أول مفـرزة قـتالية يسارية في تاريخ الولايات المتحـدة الدكتور عـبـد القادرحسين ياسين
قادتني المصادفات البحثية، التي تسفر غالباً عن مفاجآت سعـيدة،
إلى الوقوع على نصّ نثري قصير للروائي الأمريكي الشهير ،
إرنست همنغواي (1899 ـ 1961)،
بعنوان "عن الموتى الأمريكيين في إسبانيا"،
يعود إلى سنة 1939.


وهذا النصّ الوجداني الفاتن، الأقرب إلى قصيدة نثر في الواقع،
يرثي 750 من شهداء "لواء لنكولن" Lincoln Brigade The،
كانوا في عـداد 2800 متطوّع أمريكي قدموا من الولايات المتحدة الأمريكيـة،
للقتال إلى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية،
التي بدأت سنة 1936 وانتهـت في تشرين الثاني 1938 ...


وكان أفراد ذلك اللواء يمثـلون تيـاراً عريضاً،
يـضمّ مختلف شرائح المجتمع الأمريكي، من مختلف المناطق والولايات:
بحّارة، طلاب، عاطلون عن العمل، عمّال مناجم، أساتذة، صيادون،
حطـَّابون، باعة متجولون، رياضيون، راقصون، أدباء، فنـانون...


وشكل هؤلاء ،
كما سجلوا سابقة أولى في التاريخ الأمريكي ،
حين عهدوا بقيادة اللواء إلى أمريكي أسود.
وإلى جانب المساعـدة العسكرية المباشرة التي قـدّموها للقوّات الجمهورية الإسبانية،
في جبهة العاصمة مدريد تحديداً، ساهم "لواء لنكولن" ،
في تطوير جبهة عريضة مناهضة للفاشية داخل الولايات المتحدة نفسها.


وخلال الخمسينيات، وضمن سياق المكارثية ،
التي أطلقـت ما سيُعـرف في التاريخ الأمريكي الحديث باسم "هـستيريا العـداء للشيوعية"،
تعرّض أفـراد "لواء لنكولن" إلى حملة تنكيل منظمة،
شنـتـها أجهزة "مكتب التحقيقات الإتـحـادي" FBI،
وشملت سلسلة إجراءات زجرية شديدة ،
بـيـنها المحاكمة والتوقيف والطرد من الوظائف.


وكان هذا جزاء وفاقاً لمجموعة من أنبل النفوس،
ممّن أعطوا بُعداً مختلفاً تماماً للشخصية الأمريكية،
وكانوا بمثابة روّاد في إقـناع البشرية،
بأنّ الأمريكي يمكن أن يكون أفضل بكثير من تمثيلاته المألوفة الراسخة في الوجدان الكوني: "الكاوبوي"، عـضو المنظمات العنصرية من نوع "كو كوكس كلان"،
أو الطيار الذي ألقى أول قنبلة نووية في التاريخ على هيروشيمـا ونـاغـازاكي ....
ونتذكر اليوم أنّ تلك الكتائب الأممية التي قاتلت إلى جانب الجمهوريين الإسبان،
ضمّت أكثر من 40 ألف متطوّع، جاؤوا من 53 بلداً (بينها مصر والمغرب!)،
للمشاركة في حرب لاحَ أنها ، لمرّة واحدة على الأقـلّ ،
ذات معـنى بالنسبة إلى الشعوب التي تدفع عادة أثمان الحروب،
وليس بالنسبة إلى القوى الحاكمة التي اعتادت جني ثمار الحروب.


"كان العالم آنذاك مرسوماً بالأسود والأبيض فقط،
وكانت القضايا واضحة كحدّ الشفرة،
وكان الشعور بالتعاضد الجماعي وافراً،
وكان الناس يهتمون بأنفسهم كما في أيامنا هذه،
ولكنهم كانوا يهتمون بأوجاع الآخرين أيضاً"،
يقول الأمريكي إيب أوشروف (95 سنة) ،
مستعيداً تلك الدوافع الذي ساقته إلى الإنخراط في صفوف "لواء لنكولن".


"إنها حرب الخونة والمائعـين واللواطيين"،
صرخ الشاعر البريطاني اليميني روي كامبل،
غامزاً بصفة خاصة من قـناة الشاعر الإسباني فـدريكو غارسيا لوركا،
الذي كان بين أوائل الأدباء والفنّانين ضحايا الفاشية الإسبانية.


"إنها حرب الشعراء"، قال العشرات من فقهاء الليبرالية الغربية،
الذين لم يجدوا وسيلة ثانية لمداراة ما انتابهم من حرج شديد ،
وهم يتناقلون أسماء المنخرطين في صفّ الجمهورية :
رفائيل ألبيرتي، أنطونيو ماشادو، ميغيل هرنانديز،
غارسيا لوركا، بابلو بيكاسو، خوان ميرو، بابلو نيرودا،
أوكتافيو باث، ألكسي تولستوي، إرنست همنغـواي،
بول روبسون، أندريه مالرو، سانت ـ إكزوبيري، ستيفن سبندر،
لويس ماكنيس، و. هـ. أودن، جورج أورويل، كريستوفر سانت جون سبريغ ، وغيرهـم.


وأكثر من ذلك، أعطتنا هذه التجربة النـضـاليـة الفريدة عـدداً من أروع الأعمال الإبداعية،
حول الحرب والسلام والحرية والتعاضد الأممي،
مثل قصيدة أودن "إسبانيا"، ونصّ جورج أورويل "تحية إلى كاتالونيا"،
ورواية ارنست همنغواي "لمن يُقرع الجرس"،
ورواية أنـدريـه مالرو "أيام الأمل"،
فضلاً عن لوحة بابلو بيكاسو الأشهر "غـيرنيكا".


وأعود إلى مقطع من نصّ همنغـواي، يقول فيه:
"موتانا جزء من تراب إسبانيا اليوم، وتراب إسبانيا لا يموت.
وكما أنّ الأرض لا تموت، فإنّ أولئك الذين استردّوا الحرّية،
لن يعودوا أبداً إلى العبودية (...) ،
أمواتنا يحيون في قلوب الفلاّحين الإسبان، والعمّال الإسبان،
وكلّ الشرفاء البسطاء الذين آمنوا بالجمهورية الإسبانية،
وقاتلوا من أجلها. وما دام أمواتنا أحياء في التراب الإسباني،
وسيحيون ما حييت الأرض، فإنّ أيّ نظام استبدادي لن يسود أبداً في إسبانيا (...)،
والذين طواهم الثرى بشرف، ولا شرف أرفع من ذاك الذي قاد أمواتنا إلى الثرى،
أولئك هم أهل الخلود".
أيمكن لتلك "الـولايات المتـحـدة" أن تشبه هذه "الولايات المتحـدة" المعاصرة،
التي "يــُتـحـفـنـا" رئيسها وهو يتشدّق زوراً وبهتاناً بالديموقـراطية؟