الخيانة الجميلة‍! الدكتور عبد القادر حسين ياسين

"El original es infiel a la traduccion" ،
الترجمة خيانة" كما يقول المثل الإيطالي المعروف،
إذ لا يمكن أن تنقل نصاً من لغة إلى أخرى  ،
دون أن تخون جماليات لغته الأم التي تشكل فيما بينها بيئة روحية وفنية خاصة...


فإذا نقل النـَص إلى "بيئة" أخرى فإنه بلا شك سيكون غربياً ،
غربة المهاجر في بلد أجنبي، وسيمر عليه وقت حتى ينسج ،
من عناصر بيئته الجديدة علاقات جميلة أخرى.


فاللغة ليست أصواتاً ولا نحواً ولا صرفاً فحسب،
وإنما هي ذاكرة وعلاقات يمتزج فيها الزمان والمكان امتزاجاً كاملاً…


اقرأ قصيدة من عـيون الشعر الجاهلي(لعمرو بن كلثوم) ،
وأخرى حديثة (لأدونيس) فستجد أنك تعيش في بيئتين مختلفتين اختلافاً كاملاً،
وهما تنتميان إلى لغة واحدة ، فما بالك إذا نقلت قصيدة من لغة إلى أخرى؟!


فـالترجمة ، إذن ، لا تعني نقلاً لغوياً فحسب ،
بل هي نقل لبيئة لغوية إلى بيئة أخرى ،
يحاول المترجم بقدر ما يكون ماهراً أن يماثل بينهما.


"الترجمة قـفـا السجادة"، كما يقول الشاعـر والروائي ،
الـداغـستاني الراحل رسول حمزاتوف،
فمهما كان المترجم بارعاً ، فلن يستطيع نقـل "الألوان الزاهية" ،
للغة الأم التي ترتديها الفكرة أو الحالة…


في مقدمة ترجمته لمذكرات نيكوس كازنتزاكي "تقـرير إلى غـريكو"،
يورد الشاعـر السوري الراحل ممدوح عدوان ،
أبياتاً شعرية لطرفة بن العـبد في وصف الناقة،
مع ترجمتها إلى اللغـة الإنجليزية التي عاد ،
فترجمها ثانية إلى اللغـة العربية،
فإذا بترجمة الترجمة مسخ أيما مسخ،
ليس فيها من الأصل إلا ظلال باهـتة.


فالترجمة لا تستطيع أن تكون أمينة ،
لأن تركيب الجملة في لغة غير تركيبها في لغة ثانية،
ووقع المفردة هنا غير وقعها هناك...
أما أن ينقـل المعنى فقط فـتـلـك عملية تأليف ثانية ،
تفقـد النص نصفه الآخر وهو الفـن الخاص.


يمكن لأي قارئ أن يقارن بين ترجمتين أو أكثر ،
لعمل أدبي واحد كي يكتشف أن الترجمة تأليف جديد،
فشكسبير خليل مطران غير شكسبير جبرا إبراهيم جبرا ن
وماياكوفسكي حسب الشيخ جعفر غير ماياكوفسكي أيمن أبو شعر ،
(وهي ، في تقـديري أسوأ ترجمة).


أصعب أنواع الترجمة ترجمة الشعـر لارتباطه الأساسي باللغة،
وما فـيها من عـناصر فنية خاصة بها.
ومن المترجمين من ينقل الشعر المترجم شعراً،
وعند ذلك تـتضاعف الخيانة، لأن المترجم ينقل العمل من مناخ إلى أخر،
ومن سياق إلى آخر، و من ذاكرة إلى ذاكرة،
ناهيك عن ضرورات الوزن والقافية ن
التي تضطر المترجم إلى الزيادة والحذف...
ولذلك فـإنَّ من الصعوبة بمكان أن نقـتـنـع بـ "رباعـيات الخـَيـَّـام" ،
على إنها شعر فارسي ، على الرغم من تقارب الأوزان بل اللغة ،
في اللغتين العربية والفارسية، و إنما هي قصائد لمحمد الفـراتي ،
أو أحـمـد رامي وسواهما.


ولكن هناك معضلة حقيقـية، فأنت عندما تترجم شعراً موزوناً مقفى ،
ينبغي أن تبقي على شكله الخارجي ونكهته الفنية بالوزن والقافية،
وإلاَّ بدا الشعـر المترجم كأنه شعـر حرّ،  وهو ليس كذلك…
فمن يستطيع أن ينجح في هذا الامتحان العسير؟!


إنَّ الترجمة لا تعني معرفة اللغة الأجنبية فقط،
بل لا تعني المعرفة المعجمية أبداً،
وإنما هي معرفة عميقة للغتين، اللغة الأم واللغة الأجنبية،
معرفة شاملة للتاريخ والجغرافيا والعلوم  والفنون ،
والعادات والمعتقدات والفولكلور، لأن اللغة كما أسلفنا ذاكرة.


بعض المترجمين أشبه بالمترجمين المحلـَّفين،
الذي يُحررون الأوراق الرسمية...
إنهم مجرد معجمات فقيرة، فقدوا الإحساس بالمسؤولية الثقافية ...
فـبعضهم يجهل حتى لغـته الأم، ومن الأمثلة الصارخة على ذلك ،
كتاب المؤرخ البريطاني باتريك سيل ،
Abu Nidal : A Gun for Hire"أبو نضال : بنـدقيـة للايجـار" ،
فإن مترجمه يجهل ـ وهو فـلسطيني ـ - أسماء المدن والقرى ،
والمخيمـات الفلسطينية، والأحداث الكبرى التي يعرفها تلميذ في المرحلة الابتدائية،  فـيسمى صيدا "صيدون"، ومخيم الوحدات "مخيم الوهـدات" ، ومخيم عين الحلـوة "مخيم أين الهـلـوة"... أمـا الثورة الفلسطينية الكبرى (1936ـ1939) ،
فـتصبح "التمرد الفلسطيني" [كــذا..!!] ،
وكل عـين عنده تصبح  ـ بقـدرة قـادر ـ همزة كما تلفظ بالإنجليزية.


ومترجم منتفع آخر يترجم كتاباً تاريخياً ،
وهو جاهل كل الجهل بتاريخ أمتـه،
فيصبح (المقنع) على يديه "المكنى" و"الخبرة" "هيرا" ...
مثل هؤلاء أولى أن يحجر عليهم أو يكفوا عن التخريب.


مهما كانت الترجمة خيانة للأصل فلا بد منها،
فإن الإنسان لا يستطيع أن يـُلمَّ بلغات العالم كلها،
وبعض الشر أهون من بعض،
ولكن على أن تكون الترجمة عن الأصل لا بوساطة لغة ثانية  ،
وإلا لن نحصل على "قفا السجادة" بل على غـبارها.


وبـعــد ؛
لا يمكن للقارئ النبيه إلا أن ينحني احتراماً ،
لبعض المترجمين الذين نقلوا أمهات الكتب العالمية،

ولا سيما أولئك الذين استطاعوا أن ينقـلوا لنا ،
نبض النص الأصلي ونكهته المحلية،
وهنا لا يمكن أن نغفل الروائي والشاعر والفـنـان والمترجم ،
الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا ،
الذي جعلنا نقرا وليم شكسبير وغيره بالعربية وكأننا نقرؤه بالانجليزية…


ولذلك مهما قـلنا فإن الترجمة تظل خيانة ولكن… جميلة!!.