بحـث
من أنا ؟
حقوقية، كاتبة، ناشطة في شؤون بلادي وشؤون المرأة، لي عدة منشورات ورقية وإلكترونية
المواضيع الأخيرة
كتب ميساء البشيتي الإلكترونية
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
عـَقـْـلٌ لا يَـعـتـَرف بـ "تاء التأنـيـث"!بقلم : الدكتور عبـدالقـادر حسين ياسين *
صفحة 1 من اصل 1
عـَقـْـلٌ لا يَـعـتـَرف بـ "تاء التأنـيـث"!بقلم : الدكتور عبـدالقـادر حسين ياسين *
عـَقـْـلٌ لا يَـعـتـَرف بـ "تاء التأنـيـث"!
الدكتور عبـدالقـادر حسين ياسين
كنتُ أكنّ لها احتراماً شديداً وإعجاباً فائقاً ولا زلت . ولم أكن فريداً في هذه المشاعر ، كانت هي ولا تزال ودائماً في حدقات عـيون كل من تعرف إليها ، ربما لشخصيتها المتزنة ، ربما لريادتها ، فهي واحدة من جيل سبق عـصره ودخل الجامعة ؛ ربما لأنها كانت تلميذة شاعـر البنغال الأعظم وفيلسوفهم الأشهر رابندرانات طاغـور .
تعرفـتُ إلى الدكتورة سارافات كولامار ، أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة بومبي بالهند ، قبل 25 عاما ... كان ذلك في أكسفورد حيث كانت الدكتورة كولامار أستاذة زائرة في أعـرق الجامعات البريطانية . ومنذ ذلك اللقاء وأنـا أكن لها احتراماً وإعجاباً متزايدين ..... وطوال هـذه السنوات الـتـقـيـنا عـدة مرات كانت آخرها في شباط عام 1994 في الهند .
وكلما قابلت الدكتورة كولامار شعرت أنها الأستاذة ؛ فهي تعطي كل من يستمع إلى حديثها هذا الشعور بشدة .... ملامح وجهها ، وصوتها ، طول قامتها، إصغاؤها ،عـقـلـهـا ، وقبل كل شي تواضعها الجمّ وبساطة مظهرها وابتسامتها الدافئة .
في ذلك الصباح من شباط عام 1994 كنتُ قد قرأت في صحيفة Times of India أن السيدة انديرا غاندي ، رئيسة وزراء الهند الراحلة ، تعتزم إجراء تعديل وزاري في حكومتها .
وعـنـدما الـتـقـيـتـها في بهو فـنـدق أوبروي في بومبي بادرتها قائلا إنني أتوقع أن أقرأ إسمها في التعديل الوزاري المرتـقـب . وكنت أعـتـقـد ـ أو هكذا خـُيـِّل لي ـ أن عـبارتي هذه سـتـسـعـدها ، فاكـتـشـفـت أنها لا تعـشـق المناصب ، وأن أنبل وظيفة في الحـقـل العام ، على حد تعبيرها ، هي أستاذة جامعة .
وعندما قلت لها إنني أطمع في إجراء حديث مُطـوَّل معها لمجلة Third World Review
قالت لي بأدب جم : "ما الموضوعات التي ستطرحها للنقاش ؟ أحب دائماً أن أسـتـعـد للحوار ، أحب أن ألـمّ بالموضوع الذي سـنـتـحـدث فيه"... وإتـفـقـنـا أن نـلـتـقـي في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي في بيتها في إحدى ضواحي بومبي الغارقة في الصمت والهدوء .
وأدركت أن الدكتورة كولامار مخـلـصة لأسلوبها في الجامعة ، إنها الأستاذة دائماً وأبداً ؛ تحب أن تسـتـعـد للموضوع الذي سـتـتـحـدث فيه ، أنها لا تـفـضل الثرثرة . إن سارافات كولامار تريد أن تضيف لسامعها أو قارئها أو مشاه،دها شيئا ، فإذا اكـتـشـفـت أنها لن تضيف جديدا توقـفـت عن الحديث وإعـتـذرت بأدب جـَمّ .
وعـنـدمـا قـلـتُ لها أننا سنتحدث عن رابندرانات طاغـور ، شعرت بسعادة فائقة ظهرت في رقة صوتها وإبتسامتها ، كان معي جهاز تسجيل وظـيـفـتـه أن يـلـتـقـط كل كلمة حتى السكنات والهمسات. وقبل أن أضغط على زرّ الـتـسـجـيل تذكرتُ عبارة لسيمون دي بـو فـوار عـن صديق عـمـرها الكاتب والـفـيـلـسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر ، أن "هـمسته أو صمته أو حتى سعاله المفاجئ له مغزى كبير ، انه يسيطر جيداً على عـقـلـه ويعـرف كيف يجيب على سؤال ما ، إن كل صوت يصدر منه مهما كان خافتا هو إجابة !!."
وقد حرصتُ على أن أترك جهاز التسجيل يعمل بلا توقـف لأحصل على إجابات الدكتورة كولامار عن كل سؤال طرحته ،وأعـتـرف أنني أمـقـت أسلوب سين سؤال ،جيم جواب ، فهو أسلوب تقليدي في الحوار . كان الكاتب الأمريكي الراحل إرنست هـمـنـجـواي يقول دائما " لا بدَّ من إشراك القارئ في الحوار ، ذلك إن اشتراكه يعني دخوله حلقة النقاش فلماذا لا نجعله يستمتع بخياله الخاص ، دعه يطلق لخياله العـنان " .
تحتل غرفة الصالون مكانة خاصة في تفكير الكثيرين من أبناء الطبقة المتوسطة في الهند ، وكانت الدكتورة كولامار من أوائل من تمرَّد على "غرفة الصالون" من بنات طـبـقـتـها ، وعـنـدما كانت رئيسة لـفـرع إتحاد الأدباء الهنود في بومبي كان حـلمها أن يصبح في كل بيت مكتبة تضم كتباً رخـيـصـة الثمن أنيقة الطباعة ؛ ذلك أن "الكتاب ، كطبق الأرز ، يجب أن يكون في متناول الجميع !" .
عـنـدما جـلـسـتُ في غـرفة الصالون كان أول ما استرعى إنتباهي أن رفوف الكتب تغطي كافة الجدران ... بادرتني بالحديث وكأنها عـرفـت ما يجول بخاطري : "عـنـدما تزوجـت أقـنـعـت زوجي بأنه ليس ثمة حاجة للصالون ، وأننا بحاجة إلى غرفـتـيـن فـقـط واحدة للمكتب وأخرى للمعـيشة فإذا قبلَ أصدقاؤنا بذلك فـعـلى الرحـب والسعـة ، وإذا ما اعـتـرضوا فلا حاجة بهم لزيارتنا ... إن الجمال في نظري وظيفي ، أي أن المكان الذي له وظيفة يبقى دائما جميلا ولكن الصالون رمز للاستعراض ، وأنا أمـقـت هذا الأسلوب ، إنني فخورة بمكـتـبـتـي هذه المتواضعة هذه أكثر مما أفـخـر بنوع السجـَّاد الذي يغطي الأرض أو الأرائك التي تزين الصالون ."
وتستطرد الدكتورة كولامار وكأنها تواصل تفكيرها : "والدتي تعـلـمـت في المدارس البريطانية في الهـنـد وأكملت تعليمها العالي في كامبردج ، وكان جدي رجلا ليبرالياً بالنسبة لأبناء جيله ؛ فخلافاً لـلـتـقـلـيـد السائد في ذلك الوقت لم يـكن يـُزوج بناته قـبـل بلوغـهـن السنّ القانوني 21 عاما وكان يرفض الزواج المبكر ويـعـتـبـره بمثابة مأساة ، أما والدي فكان أحد كبار رجال الإدارة في الإدارة البريطانية قبل الاستقلال ، وكان ذا أفكار متحررة ولهذا لم أرتبك مطلقاً أمام تجربة الاختلاط في الجامعة ، ولذلك مرَّت سنوات الدراسة بـيـسـر شديد واكتسبت خبرات هامة
وفي وقت كانت فيه بنات جيلي غارقات في اللهو والمرح كان والدي هو نافذة حرية . كانت والدتي تحلم بأن أكون طبيبة حيث للطبيبة مكانة خاصة بين أبناء الطبقة المتوسطة في الهند ولكنني لم اعشق مهنة الطب ، وكادت والدتي أن تـقـنـع أبي بأهمية المهنة التي اختارتها لي لولا رابندرا نات طاغـور (إخـتـفـت رنـَّة صوتها عـنـدما نـطـقـت اسم الشاعـر العـظـيم ) الذي ذهـَبَ إلى والدي ـ وكان أحد أصدقائه المـقـربين ـ لاسـتـشـارته بشـأن مستقبلي ، فأشار عـلـيـه بأن التحق بكلية الآداب لدراسة الأدب الانجليزي... وتـغـيـَّر مسار حياتي ."
تـقـفـز الدكتورة كولامار فوق السنين ، وتتوقـف عـنـد الـقـيـَم التي استفادتها من لقائها بالشاعـر والفيلسوف البنغالي الأشهر : "عـلى الرغـم من جـسـده النحـيل ، ومما يـوحي به مظهـره الخارجي ، كان طاغـور في مـنـتـهـى الصلابة .. وأعـتـقـد بأنه لو لم يكن صلب الإرادة لما وصل إلى المكانة التي يـحـتـلـها في الأدب العالـمي ... وكان يقول لي بصوته المميز " بدون إحداث ثورة في التعـلـيـم لن تجـد الـهـنـد مكانـتـهـا تحـت الشمس " ، وكنت أشـعـر أنه يحرضني على إتخاذ موقف ، وأنه يـبـذر في أعماقي في تلك السنّ المبكرة ، أهمية الشعور باتخاذ الموقف .
تعلمت من طاغـور التمسك بالحقّ .. وكان يقول دائما "إذا لم يتمسك الـهـنـود بحـقـوقهم فأنهم يـُفـرّطون في أنفسهم " .
"وتعلمت منه أن الاعـتـراف بالذنب فـضيلة ، بل لا أغالي إذا قلت أنها أهم الفضائل لأنها إن دلـَّـت على شيء فإنما تدل على تواضع مع علم ...وكان طاغور [الفائز بجائزة نوبل للآداب ] قـمـّة في التواضع ، وقـد رفـعـه تواضـعـه إلى مرتبة الـقديـسـين ، كان واحداً من أولئك العظماء الذين لا يجود الزمان بمـثـلـهـم .. وأعـتـقـد أن أحد أسباب عظمته ، إن لم يكن السبب الرئيسي ، هـو تواضعـه الجمّ . وتعـلـمـت من طاغـور أن للجامعات مكانة سامية وكان يقول لي : "هذه أماكن مقدسة ولا تـقـلّ قـداسة عن المعابد .."
"ومن الأهمية بـمكـان أن نتوقف عـنـد سؤالك الاعـتـراضي ، هل كان طاغـور شاعـراً أم فـيـلـسوفا أم فـنـاناً ؟ اعتقد انه كان الثلاثة معاً ، لقد كان تكوينه مميزاً وفريداً ...وكان نطقه للكلمات له رنين خاص ، وانـفـتـح عـقـله على عالم فكر لا حدود لـه ، كان يهتم بأمور الفـلـسـفـة ربما أكثر من اهتمامه بأمور الأدب ، ولكنه كان أولا وأخيراً شاعـر الأمـَّة .."
وعـنـدما سالت الدكتورة سارفات كولامار عن الحلم الذي كان يراودها عـنـدما كانت رئيسة لفرع اتحاد الأدباء الهنود في بومبي بأن يصبح في كل بيت هـنـدي مكـتـبـة ، وعما تحقـق في العـقـدين الماضيين قالت بهدوء : " أرجو بأن تسمح لي بأن أفكر أمامك بصوت عال ، نحن في العالم الثالث أمم لا تقرأ (!!) وهـذه عـملية غـير طـبـيـعـيـة ، ربما ليس من حقي أن أتحدث عن تجارب الشعوب العربية والشعوب الأخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ، فـلـسـت مؤهلة لذلك ؛ على أي حال ، ولكني اسمح لـنـفـسي بأن أستعرض أمامك التجربة الهندية ..ونحن شعـب غير قارئ ، ربما تـقـول أن البحـث عن الرغـيـف أو تأمين طبق الأرز أهم ،بالنسبة لعشرات الملاين من فقراء الهند المعدمين ، من الكتاب ... إن أسلوب التعليم في بلادنا خطأ .وعلاقة تلاميذ المدارس بالكتاب خطأ .. وعلاقة الكبار بالكتاب خطأ ..وليس صحيحاً ما يزعمه البعض بأن التلفزيون هو الذي حـجـبَ الكتاب .. أعـتـقـد أن العكس هو الصحيح ، فالتلفزيون يمكن أن يرشد الناس للقراءة . "إن المكتبة ـ تضيف الدكتورة كولامار ـ لا تحتل ركنا صغيرا في البيت الهندي ، ولكن التلفزيون الملوَّن والـفـيديو يحتلان أهم مكان ... لقد أصبح هـذان الجهازان دلالة على مكانة الفرد في السلـَّم الاجتماعي والاقتصادي ...إنها النظرة الدولية للكتاب والكلمة .. إن للتلفزيون دوراً بارزاً في العالم الثالث ..إذ يمكن توظيفه بشكل أمثل في التربية وفي نشر الذوق وفي محو الأمية ".
القراءة عند الدكتورة كولامار ، حـُبّ وهواية ، والموسيقى عـنـدها غـذاء وخـبـز يومي . سألتها ضاحكا والسياسة ؟؟ فأجابت بهدوء : "إنها الإحساس بالناس ، هؤلاء البسطاء الـمُـعـدمين الطيبين بمشاكلهم اليومية البسيطة ، إن السياسة عـنـدي هي تجسيد للعـطاء الاجتماعي الذي يعتبر بحق صميم العمل السياسي ."
وطال بنا الحديث ـ والحديث ذو شجون ـ في الديانات والـفـلـسـفـة وعلاقـتها بإنديرا غاندي ، ومؤلفاتها ... وقلت لها ، بعـد أن شعـرت بأنني أخـذت من وقـتـها أكثر مما ينبغي ، أن الحديث معـك قصير مهما طال ..
وصـمـتـت الدكتورة خجلا وتواضعـاً ..وشعـرت أنني كنتُ في ضيافة أحد ألمع الــعـقـول في الهند ...عـقـلٌ لا يـعـتـرف بـ "تـاء التـأنـيـث "
الدكتور عبـدالقـادر حسين ياسين
كنتُ أكنّ لها احتراماً شديداً وإعجاباً فائقاً ولا زلت . ولم أكن فريداً في هذه المشاعر ، كانت هي ولا تزال ودائماً في حدقات عـيون كل من تعرف إليها ، ربما لشخصيتها المتزنة ، ربما لريادتها ، فهي واحدة من جيل سبق عـصره ودخل الجامعة ؛ ربما لأنها كانت تلميذة شاعـر البنغال الأعظم وفيلسوفهم الأشهر رابندرانات طاغـور .
تعرفـتُ إلى الدكتورة سارافات كولامار ، أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة بومبي بالهند ، قبل 25 عاما ... كان ذلك في أكسفورد حيث كانت الدكتورة كولامار أستاذة زائرة في أعـرق الجامعات البريطانية . ومنذ ذلك اللقاء وأنـا أكن لها احتراماً وإعجاباً متزايدين ..... وطوال هـذه السنوات الـتـقـيـنا عـدة مرات كانت آخرها في شباط عام 1994 في الهند .
وكلما قابلت الدكتورة كولامار شعرت أنها الأستاذة ؛ فهي تعطي كل من يستمع إلى حديثها هذا الشعور بشدة .... ملامح وجهها ، وصوتها ، طول قامتها، إصغاؤها ،عـقـلـهـا ، وقبل كل شي تواضعها الجمّ وبساطة مظهرها وابتسامتها الدافئة .
في ذلك الصباح من شباط عام 1994 كنتُ قد قرأت في صحيفة Times of India أن السيدة انديرا غاندي ، رئيسة وزراء الهند الراحلة ، تعتزم إجراء تعديل وزاري في حكومتها .
وعـنـدما الـتـقـيـتـها في بهو فـنـدق أوبروي في بومبي بادرتها قائلا إنني أتوقع أن أقرأ إسمها في التعديل الوزاري المرتـقـب . وكنت أعـتـقـد ـ أو هكذا خـُيـِّل لي ـ أن عـبارتي هذه سـتـسـعـدها ، فاكـتـشـفـت أنها لا تعـشـق المناصب ، وأن أنبل وظيفة في الحـقـل العام ، على حد تعبيرها ، هي أستاذة جامعة .
وعندما قلت لها إنني أطمع في إجراء حديث مُطـوَّل معها لمجلة Third World Review
قالت لي بأدب جم : "ما الموضوعات التي ستطرحها للنقاش ؟ أحب دائماً أن أسـتـعـد للحوار ، أحب أن ألـمّ بالموضوع الذي سـنـتـحـدث فيه"... وإتـفـقـنـا أن نـلـتـقـي في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي في بيتها في إحدى ضواحي بومبي الغارقة في الصمت والهدوء .
وأدركت أن الدكتورة كولامار مخـلـصة لأسلوبها في الجامعة ، إنها الأستاذة دائماً وأبداً ؛ تحب أن تسـتـعـد للموضوع الذي سـتـتـحـدث فيه ، أنها لا تـفـضل الثرثرة . إن سارافات كولامار تريد أن تضيف لسامعها أو قارئها أو مشاه،دها شيئا ، فإذا اكـتـشـفـت أنها لن تضيف جديدا توقـفـت عن الحديث وإعـتـذرت بأدب جـَمّ .
وعـنـدمـا قـلـتُ لها أننا سنتحدث عن رابندرانات طاغـور ، شعرت بسعادة فائقة ظهرت في رقة صوتها وإبتسامتها ، كان معي جهاز تسجيل وظـيـفـتـه أن يـلـتـقـط كل كلمة حتى السكنات والهمسات. وقبل أن أضغط على زرّ الـتـسـجـيل تذكرتُ عبارة لسيمون دي بـو فـوار عـن صديق عـمـرها الكاتب والـفـيـلـسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر ، أن "هـمسته أو صمته أو حتى سعاله المفاجئ له مغزى كبير ، انه يسيطر جيداً على عـقـلـه ويعـرف كيف يجيب على سؤال ما ، إن كل صوت يصدر منه مهما كان خافتا هو إجابة !!."
وقد حرصتُ على أن أترك جهاز التسجيل يعمل بلا توقـف لأحصل على إجابات الدكتورة كولامار عن كل سؤال طرحته ،وأعـتـرف أنني أمـقـت أسلوب سين سؤال ،جيم جواب ، فهو أسلوب تقليدي في الحوار . كان الكاتب الأمريكي الراحل إرنست هـمـنـجـواي يقول دائما " لا بدَّ من إشراك القارئ في الحوار ، ذلك إن اشتراكه يعني دخوله حلقة النقاش فلماذا لا نجعله يستمتع بخياله الخاص ، دعه يطلق لخياله العـنان " .
تحتل غرفة الصالون مكانة خاصة في تفكير الكثيرين من أبناء الطبقة المتوسطة في الهند ، وكانت الدكتورة كولامار من أوائل من تمرَّد على "غرفة الصالون" من بنات طـبـقـتـها ، وعـنـدما كانت رئيسة لـفـرع إتحاد الأدباء الهنود في بومبي كان حـلمها أن يصبح في كل بيت مكتبة تضم كتباً رخـيـصـة الثمن أنيقة الطباعة ؛ ذلك أن "الكتاب ، كطبق الأرز ، يجب أن يكون في متناول الجميع !" .
عـنـدما جـلـسـتُ في غـرفة الصالون كان أول ما استرعى إنتباهي أن رفوف الكتب تغطي كافة الجدران ... بادرتني بالحديث وكأنها عـرفـت ما يجول بخاطري : "عـنـدما تزوجـت أقـنـعـت زوجي بأنه ليس ثمة حاجة للصالون ، وأننا بحاجة إلى غرفـتـيـن فـقـط واحدة للمكتب وأخرى للمعـيشة فإذا قبلَ أصدقاؤنا بذلك فـعـلى الرحـب والسعـة ، وإذا ما اعـتـرضوا فلا حاجة بهم لزيارتنا ... إن الجمال في نظري وظيفي ، أي أن المكان الذي له وظيفة يبقى دائما جميلا ولكن الصالون رمز للاستعراض ، وأنا أمـقـت هذا الأسلوب ، إنني فخورة بمكـتـبـتـي هذه المتواضعة هذه أكثر مما أفـخـر بنوع السجـَّاد الذي يغطي الأرض أو الأرائك التي تزين الصالون ."
وتستطرد الدكتورة كولامار وكأنها تواصل تفكيرها : "والدتي تعـلـمـت في المدارس البريطانية في الهـنـد وأكملت تعليمها العالي في كامبردج ، وكان جدي رجلا ليبرالياً بالنسبة لأبناء جيله ؛ فخلافاً لـلـتـقـلـيـد السائد في ذلك الوقت لم يـكن يـُزوج بناته قـبـل بلوغـهـن السنّ القانوني 21 عاما وكان يرفض الزواج المبكر ويـعـتـبـره بمثابة مأساة ، أما والدي فكان أحد كبار رجال الإدارة في الإدارة البريطانية قبل الاستقلال ، وكان ذا أفكار متحررة ولهذا لم أرتبك مطلقاً أمام تجربة الاختلاط في الجامعة ، ولذلك مرَّت سنوات الدراسة بـيـسـر شديد واكتسبت خبرات هامة
وفي وقت كانت فيه بنات جيلي غارقات في اللهو والمرح كان والدي هو نافذة حرية . كانت والدتي تحلم بأن أكون طبيبة حيث للطبيبة مكانة خاصة بين أبناء الطبقة المتوسطة في الهند ولكنني لم اعشق مهنة الطب ، وكادت والدتي أن تـقـنـع أبي بأهمية المهنة التي اختارتها لي لولا رابندرا نات طاغـور (إخـتـفـت رنـَّة صوتها عـنـدما نـطـقـت اسم الشاعـر العـظـيم ) الذي ذهـَبَ إلى والدي ـ وكان أحد أصدقائه المـقـربين ـ لاسـتـشـارته بشـأن مستقبلي ، فأشار عـلـيـه بأن التحق بكلية الآداب لدراسة الأدب الانجليزي... وتـغـيـَّر مسار حياتي ."
تـقـفـز الدكتورة كولامار فوق السنين ، وتتوقـف عـنـد الـقـيـَم التي استفادتها من لقائها بالشاعـر والفيلسوف البنغالي الأشهر : "عـلى الرغـم من جـسـده النحـيل ، ومما يـوحي به مظهـره الخارجي ، كان طاغـور في مـنـتـهـى الصلابة .. وأعـتـقـد بأنه لو لم يكن صلب الإرادة لما وصل إلى المكانة التي يـحـتـلـها في الأدب العالـمي ... وكان يقول لي بصوته المميز " بدون إحداث ثورة في التعـلـيـم لن تجـد الـهـنـد مكانـتـهـا تحـت الشمس " ، وكنت أشـعـر أنه يحرضني على إتخاذ موقف ، وأنه يـبـذر في أعماقي في تلك السنّ المبكرة ، أهمية الشعور باتخاذ الموقف .
تعلمت من طاغـور التمسك بالحقّ .. وكان يقول دائما "إذا لم يتمسك الـهـنـود بحـقـوقهم فأنهم يـُفـرّطون في أنفسهم " .
"وتعلمت منه أن الاعـتـراف بالذنب فـضيلة ، بل لا أغالي إذا قلت أنها أهم الفضائل لأنها إن دلـَّـت على شيء فإنما تدل على تواضع مع علم ...وكان طاغور [الفائز بجائزة نوبل للآداب ] قـمـّة في التواضع ، وقـد رفـعـه تواضـعـه إلى مرتبة الـقديـسـين ، كان واحداً من أولئك العظماء الذين لا يجود الزمان بمـثـلـهـم .. وأعـتـقـد أن أحد أسباب عظمته ، إن لم يكن السبب الرئيسي ، هـو تواضعـه الجمّ . وتعـلـمـت من طاغـور أن للجامعات مكانة سامية وكان يقول لي : "هذه أماكن مقدسة ولا تـقـلّ قـداسة عن المعابد .."
"ومن الأهمية بـمكـان أن نتوقف عـنـد سؤالك الاعـتـراضي ، هل كان طاغـور شاعـراً أم فـيـلـسوفا أم فـنـاناً ؟ اعتقد انه كان الثلاثة معاً ، لقد كان تكوينه مميزاً وفريداً ...وكان نطقه للكلمات له رنين خاص ، وانـفـتـح عـقـله على عالم فكر لا حدود لـه ، كان يهتم بأمور الفـلـسـفـة ربما أكثر من اهتمامه بأمور الأدب ، ولكنه كان أولا وأخيراً شاعـر الأمـَّة .."
وعـنـدما سالت الدكتورة سارفات كولامار عن الحلم الذي كان يراودها عـنـدما كانت رئيسة لفرع اتحاد الأدباء الهنود في بومبي بأن يصبح في كل بيت هـنـدي مكـتـبـة ، وعما تحقـق في العـقـدين الماضيين قالت بهدوء : " أرجو بأن تسمح لي بأن أفكر أمامك بصوت عال ، نحن في العالم الثالث أمم لا تقرأ (!!) وهـذه عـملية غـير طـبـيـعـيـة ، ربما ليس من حقي أن أتحدث عن تجارب الشعوب العربية والشعوب الأخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ، فـلـسـت مؤهلة لذلك ؛ على أي حال ، ولكني اسمح لـنـفـسي بأن أستعرض أمامك التجربة الهندية ..ونحن شعـب غير قارئ ، ربما تـقـول أن البحـث عن الرغـيـف أو تأمين طبق الأرز أهم ،بالنسبة لعشرات الملاين من فقراء الهند المعدمين ، من الكتاب ... إن أسلوب التعليم في بلادنا خطأ .وعلاقة تلاميذ المدارس بالكتاب خطأ .. وعلاقة الكبار بالكتاب خطأ ..وليس صحيحاً ما يزعمه البعض بأن التلفزيون هو الذي حـجـبَ الكتاب .. أعـتـقـد أن العكس هو الصحيح ، فالتلفزيون يمكن أن يرشد الناس للقراءة . "إن المكتبة ـ تضيف الدكتورة كولامار ـ لا تحتل ركنا صغيرا في البيت الهندي ، ولكن التلفزيون الملوَّن والـفـيديو يحتلان أهم مكان ... لقد أصبح هـذان الجهازان دلالة على مكانة الفرد في السلـَّم الاجتماعي والاقتصادي ...إنها النظرة الدولية للكتاب والكلمة .. إن للتلفزيون دوراً بارزاً في العالم الثالث ..إذ يمكن توظيفه بشكل أمثل في التربية وفي نشر الذوق وفي محو الأمية ".
القراءة عند الدكتورة كولامار ، حـُبّ وهواية ، والموسيقى عـنـدها غـذاء وخـبـز يومي . سألتها ضاحكا والسياسة ؟؟ فأجابت بهدوء : "إنها الإحساس بالناس ، هؤلاء البسطاء الـمُـعـدمين الطيبين بمشاكلهم اليومية البسيطة ، إن السياسة عـنـدي هي تجسيد للعـطاء الاجتماعي الذي يعتبر بحق صميم العمل السياسي ."
وطال بنا الحديث ـ والحديث ذو شجون ـ في الديانات والـفـلـسـفـة وعلاقـتها بإنديرا غاندي ، ومؤلفاتها ... وقلت لها ، بعـد أن شعـرت بأنني أخـذت من وقـتـها أكثر مما ينبغي ، أن الحديث معـك قصير مهما طال ..
وصـمـتـت الدكتورة خجلا وتواضعـاً ..وشعـرت أنني كنتُ في ضيافة أحد ألمع الــعـقـول في الهند ...عـقـلٌ لا يـعـتـرف بـ "تـاء التـأنـيـث "
خيمة العودة- عضو متميز
- عدد المساهمات : 485
تاريخ التسجيل : 03/12/2011
مواضيع مماثلة
» روح ثائرة تبحـث عـن الـحـقـيـقـة بقلم: الدكتور عبـدالقـادر حسين ياسين
» رسـالـة عـاجـِلة إلـى الـسـَّيـِّد الـمـَسيحْ... بقلم : الدكتور عبـدالقـادر حسين ياسين
» إلا أنـَّهُـم عـَـرَبُ ! بقلم : الدكتور عبدالقـادر حسين ياسين
» بائع الثـقـافـة .. بقلم : الدكتور عبد القادر حسين ياسين
» أكـتـب ... حـتـى أكــون بقلم : الدكتور عبدالقـادر حسين ياسين
» رسـالـة عـاجـِلة إلـى الـسـَّيـِّد الـمـَسيحْ... بقلم : الدكتور عبـدالقـادر حسين ياسين
» إلا أنـَّهُـم عـَـرَبُ ! بقلم : الدكتور عبدالقـادر حسين ياسين
» بائع الثـقـافـة .. بقلم : الدكتور عبد القادر حسين ياسين
» أكـتـب ... حـتـى أكــون بقلم : الدكتور عبدالقـادر حسين ياسين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» بعد إذن الغضب في الذكرى الثالثة عشر لوفاة امي
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» من روائع الأدب الروسي أمي لأنطون تشيخوف
الخميس 17 أكتوبر 2024 - 11:18 من طرف هبة الله فرغلي
» مشوار الصمت ... إلى روح أبي الطاهرة في ذكرى رحيله الثالثة عشر
الخميس 3 أكتوبر 2024 - 12:13 من طرف ميساء البشيتي
» في الذكرى الثانية لرحيل الوالد عام مرَّ .
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 12:15 من طرف ميساء البشيتي
» عيد ميلاد ابنتي دينا
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 11:13 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل إلى أمي
السبت 28 سبتمبر 2024 - 13:05 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل في الهواء
السبت 7 سبتمبر 2024 - 12:30 من طرف ميساء البشيتي
» أن تملك مكتبة - أن تخسر مكتبة ..شجاع الصفدي
الخميس 5 سبتمبر 2024 - 11:27 من طرف خيمة العودة
» طباق إلى إدوارد سعيد ..محمود درويش
السبت 31 أغسطس 2024 - 12:05 من طرف حاتم أبو زيد
» سلسلة حلقات جاهلية .
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 12:10 من طرف ميساء البشيتي
» لمن يهمه الأمر
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 11:52 من طرف هبة الله فرغلي
» عندما تنتهي الحرب بقلم شجاع الصفدي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:17 من طرف خيمة العودة
» شجرة التين بقلم نور دكرلي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:11 من طرف خيمة العودة
» عيد ميلاد سعيد يا فرح
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 12:49 من طرف ميساء البشيتي
» مطر أسود
الإثنين 12 أغسطس 2024 - 10:29 من طرف ميساء البشيتي
» بـــ أحس الآن ــــــــ
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» أنا .. أنت .. نحن كلمة ( مشاركة عامة )
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» فقلْ يا رب للشاعر الفلسطيني صبحي ياسين
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:24 من طرف خيمة العودة
» ثورة صامتة
الإثنين 29 يوليو 2024 - 10:53 من طرف مؤيد السالم
» فضل شهر الله المحرّم وصيام عاشوراء
الثلاثاء 16 يوليو 2024 - 11:14 من طرف فاطمة شكري
» "عيون جاهلية" إصدار ميساء البشيتي الإلكتروني السادس
الإثنين 15 يوليو 2024 - 17:53 من طرف ميساء البشيتي
» سيد الصمت .. إلى أبي في ذكرى رحيله السادسة
الأحد 7 يوليو 2024 - 14:45 من طرف ميساء البشيتي
» ليلاي ومعتصمها
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:24 من طرف مريومة
» غزلك حلو
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:21 من طرف ريما مجد الكيال