“ما أنا بقارئ…!!”/ الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين
بدا أرسطو متفائلاً عـنـدمـا قـيـل له :
“كيف تحكم على إنسان؟”
فأجاب : “أسأله كم كتاباً تقرأ؟ وماذا تقرأ؟.
يبدو جلياً أن مسألة “هل تقرأ” كانت محسومة لديه ،
وأمر بديهي غير قابل للجدل،
فعلى الأرجح ان القراءة أمر مُسلّم به لدى الإنسان ،
وبالتالي الحكم يصدر إنطلاقاً من كميّة وماهيّة هذه القراءات….
لكن لو عاش ارسطو في يومنا هذا لربما أعاد النظر في حيثيات القـضية ،
وفي قائمته الاستجوابية، ولاستهل محاكمته بسؤال صعـب:
“هل تقرأ؟ ؛ اذاً ماذا تقرأ؟ ، وكم كتاباً تقرأ؟”
هل حقاً القراءة متعة؟
“أعـزّ مكان في الدنى سرج سابح
وخير جـلـيـس في الزمان كـتاب”
بيتٌ أشهر من أن يُعـرّف ، ولربما هو أشهر من أبي الـطـيـِّب المتنبي ذاته صاحب هذا البيت.
الجميع يردده ومتفق عليه ومؤمن بأحـقـيـته وصوابـيـتـه ،
ولكن ربما بات الأمر ،كما قال المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي ،
في كتابه “النحت في الزمن” أن “أعمال العظمـاء مقـروءة ، كما تقرأ العامة النجوم على نحو تنجيمي في الغالب وليس على نحو فلكي.”
في مقال لها نشرته صحيفة “الـغارديان” البريطانية،
تـقـول الروائية الـبريطانية الراحلة فيرجينيا وولف :
“القراءة فـنّ مـُعـقـّد،  وهي الامتحان الأصعب لحواسنا …”.
وبالتالي يمكن القول انها حرق للطاقة وتستلزم مجهوداً فكرياً وذهـنياً،
أو ربما ورشة كبيرة تتطلب جهوزية ذهـنية تامة ،
ووقتاً طويلا يكرّس لخدمتها كي تؤدي دورها التعليمي والتـثـقيفي ،
وكي تضرب جذورها في حياتنا فتغيّرها،
تأكيداً لمقولة أنطوان كومبانيون ، أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة السوربون، وهي:
“ثـمـَّـة نوعان من الكتب: كتب تخرج منها متغيّراً للأبد،
وكتب أخرى عكس ذلك،
والكتاب الذي يتركك كما أنت ليس في الحقيقة كتاباً جديراً بالقراءة”.
وباعتبار أن القراءة الحقيقية ليست متعة ،
بقدر ما هي رياضة متعـبة في زمن يسير على وتيرة متسارعة،
نجد الإقبال يتكاثر على قراءة الكتب البسيطة ،
كالكتب الاجتماعـية والروايات والقـصص والأساطير والمجلات الفـنـية والجنسية..
وهو أمر يأتي على حساب نوعـيات اخرى من الكتب العلمية ،
والفكرية المتخصصة والمكتوبة بلغة مجرّدة..
فالأولى تحقق المتعة والتسلية بأقل مجهود ممكن،
أما الثانية فتتطلب مخزوناً ثقافياً زاخراً وتراكماً معرفياً للقارئ ،
والإنسان بطبيعته ميّال الى الكسل ويحب أن يحقق اكثر متعة بأقل جهد ممكن.
وإذا كانت القراءة “فـنّاً معـقّـداً” كما وصفـتها فيرجينيا وولف ،
فـإنَّ الشاعـر الألماني يـوهـانس ولـفـغـانـغ غـوتة يرى أن
“مشقة قراءة كتاب جيدّ تعادل مشقّة كتابته.”
في مقابلة أجـرتـهـا مـعـهـا مـجـلـة “در شـبـيـغـل” الألـمـانـيـة  ،
تقول الكاتبة الصينية يونغ شانغ ، مـؤلـفـة كتاب “البجعات البرية” ،
إنّ الزعـيـم الصيني الراحـل ماو تـسـي تونـغ
“كان يقرأ كل شيء، كان سريره يتميّز بكبر حجمه ومليئاً الى نصفه بالكتب….
كان يقرأ كثيراً… وفي نهاية عـهـده كانت كتب كثيرة تطبع له خصيصاً”.
وأضافت “أما الكتاب الاحمر الذي كان يضم اقوال ماو ،
فكان مـقـدساً وعلى الصينيين المحافظة عليه كحدقة عـيـن “.
هولاكو انتقم من بغداد بالقاء مكتبتها في نـهـر دجـلة،
وهو تأكيد على الرعـب الذي يزرعـه الكتاب لدى المتسلطين والمحتلين.
ولا تـنـفـصل مصائر الكتب عن مصائر الكتّاب ؛
فـنـهـردجلة الذي سال حبراً، ذُرّ رماد الحجاج فيه أيضاً ،
لكون الفكر جعله في عـداد الزنادقة والمارقين عن الدين.
ولم يكن السهروردي أوفر حـظـاً منه،
فكل فكر جديد يعتبر منبوذاً وصاحبه،
داخل منظومات كانت سائدة وحاكمة في عصر من العصور.
اما الجاحظ فبقي يغازل الكتب ويمتدحها الى أن اغـتـالته مكتبته،
فمات بعد ان سقطت عليه كتب أمضى حياته مادحاً فوائدها الجليلة والعظيمة.
والحاضر فيه امثلة كثيرة حيث يحشر أهم الكتّاب والمفكرين ،
في المعتقلات السياسية كمصير محتّم لمن يعرف كيف يقـرأ! .
الكتاب موجود في جميع المنازل، فعلى الاقل يوجد في كل بيت كتاب مقدّس ،
وحتى هذا الكتاب بالكاد يُقرأ .
وتزخر اوراق السير الذاتية بالقراءة كهواية ،
الى جانب السباحة والموسيقى وركوب الخيل والسفر..
لكن للأسف خير جليس في هذا الزمان قد أصبح التلفزيون .
ربما يعرف الجميع ذلك حدساً،
لكن لا يملكون التعبير الملائم فيلصقون التهمة بالوقت الضيّق..
واذا كانت اول عبارة في التوراة تقول “في البدء كانت الكلمة” ،
فأول أمر ورد في القرآن “إقـرأ”..
ربما هذا ايضاً دليل على قدسية القراءة وصعوبتها ،
خصوصاً ان أول ردّ على أول أمـر في القرآن كان “ما أنا بقارئ..“!