هـسـلـهـولـمـن : ((المـُخـيـَّم)) الـذي أحـِبّ..!

د. عبد القادر حسـين ياسـين

" هـسـلـهـولـمـن Hässleholmen   ضاحية من ضواحي مدينة بـوروس Borås احتـلت في الشهرالماضي مكان الصدارة في أجهزة الأعلام السويدية عندما شهدت تصادمات بين سكان الضاحية والشرطة السويدية. وتعيش في هـَسـلـهـولـمـن  أغلبية من المهاجرين الأتراك واليونانيين والإيرانيين والفلسطينيين واللبنانيين والأكراد وأقـلية من الشباب السويديين العاطلين عن العمل أو ذوي الاتجاهات السياسية التقدمية.
ولا أغالي إذا قلت أنني اشعر بنوع من الانتماء لهذا المكان ؛ ذلك انه يذكرني دائما بانتمائي إلى المخيم الفلسطيني ، سواء كان ذلك في مخيم النويعـمة في أريحا ، أو مخيم الوحدات القريب من عـَمـّان ، أو مخيم بـُرج البراجـنة حيث أقمت في مـطـلـع الـثـمـانـينات  من القـرن الماضي.
في هـسـلـهـولـمـن أستيقظ ، في عطلة نهاية الأسبوع ، على أصوات الأطفال الأكراد خلف شباك غرفـتي وهم يلعـبون بصخـب مـُحبـَب إلى قـلبي منذ أيام المخيم .
وفي الساحة الرئيسية التي تزدحم بالبسطاء أستطيع سماع الموسيقى بصخب مُحبب أيضا إلى ذاكرتي كما كنت أسمعه من أجهزة التسجيل في " الحـِسبة " في مخيم الوحدات .
في هـسـلـهـولـمـن يلقي جاري السويدي العجوز عليَّ تحـية الصباح ، رغم أنني لا أعـرف اسمه ولا يعـرف اسمي .
في هذه الضاحية في " بلد الرفاه " يسرق الناس لأنهم فـقـراء ، وعـاطلون عن العـمـل ، كما يسرق الآخرون غـيـرهم في العـديد من دول العالم الثالث .
إلى شباك غرفتي يـطـيـر عصفور دوري كل صباح ...
يـنـقـر زجاج النافذة ، فأنهض لأفـتحها ، فأتـذكر "عـريشة العـنب" في مخيم النويعـمة .
وفي هـسـلـهـولـمـن  تعـوي كلابٌ لم يـُدجـِّـنها الطعام المـُعـلـَّب "الخالي من الكولسترول" لكي "تحافظ الكلاب على رشاقـتها " .                              
ان هـسـلـهـولـمـن  الفـقـيـرة السعـيـدة التي  اشتري من سوقها النعـناع ، والـفـجل ، والـبـقـدونس ، والـبـصل الأخضر "المستورد خـصـيصاً من تركيا" ، تصبح "مـُخـيما فـلسـطـيـنـيــاً" في لحظات الـوَجـد والشعـور بقسوة المنفى.
في هـسـلـهـولـمـن  ثمة أناس يـُشـبـهـون وجهي ،
صاخبون،  ينفعلون بلا حياء ،
 يـقـفـون في زوايا الحارات و"الزواريب" ،  كما يفعل سكان الأرياف في بلادنا ،
يناقشون أمورهم الحياتية...  
يشكون ارتفاع الضرائب أو تضخم الأسعـار ،
أو يتحدثون عن الأحـبة في الوطن البعـيد .
إن تداخل صورة "هـسـلـهـولـمـن" مع صورة المخيم لن تصل إلى حد التطابق حتماً ،  وان وصلت فهذا يعـني أن الشعور بالمنفى قد محـق ؛ وهذا أمر مستحيل .
لكن في المنفى ألا نـقـوم حقـا بعـملية واعـية ، ولا واعـية  في الوقت نفسه ، لإيجاد صورة متميزة لمنـفـانا لا تشبه المكان الذي نعيش فيه حيث نقوم باقـتطاع حيز من البلد المنفي ، ونبنيه على أساس صورة الوطن البعـيد الذي نشتاق إليه ؟
إذن ؛ هل كان انفعالي [العـدواني؟!] الذي لم يترك للتسامح مطرحاً ضد تلك المرأة الكـردية التي قالت لي قبل عامين أنها لا تذهب إلى  هـسـلـهـولـمـن   لأنها "منطقة وسخة تضم حـُثالة الناس" ... هو انـفـعال ضد موقـفـها من صورة الوطن البعـيد الذي أحـبّ واشتاق إليه ؟
أعـتقـد أن المنفـيين هم أشد الناس حرصا على تميزهم وأقـلهم قدرة على التسامح .
بل على العكس ؛ إنهم يقومون بعملية واعـية لدفع الأمور إلى التوتر وصقـل حساسيتهم في منفاهم ، لدرجة تصبح فيها قابلة للضجيج عند أي احتكاك معارض للصورة التي ينسجونها لأنفسهم .
ولكن أليست تلك المرأة الكردية صورة أخرى للمنفـية عن وطنها ؟
ربما يكون ذلك صحيحا .
وثمة قـدر كبير من الصحة في أننا غالبا ما نكون ضحايا وسائل الإعلام والأفكار التي تقدم إلينا يوميا في الصحافة والإذاعة والتلفزيون .
ربما تكون تلك المراة الكردية  ضحية لكل هذا ،  وربما تكون ضاحية هـسـلـهـولـمـن  الضحية الاولى التي تـُقـتل يوميا ، كما أن المخيم الفلسطيني ضحية العصر بامتياز . ولكن ألا يكون الانتماء اعمق واقوى واكثر عـذوبة حينما يكون الامر متعلقا بالانتماء للمضطهـَـد (بـفـتـح الهـاء)؟ ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مـقيـم في السـويد .
 
د. عبد القادر حسـين ياسـين