بحـث
من أنا ؟
حقوقية، كاتبة، ناشطة في شؤون بلادي وشؤون المرأة، لي عدة منشورات ورقية وإلكترونية
المواضيع الأخيرة
كتب ميساء البشيتي الإلكترونية
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
رسالة إلى صديق هناك بقلم الدكتور عبد القادر حسين ياسين
صفحة 1 من اصل 1
رسالة إلى صديق هناك بقلم الدكتور عبد القادر حسين ياسين
رســالـة إلـى صـديـق هـنـاك…!!/ الـدكتـور عـبـد القـادر حسـين ياسين
عزيزي مـحـمـود ؛
ما أشد رغبتي في أن أكون إلى جانبك.
فـلـقـد مضى وقت طويل منذ التقينا .
يا صديق العمر،
أنا منذ أشهـر رهين محبسين: المُستشفى وسرير البيت.
إلى المستشفى أذهب خـمـس مرات في الأسبوع بـعـد أن أصـبـت بـنـزيـف حـاد في الـدمـاغ، بعدها أعود إلى سريري في البيت…
استيقظت ذات صباح، فإذا بي أحس بأن بي صداعاً.
أهذا ممكن؟ أن يستيقظ المرء من نومه وبه صداع؟
قلت فلأنتظر…
لعلها سحابة صيف عن قـريب تـنـقـشـع.
لكنهـا لم تـنـقـشـع طوال اليوم.
وفي صباح اليوم التالي استيقظت من نومي وبي صداع أيضاً.
حملت نفسي وذهبت الى الطبيب …
ففحصني ووجه إليّ أسئلة، ثم قال لي:
”سأتركك أسبوعـين، فإن لم يتحسن وضعـك، عد إليّ”.
وإذ لم يتحسن وضعي عـدت الى الطبيب ، فـقال:
”سأرسلك الى المستشفى الجامعي لينظر في حالتك الطبيب المختص بالأمراض العصابية”.
وبعـد موعـدين مع الطبيب المخـتـص، تخـلـلـهـما اجراء تخطيط شعاعي لدماغي، توصل البروفسور الاختصاصي الى أن صداعي المستمر، الذي سـمـَّاه صداعـاً مزمناً ناجم عن مزاجي القـلـق والـمـتـوتر. ووصف لي دواء يُعطى لمن يعانون من الكآبة.
رُحتُ أسائل نفسي : هل أنا أشكو من كآبة من دون علمي؟
قلت ربما، بحكم تقدمي في السن، الذي يجعلني أفكر في أيامي المعـدودات.
لكن أغرب ما في الأمر أن ورقة الدواء الذي وصفه لي لفتت انتباهي الى الحقيقة المرعـبة الآتية: ”إذا كنت تشكو من كآبة ، و/أو تشكو من قـلق، فإنك قد تـفـكر أحياناً في ايذاء نفـسك. هذا الإحساس يزداد في بداية استـعـمـالـك العلاجات المضادة للكآبة. ولأن هذه الأدوية تتطلب وقـتاً لكي تؤدي مفعولها، فأنتَ في أغـلـب الاحتمالات سـتـفـكـر في انهاء حياتك. وهذا يحصل مع الشباب ممن هم دون الخامسة والعشرين بصفة خاصة، من ذوي الهموم الـنـفـسية، ممن عـولجوا بالأدوية المضادة للكآبة”.
تـنـفـستُ الصعـداء لأنني لست ”دون الخامسة والعشرين…”
لكن ماذا يتعـيـن عـليّ أن أفعل؟
هل أتناول هذا الدواء المخيف، أم أهمله؟
قررت أن أتناوله ما دمت لست في وارد الخوف من التفكير في الانتحار. وفي واقع الحال، أنا لم أفكر في انهاء حياتي على مدى سنوات عمري كله، سوى مرة واحـدة ، وكان ذلك عن نزوة فـلـسـفـيـة،عندما تـبـنـيـتُ أنا وزميل لي في أيام الدراسة الجامعية فكرة التشاؤم ولاجدوى الحياة. وقد نفـَّذ زميلي الفكرة وانـتـحـر، أما أنا فـقـد غـيـَّرت رأيي بعـد أن أدركت أن ليس هناك أي مبرر لهذه النزوة…
والآن، مضى شهران وأنا أتناول هذا العـقـار المـُضاد للكآبة، ولم أشعـر بـأي تحسن في رأسي، كما لم تراودني فكرة الانتحار! ودخل في روعي انني سأتعايش مع صداع رأسي. وقد رضيت بذلك إذا لم تترتب على هذا الصداع نتائج خطيرة.
لكنني أشـعر بأن طاقتي على الكتابة ضعـفـت في الوقت الذي بدأت أفكر في انجاز عدد من المشاريع الأكاديمية المؤجلة. لحسن الحظ أنـجـزت الأجزاء الأربـعـة الأولى من ستة أجزاء من The Political Encyclopaedia of the Palestinian-Israeli Conflict ”الموسوعـة السـياسية للصـراع الفلسـطيني ـ الاسـرائيلي” التي أعـمـل عـلى إنـجـازهـا مـنـذ أكثر من عـشـر سـنوات.
أما المواضيع التي بقيت مؤجلة، فمن بينها كتاب عن” تاريخ الأديان” ، و”فلسـطين في عشـرة آلاف عـام” ، و ”تـاريخ مـا أغـفـلـه التـاريخ” ، و ”نـحـن وهـُمّ : تأمـلات في الـعـنـصـرية”…. فهل سيكون في وسعي أن أكتب عن أي من هذه المواضيع، وبأيها أبدأ؟
ليس في طاقتي أن أكتب الآن عن الـعـنصـرية وأنا أعاني من صداع على مدار الساعة. ومع أن التاريخ كان موضوع اختصاصي، ومع أنني درسته على مدى ثلاثين عاماً، إلاّ أن وضعي الصحي الحالي ليس ملائماً للكتابة عن ”تـاريخ مـا أغـفـلـه التـاريخ”. وهذا يحـزّ في نـفـسي، لأن علاقـتي بالتاريخ حميمة جداً… وكنت أفكر دائماً في الـتـفـرغ للإنـتـهـاء من كتاب”تـاريخ الأديان” ، بيد أن ذلك كان سيكون على حساب كتاباتي الأخرى، التي كانت تلح عليّ بلا انقطاع.
كتبت كثيراً في الـفـلسـطينـيـَّـات، ربما أكثر من أي موضوع آخر، لكنني لا أشعر أنني استوفيت الموضوع حقه. كما انني لم أقرأ شيئاً – في حدود اطلاعاتي المـتـواضـعـة ـ أشبع فضولي عن فلسفة الأديـان. لذلك أشعر أن هناك نقصاً أو خللاً في ثقافتي الـدينيـة، وهو أنني لم أقف بما فيه الكفـاية على الأبعاد الفلسفية للـدين. فلا زلت أشعر أنني بحاجة الى فهم أعـمق لـتلـك الخـلجـات التي تـعـصـف بالنفس البشـرية في صـراعـهـا الأزلي لإقـتـحـام الغـيب..
ولا أزال أفكر في تلك المقولة الخالدة للفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844 ـ 1900) في كتـابه القـيـِّم Also sprach Zarathustra ”هـكـذا تـكـلـم زرادشت…”: ”المـؤرخ المفضل لديّ هو من يعرف آلام السعادة الحقة فقط، وليس غيرها من آلام. ولم يوجد مؤرخ كهذا حتى الآن”. هذه المقولة تنطوي على أعمق المعاني – في رأيي المتواضع ـ في شأن التـاريخ. هنا يجمع نيتشه بين الألم والسعادة في تـدوين التاريخ.
ولا أغـالي إذا قـلت ُ بأنني لم أجد تعبيراً في مثل عـُمـق هذه المقـولة (ويبدو أنها لا تصدر إلا عن شاعـر وفـيـلسوف ومجـنون مثل فريدريش نـيـتـشـه!)، وهذا يدعـوني الى الاعتقاد بأن أروع المؤلـفـات هي تلك التي تسـتـنـهـض فـينـا احساساً بالكآبة، كآبة من طراز متعالٍ، إذا جاز القول. وأنا أحـب أن أبحث عن فلسفة التاريخ والأديان من هـذا المنطلق. لكن الصداع الذي يلازمني الآن يُـقـعـدني عن تحـقـيـق هذا المشروع. ولا أدري إذا كانت ستتاح لي الفرصة للكتابة عنه.
بالأمس ذهبت للمرة السابـعـة الى المسـتشـفى الجامعي في غـوثنبيرغ , وتـحـدثتً مطولا مع برفيسور أخصائي في أمراض القـلـب.
”أنت على حافة الهاوية” قال لي طبيب القلب بعدما عاين وفحـص.
نظرت إليه متسائلاً.. فأعاد كلامه بنبرة حازمة خالطها بعض الأسى.
ثم شرح لي بتأنٍ ما يعانيه قلبي من ضعـف، وكتبَ وصفة علاجية قال أنه يأمل فقط أن تساعد على وقف التدهور وسيتم تقييم فعاليتها خلال مدة.
لم يسبق له أن حدثي بهذه الطريقة من قبل.
كان حينما أراجعه يكتفي بأن يطلب إليّ تناول دواء معـين.. أو يقول لي ببساطة:
”ابتعد عمَّا يوتِّر وخذ قسطاً من الراحة…!”
لكن كلامه هذه المرة كان مختلفاً وهو يـُشـدد على ما تستدعيه حالتي من انتباه. وحينما أصر على توصيلي إلى البوابة الخارجية للمستشفى بدا لي وكأنه يـُوَدّعـني…
لم أخف يوماً من الموت.. بل لم أحسب له حساباً حينما كنت قاب قوسين أو أدنى منه.
وأقصى ما فكرت فيه حينها أن يسمح لي بمهلة ريثما أنتهي من إنـجـاز ”الموسوعـة السياسية للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي” ، وريثما تملأ عينيي ممن ومما أحب …. ثم أرحل بهدوء كغيمة عابرة.
عزيزي مـحـمـود ؛
لكم وددت أن أجالسك لأواصل ما انقطع بيننا من أحاديث طويلة،
عن غـرامياتك الجديدة،
ورواياتك الجديدة،
وشخصياتك الجديدة.
فلطالما شعرت أنني، كصديق ، امتداد لك، وأنك امتداد لي. بل لطالما أحسست أن كلَ ما يكتبه الواحد منا في الدفاع عن قيم الثقافة الجادة المكافحة قطرات من شلال هادر يرفد المجتمع العربي بعـناصر العـزة والاستمرار، وسط لُجج اليأس والتراخي والانهزام.
لو كنتُ يا مـحـمـود قادراً على أن أتحدث إليك طويلا، وبتركيز أكبر، لسألتك بشكل خاص عن مشروع راودني قبل أعـوام وبـثـثـتـك إيـَّاه : إنه مشروع تشكيل لجنة للدفاع عن حرية المثقف العربي. أتذكر يا مـحـمـود؟ قبل عشرة أعـوام ،عـنـدما إلـتـقـيـنـا في غـوثـنـبـيـرغ ، اقـتـرحت عـليك أن نعمد إلى تشكيل لجنة للدفاع عن مضطهدي الرأي في هـذا السجن العربي الكبير المـمـتـد من طنـجـة الى أم القـيـوين.
كان قمع الكاتب والكتاب رابضاً على صدورنا آنذاك، مثلما هو رابض اليوم، رغـم تـشـدق الأنظمة العربية بالاصلاح والانـفـتـاح والـتـقـدم. وكان هاجسي، يومذاك، أن أُسهم في أن نكرّس على الساحة العربية مبدأ رفـض عـقـاب أي كان بسبب أفكاره. وإلى اليوم ما زلت أهجس بضرورة إلغاء الرقابة وكل أشكال الكبت على حرية الإبداع ، أياً كانت الذرائع، وعلى رأسها ذريعة ممارسة الرقابة والقمع من أجل ”حماية” المجتمع والوطن والأمة!
أجـل ، أيـهـا الصديق ، لو كنت قادراً على مجالستك اليوم لسألتك عما حل بفكرة اللجنة التي تحدثنا عنها؟ ألـسـت تـعـتـقـد، مثـلما أعـتـقـد، أنها ما زالت ضرورة ملحة اليوم بسبب بقاء كثير من زملائنا المثقفين ومُـفـكـرينا اللامعـين في السجون العـربية، وبسبب استشراء مِـقـص الرقـيـب واجراءات المنع بحق الكتب والمجلات العربية وغير العربية، وبسبب تزايد المهاجرين من المـثـقـفـيـن الى خارج أوطانهم هرباً من قمع الأصوليات والديكتاتوريات معا؟
العزيز مـحـمـود،
مزيداً من الطموح يا صديق العـمـر.
عـزائي في عـدم قدرتي اليوم على العطاء الثقافي هو في قُـدرة متبـدعـيـن فـلـســطـيـنـيـين وعـرب ، أمثالك، عليه.
أعـاـنـقـك.وأشــُدّ علـى يـديـك ،
ودمـتَ ذخـراً للـزطـن والشــًّعـب.
بـكـل مـوَدَّة
عـبـد الـقـادر
عزيزي مـحـمـود ؛
ما أشد رغبتي في أن أكون إلى جانبك.
فـلـقـد مضى وقت طويل منذ التقينا .
يا صديق العمر،
أنا منذ أشهـر رهين محبسين: المُستشفى وسرير البيت.
إلى المستشفى أذهب خـمـس مرات في الأسبوع بـعـد أن أصـبـت بـنـزيـف حـاد في الـدمـاغ، بعدها أعود إلى سريري في البيت…
استيقظت ذات صباح، فإذا بي أحس بأن بي صداعاً.
أهذا ممكن؟ أن يستيقظ المرء من نومه وبه صداع؟
قلت فلأنتظر…
لعلها سحابة صيف عن قـريب تـنـقـشـع.
لكنهـا لم تـنـقـشـع طوال اليوم.
وفي صباح اليوم التالي استيقظت من نومي وبي صداع أيضاً.
حملت نفسي وذهبت الى الطبيب …
ففحصني ووجه إليّ أسئلة، ثم قال لي:
”سأتركك أسبوعـين، فإن لم يتحسن وضعـك، عد إليّ”.
وإذ لم يتحسن وضعي عـدت الى الطبيب ، فـقال:
”سأرسلك الى المستشفى الجامعي لينظر في حالتك الطبيب المختص بالأمراض العصابية”.
وبعـد موعـدين مع الطبيب المخـتـص، تخـلـلـهـما اجراء تخطيط شعاعي لدماغي، توصل البروفسور الاختصاصي الى أن صداعي المستمر، الذي سـمـَّاه صداعـاً مزمناً ناجم عن مزاجي القـلـق والـمـتـوتر. ووصف لي دواء يُعطى لمن يعانون من الكآبة.
رُحتُ أسائل نفسي : هل أنا أشكو من كآبة من دون علمي؟
قلت ربما، بحكم تقدمي في السن، الذي يجعلني أفكر في أيامي المعـدودات.
لكن أغرب ما في الأمر أن ورقة الدواء الذي وصفه لي لفتت انتباهي الى الحقيقة المرعـبة الآتية: ”إذا كنت تشكو من كآبة ، و/أو تشكو من قـلق، فإنك قد تـفـكر أحياناً في ايذاء نفـسك. هذا الإحساس يزداد في بداية استـعـمـالـك العلاجات المضادة للكآبة. ولأن هذه الأدوية تتطلب وقـتاً لكي تؤدي مفعولها، فأنتَ في أغـلـب الاحتمالات سـتـفـكـر في انهاء حياتك. وهذا يحصل مع الشباب ممن هم دون الخامسة والعشرين بصفة خاصة، من ذوي الهموم الـنـفـسية، ممن عـولجوا بالأدوية المضادة للكآبة”.
تـنـفـستُ الصعـداء لأنني لست ”دون الخامسة والعشرين…”
لكن ماذا يتعـيـن عـليّ أن أفعل؟
هل أتناول هذا الدواء المخيف، أم أهمله؟
قررت أن أتناوله ما دمت لست في وارد الخوف من التفكير في الانتحار. وفي واقع الحال، أنا لم أفكر في انهاء حياتي على مدى سنوات عمري كله، سوى مرة واحـدة ، وكان ذلك عن نزوة فـلـسـفـيـة،عندما تـبـنـيـتُ أنا وزميل لي في أيام الدراسة الجامعية فكرة التشاؤم ولاجدوى الحياة. وقد نفـَّذ زميلي الفكرة وانـتـحـر، أما أنا فـقـد غـيـَّرت رأيي بعـد أن أدركت أن ليس هناك أي مبرر لهذه النزوة…
والآن، مضى شهران وأنا أتناول هذا العـقـار المـُضاد للكآبة، ولم أشعـر بـأي تحسن في رأسي، كما لم تراودني فكرة الانتحار! ودخل في روعي انني سأتعايش مع صداع رأسي. وقد رضيت بذلك إذا لم تترتب على هذا الصداع نتائج خطيرة.
لكنني أشـعر بأن طاقتي على الكتابة ضعـفـت في الوقت الذي بدأت أفكر في انجاز عدد من المشاريع الأكاديمية المؤجلة. لحسن الحظ أنـجـزت الأجزاء الأربـعـة الأولى من ستة أجزاء من The Political Encyclopaedia of the Palestinian-Israeli Conflict ”الموسوعـة السـياسية للصـراع الفلسـطيني ـ الاسـرائيلي” التي أعـمـل عـلى إنـجـازهـا مـنـذ أكثر من عـشـر سـنوات.
أما المواضيع التي بقيت مؤجلة، فمن بينها كتاب عن” تاريخ الأديان” ، و”فلسـطين في عشـرة آلاف عـام” ، و ”تـاريخ مـا أغـفـلـه التـاريخ” ، و ”نـحـن وهـُمّ : تأمـلات في الـعـنـصـرية”…. فهل سيكون في وسعي أن أكتب عن أي من هذه المواضيع، وبأيها أبدأ؟
ليس في طاقتي أن أكتب الآن عن الـعـنصـرية وأنا أعاني من صداع على مدار الساعة. ومع أن التاريخ كان موضوع اختصاصي، ومع أنني درسته على مدى ثلاثين عاماً، إلاّ أن وضعي الصحي الحالي ليس ملائماً للكتابة عن ”تـاريخ مـا أغـفـلـه التـاريخ”. وهذا يحـزّ في نـفـسي، لأن علاقـتي بالتاريخ حميمة جداً… وكنت أفكر دائماً في الـتـفـرغ للإنـتـهـاء من كتاب”تـاريخ الأديان” ، بيد أن ذلك كان سيكون على حساب كتاباتي الأخرى، التي كانت تلح عليّ بلا انقطاع.
كتبت كثيراً في الـفـلسـطينـيـَّـات، ربما أكثر من أي موضوع آخر، لكنني لا أشعر أنني استوفيت الموضوع حقه. كما انني لم أقرأ شيئاً – في حدود اطلاعاتي المـتـواضـعـة ـ أشبع فضولي عن فلسفة الأديـان. لذلك أشعر أن هناك نقصاً أو خللاً في ثقافتي الـدينيـة، وهو أنني لم أقف بما فيه الكفـاية على الأبعاد الفلسفية للـدين. فلا زلت أشعر أنني بحاجة الى فهم أعـمق لـتلـك الخـلجـات التي تـعـصـف بالنفس البشـرية في صـراعـهـا الأزلي لإقـتـحـام الغـيب..
ولا أزال أفكر في تلك المقولة الخالدة للفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844 ـ 1900) في كتـابه القـيـِّم Also sprach Zarathustra ”هـكـذا تـكـلـم زرادشت…”: ”المـؤرخ المفضل لديّ هو من يعرف آلام السعادة الحقة فقط، وليس غيرها من آلام. ولم يوجد مؤرخ كهذا حتى الآن”. هذه المقولة تنطوي على أعمق المعاني – في رأيي المتواضع ـ في شأن التـاريخ. هنا يجمع نيتشه بين الألم والسعادة في تـدوين التاريخ.
ولا أغـالي إذا قـلت ُ بأنني لم أجد تعبيراً في مثل عـُمـق هذه المقـولة (ويبدو أنها لا تصدر إلا عن شاعـر وفـيـلسوف ومجـنون مثل فريدريش نـيـتـشـه!)، وهذا يدعـوني الى الاعتقاد بأن أروع المؤلـفـات هي تلك التي تسـتـنـهـض فـينـا احساساً بالكآبة، كآبة من طراز متعالٍ، إذا جاز القول. وأنا أحـب أن أبحث عن فلسفة التاريخ والأديان من هـذا المنطلق. لكن الصداع الذي يلازمني الآن يُـقـعـدني عن تحـقـيـق هذا المشروع. ولا أدري إذا كانت ستتاح لي الفرصة للكتابة عنه.
بالأمس ذهبت للمرة السابـعـة الى المسـتشـفى الجامعي في غـوثنبيرغ , وتـحـدثتً مطولا مع برفيسور أخصائي في أمراض القـلـب.
”أنت على حافة الهاوية” قال لي طبيب القلب بعدما عاين وفحـص.
نظرت إليه متسائلاً.. فأعاد كلامه بنبرة حازمة خالطها بعض الأسى.
ثم شرح لي بتأنٍ ما يعانيه قلبي من ضعـف، وكتبَ وصفة علاجية قال أنه يأمل فقط أن تساعد على وقف التدهور وسيتم تقييم فعاليتها خلال مدة.
لم يسبق له أن حدثي بهذه الطريقة من قبل.
كان حينما أراجعه يكتفي بأن يطلب إليّ تناول دواء معـين.. أو يقول لي ببساطة:
”ابتعد عمَّا يوتِّر وخذ قسطاً من الراحة…!”
لكن كلامه هذه المرة كان مختلفاً وهو يـُشـدد على ما تستدعيه حالتي من انتباه. وحينما أصر على توصيلي إلى البوابة الخارجية للمستشفى بدا لي وكأنه يـُوَدّعـني…
لم أخف يوماً من الموت.. بل لم أحسب له حساباً حينما كنت قاب قوسين أو أدنى منه.
وأقصى ما فكرت فيه حينها أن يسمح لي بمهلة ريثما أنتهي من إنـجـاز ”الموسوعـة السياسية للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي” ، وريثما تملأ عينيي ممن ومما أحب …. ثم أرحل بهدوء كغيمة عابرة.
عزيزي مـحـمـود ؛
لكم وددت أن أجالسك لأواصل ما انقطع بيننا من أحاديث طويلة،
عن غـرامياتك الجديدة،
ورواياتك الجديدة،
وشخصياتك الجديدة.
فلطالما شعرت أنني، كصديق ، امتداد لك، وأنك امتداد لي. بل لطالما أحسست أن كلَ ما يكتبه الواحد منا في الدفاع عن قيم الثقافة الجادة المكافحة قطرات من شلال هادر يرفد المجتمع العربي بعـناصر العـزة والاستمرار، وسط لُجج اليأس والتراخي والانهزام.
لو كنتُ يا مـحـمـود قادراً على أن أتحدث إليك طويلا، وبتركيز أكبر، لسألتك بشكل خاص عن مشروع راودني قبل أعـوام وبـثـثـتـك إيـَّاه : إنه مشروع تشكيل لجنة للدفاع عن حرية المثقف العربي. أتذكر يا مـحـمـود؟ قبل عشرة أعـوام ،عـنـدما إلـتـقـيـنـا في غـوثـنـبـيـرغ ، اقـتـرحت عـليك أن نعمد إلى تشكيل لجنة للدفاع عن مضطهدي الرأي في هـذا السجن العربي الكبير المـمـتـد من طنـجـة الى أم القـيـوين.
كان قمع الكاتب والكتاب رابضاً على صدورنا آنذاك، مثلما هو رابض اليوم، رغـم تـشـدق الأنظمة العربية بالاصلاح والانـفـتـاح والـتـقـدم. وكان هاجسي، يومذاك، أن أُسهم في أن نكرّس على الساحة العربية مبدأ رفـض عـقـاب أي كان بسبب أفكاره. وإلى اليوم ما زلت أهجس بضرورة إلغاء الرقابة وكل أشكال الكبت على حرية الإبداع ، أياً كانت الذرائع، وعلى رأسها ذريعة ممارسة الرقابة والقمع من أجل ”حماية” المجتمع والوطن والأمة!
أجـل ، أيـهـا الصديق ، لو كنت قادراً على مجالستك اليوم لسألتك عما حل بفكرة اللجنة التي تحدثنا عنها؟ ألـسـت تـعـتـقـد، مثـلما أعـتـقـد، أنها ما زالت ضرورة ملحة اليوم بسبب بقاء كثير من زملائنا المثقفين ومُـفـكـرينا اللامعـين في السجون العـربية، وبسبب استشراء مِـقـص الرقـيـب واجراءات المنع بحق الكتب والمجلات العربية وغير العربية، وبسبب تزايد المهاجرين من المـثـقـفـيـن الى خارج أوطانهم هرباً من قمع الأصوليات والديكتاتوريات معا؟
العزيز مـحـمـود،
مزيداً من الطموح يا صديق العـمـر.
عـزائي في عـدم قدرتي اليوم على العطاء الثقافي هو في قُـدرة متبـدعـيـن فـلـســطـيـنـيـين وعـرب ، أمثالك، عليه.
أعـاـنـقـك.وأشــُدّ علـى يـديـك ،
ودمـتَ ذخـراً للـزطـن والشــًّعـب.
بـكـل مـوَدَّة
عـبـد الـقـادر
خيمة العودة- عضو متميز
- عدد المساهمات : 485
تاريخ التسجيل : 03/12/2011
مواضيع مماثلة
» بائع الثـقـافـة .. بقلم : الدكتور عبد القادر حسين ياسين
» ماذا يـُمَـثـّل اليَهـودي في الـثـقـافة الـغـربـيـة المُـعـاصرة؟ بقلم : الدكتور عبد القادر حسين ياسين
» رسالة إلى صديقي . بقلم د. عبد القادر ياسين
» سيدتي بقلم الدكتور عبد القادر ياسين
» الخيانة الجميلة! الدكتور عبد القادر حسين ياسين
» ماذا يـُمَـثـّل اليَهـودي في الـثـقـافة الـغـربـيـة المُـعـاصرة؟ بقلم : الدكتور عبد القادر حسين ياسين
» رسالة إلى صديقي . بقلم د. عبد القادر ياسين
» سيدتي بقلم الدكتور عبد القادر ياسين
» الخيانة الجميلة! الدكتور عبد القادر حسين ياسين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» بعد إذن الغضب في الذكرى الثالثة عشر لوفاة امي
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» من روائع الأدب الروسي أمي لأنطون تشيخوف
الخميس 17 أكتوبر 2024 - 11:18 من طرف هبة الله فرغلي
» مشوار الصمت ... إلى روح أبي الطاهرة في ذكرى رحيله الثالثة عشر
الخميس 3 أكتوبر 2024 - 12:13 من طرف ميساء البشيتي
» في الذكرى الثانية لرحيل الوالد عام مرَّ .
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 12:15 من طرف ميساء البشيتي
» عيد ميلاد ابنتي دينا
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 11:13 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل إلى أمي
السبت 28 سبتمبر 2024 - 13:05 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل في الهواء
السبت 7 سبتمبر 2024 - 12:30 من طرف ميساء البشيتي
» أن تملك مكتبة - أن تخسر مكتبة ..شجاع الصفدي
الخميس 5 سبتمبر 2024 - 11:27 من طرف خيمة العودة
» طباق إلى إدوارد سعيد ..محمود درويش
السبت 31 أغسطس 2024 - 12:05 من طرف حاتم أبو زيد
» سلسلة حلقات جاهلية .
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 12:10 من طرف ميساء البشيتي
» لمن يهمه الأمر
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 11:52 من طرف هبة الله فرغلي
» عندما تنتهي الحرب بقلم شجاع الصفدي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:17 من طرف خيمة العودة
» شجرة التين بقلم نور دكرلي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:11 من طرف خيمة العودة
» عيد ميلاد سعيد يا فرح
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 12:49 من طرف ميساء البشيتي
» مطر أسود
الإثنين 12 أغسطس 2024 - 10:29 من طرف ميساء البشيتي
» بـــ أحس الآن ــــــــ
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» أنا .. أنت .. نحن كلمة ( مشاركة عامة )
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» فقلْ يا رب للشاعر الفلسطيني صبحي ياسين
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:24 من طرف خيمة العودة
» ثورة صامتة
الإثنين 29 يوليو 2024 - 10:53 من طرف مؤيد السالم
» فضل شهر الله المحرّم وصيام عاشوراء
الثلاثاء 16 يوليو 2024 - 11:14 من طرف فاطمة شكري
» "عيون جاهلية" إصدار ميساء البشيتي الإلكتروني السادس
الإثنين 15 يوليو 2024 - 17:53 من طرف ميساء البشيتي
» سيد الصمت .. إلى أبي في ذكرى رحيله السادسة
الأحد 7 يوليو 2024 - 14:45 من طرف ميساء البشيتي
» ليلاي ومعتصمها
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:24 من طرف مريومة
» غزلك حلو
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:21 من طرف ريما مجد الكيال