الـعـَرَب بـيـن فـِقـه المعاملات وفـِقـه العـبادات الـدكتور عبـد القـادر حسين ياسين

كانوا طلاباً في بريطانيا لا يملكون سوى منحة شهرية متواضعة،
يرسلها اليهم في مطلع كل شهر  The British Council (المجلس الثقافي البـريطاني).
لكنهم كانوا يكتنزون ثروة من العـزيمة والإرادة،
أما الأحلام فأرقام يصعـب عـدّها.


مضت الأيام والسنون،
فـتـضاءلت الأحلام حتى كاد المرء يتصور أن الواحد الصحيح قد طمس،
ولم يتبق سوى الأصفار!
الأحلام الشخصية تحقق بـعـضها،
أمّا أحلام الوطن فـقـد اخـتـلـفـوا عـليها ،
واكتفوا بالرحيل صوب أماكن بعـيدة!


لا شيء في فـضاءات الاغـتراب ،
سوى اجترار الذكريات ووجع الحـنـيـن!
مضوا إلى أحد المصارف المحـلـيـة لكي يـفـتحوا حـساباً مصرفـياً،
يودعـون فـيه مبلغ المنحة الشهرية المتواضعة...
كان فـتـح حساب مصرفي شخصي ضرورة لا غـنى عـنها ،
ويكاد يـبـدو جزءاً من الشخصية القانونية للفـرد.


حصلوا على رقم انتظار ، وجـلسوا في مواجهة أحد المكاتب ، لكي يأخذوا دورهم.
قال أحدهم ضاحكاً :
"هـل تعرفون أننا نجمع أسوأ ثلاث صفات ،
كفـيلة بأن تثير نفـور أي مصرف في مواجهـتـنا..؟!"
سأل الباقون في فضول : "كيف؟"


قال ضاحكاً : "نحن أولاً مودعـون صغار ننفـق ولا ندخـر.
وثانياً نحن طلاب وهـذه في حـد ذاتها صفة تـثـير التوجـس ولا تطمئن مالياً.
ونحن ، ثالثاً،  فـلـسـطينيون تسبـقـنا الشكوك والانطباعات المسبقة ، حيثما ذهـبنا!
ما الذي يجعـل ، إذن ، مصرفاً يرحـب بعـملاء مثلنا...؟!"


توقـفـت ضحكاتهم المكتومة ، بينما رقم الانتظار يظهر على شاشة ضوئية صغـيرة،
وصوت أنـثـوي ناعـم لكنه جاد، ينادي عـبر مكبر الصوت الداخلي.
أخذ مكانه أمام الموظف المسؤول عن فـتح الحساب المـصرفي،
وأعطاه تصريح إقامته وبطاقـته الجامعـية .
نهض الموظف في نشاط ليصور الأوراق التي قـدمها له بواسطة آلة التصوير الضوئي ...  
لم يمتعـض موظف البنك ، لأنه لم يقـم سلفاً بتصوير مستنداته وأوراقه.
ولم يتلكأ مثلما يفعـل الـعـرب  في استمتاع ،
فـيطلبون منك أن تعـود في الغـد أو الغـد الذي يليه،
مـُـحملاً بصور الأوراق المطلوبة.
التلكؤ صار إذن ثقافة... ولكل مجتمع ثقافـتـه.
لم تكن هـذه هي المفاجأة على أي حال،
ولا كانت المفاجأة أن استيفاء كل الأوراق الأخرى لم يتجاوز دقائق معدودة.
كانت المفاجأة الحقيقية أن موظف المصرف طلب منه أن يعـود بعـد أسبوع ،
لاستلام دفـتــر الشيكات الخاص به، وبطاقة الائتمان،
وذلك بعـدما عـرض عليه نماذج وأشكالاً أنيقة لدفاتر الشيكات ،
كي يختار منها ما يروق له.


انصرف شاكراً للموظف حسن تعامله ،
وقد ساورته خاطرة عابرة بأن في الأمر خطأ ما.
فلم يكن في حسابه المصرفي بعـد جـنـيـه واحد.


حين عاد الى المصرف بعـد أسبوع ،
وجـد دفـتـر الشيكات وبطاقة الائتمان جاهزين للاستلام.
وما زال حسابه "خاوياً".
سأل موظف البنك متردداً ، بينما كان يضع له دفتر الشيكات في حافـظة أنيقة:
لكن حسابي لم يزوّد بأية نقـود بعـد؟


ردّ عليه ببساطة أن لا ضرر في ذلك ،
لأنك لن تحـرر شيكات من دون رصيد، ثم استطرد مطمئناً:
"ولكن يحق لك منذ الآن استخدام بطاقة الائتمان،
شرط ألا تتجاوز 700 جـنـيـه كل شهر!"
سأل متعجـباً: كيف ذلك وليس فى حسابي نقود بعـد؟
أجاب موظف البنك:
"هذا المبلغ هو قيمة الائتمان الذي يمنحه البنك عادة لكل زبائنه! "


الحكاية تنضح بالدلالات المتنوعة!
صحيح أن فيها جزءاً يثير الجدل وربما الدهـشة ...
وقد كشفت الأزمة المالية العالمية أن الإفـراط ،
في ممارسة المؤسسات المالية الغـربية لوظيفـتـها الائتمانية،
كان أحد عـوامل هذه الأزمة،
ولكن ما زالت الحكاية تستحق التأمل ،
لـنـسـتـخـلص منها أقصى ما يمكن من دلالات.


الدلالة الأولى ذات بعد حضاري وسياسي،
وهي رسوخ مبدأ المساواة في الضمير البريطاني،
فلا فارق في الاستفادة من خدمات الدولة بين مواطن بريطاني،
وشخص أجنبي يقيم في بريطانيا على نحـو عارض ومؤقـت.
فالتمييز بين البشر محظور في القانون ،
والضمير ليس فقط في كون الشخص وطنياً أم أجنبياً،
وإنما أيضاً بصرف النظر عن لونه أو عـرقه أو ديـنـه.
فلا يهـم مركزك الاجتماعي ، أو أصلك العـرقي ، أو انتماؤك الديني.


الناس هنا متساوون أمام القانون،
ليس فقط لأنهم مواطنون، بل أيضاً وقبل ذلك لأنهم بشر.


حين تقارن ما تبديه هذه المجتمعات المتقدمة ،
من احترام لقيمة المساواة ، وما هو حاصل في المجتمع العربي ،
تغـزوك الدهـشة ويحاصرك الأسى.
فـفـي المجتمع العربي الواحد تتفاوت معاملة الناس أمام القانون ،
على الرغـم من أنهم جميعاً مواطنون!


فالمركز الاجتماعي للمواطن،
وربما انتماؤه الديني أو السياسي ،
عـوامل تؤخذ أحياناً في الاعـتبار ،
لتقدير استحقاقه مكاناً لإبنه في مدرسة متميزة،
أو لحصوله على وظيفة معينة.


أما إذا تعلق الأمر بخدمة مـصرفية ،
كالحصول على ائـتـمان أو قـرض،
فالبسطاء والفـقـراء والموظفـون ـ ولو كانوا شرفاء ـ  غـير مرحب بهم!
أما ذوو كروش الوجاهة والوساطة،
والعارفون كيف ومن أين تـؤكل الكتف ،
فهم محل ترحيب ، حتى ولو كانت الأموال التي يقترضونها ستصبح بعد قـليل عابرة للحدود!


الدلالة الثانية ذات بعد إداري واجتماعي معاً،
فهذه مجتمعات لا تعـرف إحدى أسوأ الرذائل الإدارية في العـالم الـعـربي ،
وهي رذيلة البيروقـراطية.
والعجيب أن هذه الرذيلة ، التي طالما كانت عائقاً أمام حركة الاستثمار الآتي من الخارج،
ما زالت تثير الشكوى والجدل.
وهـذه مجتمعات تسودها الثقة في التعامل مع مواطنيها إلى ان يثبت العكس.


أما في المجتمع العربي،
فإن التعامل الإداري مع المواطن يبدو وكأنه مبني عـلى عدم الثقة فيه إلى أن يثبت العكس.
ليس من الصعب على كل من عاش في مجتمع أوروبي متقـدم ،
أن يكتشف أن الثقة والصدق هما الأصل في التعامل الإداري ،
وربما التعامل الإنساني عموماً، وغير ذلك هو الاستثناء.


السؤال هو كيف تصبح مجتمعاتنا ذات يوم كذلك؟
هل تتعلق المسألة بنظم التربية والتعليم؟
أم يتطلب الأمر تغيير القوانين واللوائح ،
لكي تكون أقـل بيروقراطية وأكثر ثـقـة في المواطن؟
أم أن خطابنا الديني وهو الزاخر بمعاني الصدق والأمانة،
مطالب بالتركيز على فـقـه المعاملات بقدر إلحاحه على فـقـه العـبادات؟


الأرجح أننا نحتاج الى كل هـذا معاً