصحاب السلطة، وتحيا منتظرة،
والأمل يحـدوها في حـدوث تغيير قـلما يأتي،
وإن أتى فإنه في معظم الأحيان قد لا يكون تغييراً إيجابياً مناسباً.
وقد أشار في مقابلة صحافية إلى أنه لو لم يكن كاتباً ،
لرغـب في أن يكون عازفاً على البيانو لأنه يريد العـزف في الحانات ،
فيسهم بدوره في جعل العشاق يشعرون بحب أكبر تجاه أحبائهم.
ويؤكد أنه لو أمكنه أن يجعل الآخرين يحب أحدهم الآخر من خلال كتبه،
فذلك هو المعـنى الذي أراده لحياته.
من هنا كانت الكتابة عنده شعوراً باطنياً، ودافعاً لا يقاوم، وطموحاً،
بل كانت في أحيان كثيرة عـذاباً لذيذاً وسعادة لا توازيها سعـادة.
إصراره على الكتابة لا يضاهـيه إصرار آخر.
فمن جهة أولى، قال له والده يوماً ما:
“إن المطاف سينتهي بك الى أن تأكل الورق”،
وذلك عندما قـرر في عام 1949 أن يتخلى عن دراسة الحقوق،
بسبب إخفاقه في النجاح في السنة الثالثة من دراسته.
وعندما حاول أحد أصدقائه أن يدافع عنه أمام أبيه،
موضحاً له أن غارسيا ماركيز بات اليوم ،
واحداً من أفضل كتّاب القصة القصيرة في كولومبيا،
انفجر الأب صائحاً:
“إنه قـصّاص، حسناً، طالما كان كـذّاباً منذ طفـولته!”
من جهة أخرى، نجده يتلقى في عام 1952 ،
رسالة مدمرة من دار نشر لوسادا،
في بوينس آيرس، التي أرسل إليها مخطوطة روايته الأولى “عاصفة الأوراق” بغية نشرها،
يخبره فيها مدير الدار غييرمو دي توري،
وهو أحد أبرز نقاد الأدب الإسبان في المنفى ،
وأحد أقرباء الأديب الأرجنتيني المعروف خورخه لويس بورخس،
انه ليس لديه أي مستقـبل في كتابة الرواية، واقترح عليه أن يبحث عن مهنة أخرى.
لكن أصدقاء غارسيا ماركيز تجمهروا حوله،
وقال له أحدهم: “يعلم الجميع أن الإسبان أغـبياء”!
روايات غارسيا ماركيز وقـصصه ليست سوى صور من حياته الصاخـبة،
العاصفة، المدوية، أوهي انعكاسات لحياة من عـرفـهم وعاش معهم،
هي مزيج من السيرة الذاتية والخيال الجامح، يتداخلان ويتشابكان في أبعاد مختلفة.
وبهذا تكون السيرة قـد شكلت أفـق الرواية الماركيزية ،
في تمثيل شكل ارتباطها بالواقع والتاريخ،
وهما الأمران اللذان سبق للوكاش أن أوضح بأنهما “يختزلان أبعاد الواقع والتجربة الحياتية “،
وذلك لكون “الكلية المنفـصلة للواقع تلتحم وتتماسك في الرواية،
عبر السيرورة، ومن خلال ارتباطها بالشخصية الأساسية”.
وبـعــد؛
إن هذه السيرة المـتـقـنـة الصنع تكشف للقـرَّاء ،
عن جوانب وتفاصيل دقـيقة من حياة الأديب الكولومبي،
مما قـد يحفـزهم على العـودة من جديد الى قراءة مؤلفاته،
مرات ومرات من دون أن يصيبهم الملل.
حين صدرت الترجمة الانجليزية لمذكرات غـابريئيـل غـارسـيـا ماركيز،
قرأتها في ليلة واحـدة ، فهذا كتاب ممتع يقرأ مثنى وثلاث ورباع،
وتجد فيه جديداً كلما عـدت اليه.
ببساطة تليق بالكبار يعترف ماركيز بفـقـره وعـوزه ،
وتواضع أصوله الاجتماعية، التي لم تمنعه أن يكون ممتلئا بنفسه واثقا من موهـبته،
فـقـد وُلـِدَ وفي فمه ملعـقة من تراب،
وظل حتى خمسينياته بالكاد يتدبر مصروف طعامه وإيجار شقـته.
عـنـدمـا صدرت قـصته الأولى، لم يكن معه ثمن الصـحـيـفـة التي نشرتها،
فاستعار الصـحـيـفـة من عابر سبيل،
ومن شدة فـقـره وهو يناضل ليصبح كاتبا،
ما كان يجد غـضاضة من النوم في الحدائق،
حين لا يجد في جيبه بيزو واحداً (أقـل من دولار)،
لينام ليلة في فندق من الدرجة العاشرة من تلك التي تشغلها بائعات الهوى الحزينات،
اللواتي ألهمنه روايته الأخيرة.
ماركيز حكاء من الطراز الأول، يعرف متى يسترسل ومتى يغوي ،ومتى يقـف.
ليس هذا فحسب فهو يريد أن يقـنعـنا منذ صفحة الاهداء ،
ان الحياة “ليست ما يعيشه أحدنا، وانما ما يتذكره” ، وكيف يتذكره ليرويه …
يـبـدو أن مـاركيـز كان يحضر قصاصاته منذ زمن طويل،
ليروي لنا سيرته بهذا الأسلوب الراقي الممتع البسيط،
الذي ترتشفه ارتشافا وأنت تنتقل من غرامياته الى أدبياته الى نضاله السياسي،
الذي يذيبه بين السطور تواضعا كي لا يأخذ الأضواء ،
ممن يظنهم أكثر جدارة منه في معترك السياسة.
أدبيا لا يخجل من القول إنه بدأ بمحاكاة قصة المسخ لكافكا ،
وفي أول رواياته وقع في فخ حبكة انتيغون لسوفوكليس،
ثم عرف طريقه حين اكتشف ان الريبورتاج الصحفي والرواية ينحدران من أم واحدة،
فالتحقيقات الصحفية هي التي علمت ماركيز، كيف يطور تقنياته في الرواية والقـصة.
وبـعــد ؛
إن جرأة ماركيز في الاعـتراف هي التي تجعل مذكراته،
غنية وممتعة وجذابة الى أقصى الحدود.
#غابرئيل_ماركيز_عبد_القادر_حسين_عصفورة_الشجن_غارسيا
خيمة العودة- عضو متميز
- عدد المساهمات : 485
تاريخ التسجيل : 03/12/2011
مواضيع مماثلة
» الـحـرب الـبـاردة الـثـقـافـيـة الدكـتـور عـبـد القـادر حـسين ياسين
» الـرَّحـَّـالة الـظـُـرفـاء الـمـَـنـبـوذون الدكـتـور عـبـد القـادر حـسين ياسين
» “ما أنا بقارئ…!!”/ الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين
» الـخـَوف مـن الـكـتـابـة الـدكـتـور عـبـد القـادر حسين ياسين
» ذاكـرة تـَحـت الـطـَـلـَب الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين
» الـرَّحـَّـالة الـظـُـرفـاء الـمـَـنـبـوذون الدكـتـور عـبـد القـادر حـسين ياسين
» “ما أنا بقارئ…!!”/ الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين
» الـخـَوف مـن الـكـتـابـة الـدكـتـور عـبـد القـادر حسين ياسين
» ذاكـرة تـَحـت الـطـَـلـَب الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» بعد إذن الغضب في الذكرى الثالثة عشر لوفاة امي
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» من روائع الأدب الروسي أمي لأنطون تشيخوف
الخميس 17 أكتوبر 2024 - 11:18 من طرف هبة الله فرغلي
» مشوار الصمت ... إلى روح أبي الطاهرة في ذكرى رحيله الثالثة عشر
الخميس 3 أكتوبر 2024 - 12:13 من طرف ميساء البشيتي
» في الذكرى الثانية لرحيل الوالد عام مرَّ .
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 12:15 من طرف ميساء البشيتي
» عيد ميلاد ابنتي دينا
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 11:13 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل إلى أمي
السبت 28 سبتمبر 2024 - 13:05 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل في الهواء
السبت 7 سبتمبر 2024 - 12:30 من طرف ميساء البشيتي
» أن تملك مكتبة - أن تخسر مكتبة ..شجاع الصفدي
الخميس 5 سبتمبر 2024 - 11:27 من طرف خيمة العودة
» طباق إلى إدوارد سعيد ..محمود درويش
السبت 31 أغسطس 2024 - 12:05 من طرف حاتم أبو زيد
» سلسلة حلقات جاهلية .
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 12:10 من طرف ميساء البشيتي
» لمن يهمه الأمر
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 11:52 من طرف هبة الله فرغلي
» عندما تنتهي الحرب بقلم شجاع الصفدي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:17 من طرف خيمة العودة
» شجرة التين بقلم نور دكرلي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:11 من طرف خيمة العودة
» عيد ميلاد سعيد يا فرح
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 12:49 من طرف ميساء البشيتي
» مطر أسود
الإثنين 12 أغسطس 2024 - 10:29 من طرف ميساء البشيتي
» بـــ أحس الآن ــــــــ
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» أنا .. أنت .. نحن كلمة ( مشاركة عامة )
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» فقلْ يا رب للشاعر الفلسطيني صبحي ياسين
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:24 من طرف خيمة العودة
» ثورة صامتة
الإثنين 29 يوليو 2024 - 10:53 من طرف مؤيد السالم
» فضل شهر الله المحرّم وصيام عاشوراء
الثلاثاء 16 يوليو 2024 - 11:14 من طرف فاطمة شكري
» "عيون جاهلية" إصدار ميساء البشيتي الإلكتروني السادس
الإثنين 15 يوليو 2024 - 17:53 من طرف ميساء البشيتي
» سيد الصمت .. إلى أبي في ذكرى رحيله السادسة
الأحد 7 يوليو 2024 - 14:45 من طرف ميساء البشيتي
» ليلاي ومعتصمها
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:24 من طرف مريومة
» غزلك حلو
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:21 من طرف ريما مجد الكيال