"يـَرزُق مـَن يـَشــاء بغـيـر حـِسـاب..!!" الـدكتور عـبدالقـادر حسـين ياسـين
كان نجمـه المفضـل عمر الشريف (وخـاصـة منـذ أن شـاهـده في فيلم "الدكتور جيـفـاكو") ، وكان "حـلمـه"  أن يعيش حياة مثل التي يعيشها النجم السـينمـائي العـالمي :
صديقة أوروبيـة شقراء تجلس الى جانبه ،
تـنظر اليه ببلاهة وهو يلعـب البريدج ،
وسيجارة "مالبورو" في فمه ،
وفي يده كأس من الكونياك الفرنسي الشـهير .

كان  أكـرم (وهـذا ليس اسـمه)  يحلم بالسفر والتنقل من مطار الى مطار،
وأن توصي شركات الطيران العربيـة والعـالميـة،
بمعاملته معاملة خاصة باعتباره  “VIP” (شخصيـة مهمـة جـداً) ،
وعندما يدخل بارات الفنادق الفخمة يجد من ينحني له باحترام،
أو يدفع ثمن مشروبه المفضل.

وعـنـدمـا كان يسير في زواريب المخـيم ،
كان  يتخيل ان نظراته الثـاقـبـة  ستثير "الرعشة" في قلوب المراهقـات،
وان المعـجـبات سـيـغـرقـنه برسائل الغـرام...


لكنه تزوج أول عجوز صادفها في الطريق ،
وسرعان ما طلـقـها لأنها لا تملك الثروة ،
التي كان يمني بها نفسه عندما وقعـت عيناه على قلادتها،
ولاحظ الأساور الغـليظة تطوق رسغ يدها اليمنى الغليظة هي الأخرى.
لقد خـدع، وخطـف بصره بريق الذهـب الزائف.

وقـتها حمد الله كثيرا لأنه لم ينجب طفلا ،
يضيف الى متاعـبه المالية كلفة النفقة ،
التي ستقتطع حتما من راتبه الهزيل كل شهر ،
قبل أن يصارحه الأطباء بعد سنوات انه عـقـيم،
وان آلته لا تصلح إلا لـلـتـبـول.

كلما كان أكـرم يذهب للقاء "مسؤول المحطة"،
في مكتبه بالسفارة العراقـيـة في بيروت ،
يخرج منه محملا بزجـاجات الويسكي، وخراطيش السجائر المستوردة ،
وعلب حلوى الماكنتوش.


وفي إحدى المرات فوجئ بالمسؤول وهو يدس في جيبه حزمة من أوراق خضراء قائلا :
"نريد منك ورقة واحدة فقط ، ورقة مكتوبة بخط يدك عن (....) .
اننا نكاد نجهل أسباب عـداءه للرئيس القائد حفظه الله،
ورفضه المتكرر لتلبية دعواتنا لحضور مهرجان المربد... "


وفجأة توقف عن الكلام وراح يحدق بوجهه ليقرأ ردود الفعل.
ابتسم أكـرم  وأومأ برأسه علامة الموافقة ،
ثم أدخل يده في جيبه يتـلمس نعـومة الأوراق الخضراء.    


في اليوم التالي وصل أكـرم  مبكرا الى السفارة العراقية،
الأمر الذي اضطره للإنتظار طويلا ،
فلم يكن يعـرف ان الدبلوماسيين من أمثال (....) لا يتقيدون بساعات دوام محددة،
أو يخشون محاسبة السفراء لأنهم هـم من يراقب ويحاسب، ويجزي ويعاقـب.

نهض أكـرم  من مكانه في غرفة الاستعلامات بمجرد رؤيته (....) ،
وما أن ترجل من سيارته ذات اللوحة الدبلوماسية الحمراء حتى تقدم اليه بانحناءة تلميذ ،
وناوله الورقة التي ظل يمسك بها بقوة طيلة فترة انتظاره.
دعاه (....) لـتـناول فنجان من القهوة في مكتبه.
اعـتـذر بشدة لأن عـليه العودة الى مدرسته ،
وإلا سيجلب عليه غـضب المدير لا محالة.

استـدعى مسؤول محطة المخابرات (....) ،
وأمره  بتشفير المعلومات التي سيمليها عليه وارسالها الى بغـداد فورا.


جلس (....) يحول ما يسمعه الى أرقام وحروف :
الاسم: (...)
العمر: 39 عاما
المهنة: مدرس
النشاط الخاص: الصحافة والأدب
اللغات التي يجيدها: العربية والفرنسية
نقاط الضعـف: حب المال والظهور والسهر وحيازة الكماليات
نقاط القوة: عـمله الإضافي في الصحافة
الحالة الإجتماعية: مطلق
الملاحظات: صالح للعمل، والرقم المقترح له (....)

ومنذ ذلك اليوم من عام 1981 بات أكـرم يعرف برقمه الذي يرفق مع ما يرفعه من تقارير.

فوجئ زملاء أكـرم  في صحيفة "النـهـار" ،
وهم يتابعـون اهتمامه الجديد بأخبار العراق ،
وحواراته مع الوفود الثقافية العراقية التي كانت تتوالى الي بيروت الواحد بعد الآخر،
وغياب الأخبار التي تصلهم من الوكالات والمصادر الخاصة،
عن جرائم النظام العراقي وممارساته القمعـية ضد الأقليات والمعارضين...
وزادت دهشتهم حين استبدل سيارته القديمة بأخرى جديدة ،
وانتقاله من دار العائلة الى شقة أنيقة يقيم فيها بمفرده.
ولم يـُخـف البعض دهشته من أناقته المفاجئة ،
وحرصه على ارتداء بدلات تحمل علامات تجارية شهيرة وقمصان موقعة،
بينما راح آخرون يتهامسون بخبث:
هل عـثـر هـذا المحظوظ أخيرا على العـجوز الـثـرية؟

في هذه الأثناء نشبت الحرب العراقية الإيرانية،
وفي معمعانها جاءت تعليمات عاجلة من بغداد ،
بالبحث عن مترجمين موثوقين لمرافقة الوفود العسكرية،
الى عـدد من العواصم الأوربية لعـقـد صفقات سلاح.
أبرق مسؤول المخابرات المتبجح بسرعة:
"هل نسيتم الرقم (....)؟"

وعلى حين غـرَّة وجد أكـرم  نفسه يركب الطائرة باتجاه باريس،
وينزل في فندق خمس نجوم من النوع الذي كان يظهر فيه عمر الشريف محاطا بالشقراوات.


ترك ترتيب أشياءه وتوجه صوب نافذة الغرفة المطلة على نهر السين؛
فتحها، باغـتـته نسمة ممزوجة برذاذ الثلج.
وقف لدقائق مشدوها يتأمل حركة السير.
شعر بحرقة في حنجرته.
أحكم إغلاق النافذة جيداً، وعاد يستمتع بالدفء.  

طالت الحرب، وازدادت الحاجة للسلاح،
فاقترح مسؤول المحطة على بغـداد أن يقيم أكـرم  في باريس ،
عاصمة الدولة الأوروبية الكبرى صديقة العراق والعرب على حد وصفه،
بدل أن يثير اللغط والشبهات بذهابه وإيابه.


وهـكذا، حزم أكـرم  حقائبه،
ولكن قبل أيام من موعد السفر جاء الى المسؤول يخبره ،
ان زوجته أبلغـته انها ليست على استعـداد لأن تفقد وظيفتها المرموقة.
كان أكـرم  قـد تزوج قبل شهور قـليلة من عجوز هربت من بلدها ،
وبسرعة عـثـرت على وظيفة تعادل مرتبه أربع مرات.
ظل المسؤول صامتا يفرك يديه بعـصبية...
وبعد لحظات نطق بالكلمة الذهبية: "سـنـتـصـرف".

استقـر أكـرم  في أحد أرقى أحياء باريس،
بعـدما اطمئن الى حصول زوجته على واحد من المقاعـد،
المخصصة للعراق في منظمة "اليونيسكو" ...
وكادت أخباره تنقـطـع لولا انعـقاد مهرجان "المربد" كل عام،
إذ بات المناسبة الوحيدة التي يظهر فيها محاطا بالمرافقين،
فيما ينتظره السائق الخاص عند باب الفندق.
وفي كل زيارة لبغـداد كان يأتي عـبر عاصمة مختلفة،
حتى أحصيت له 45 عاصمة جابها في زياراته العـديدة.

كان أصدقاء أكـرم  حين يدعـوهم الى بيته ،
يعـودون بحكايات تشبه حكايات "ألف ليلة وليلة" :
موائد باذخة ، وخمور من أغلى الأنواع ،
ونادل فـلبيني يطوف عليهم بالسيجار الهافاني الفاخر.


منذ عامين عاد أكـرم  الى بلده وحيدا،
وهو يمضي الآن أيامه الرتيبة بالتردد على مقهى "الهورس شو" في شارع الحمراء،
أو  مطعـم "فـيـصل" مقابل الجامعة الأمريكية في بيروت.
يتمشى قليلا  كل مساء،
وحين يشعـر بالملل يجلس في مقهى منزو على "الروشة"،
يحدق في كأس القهوة المـُرَّة،
ويشتم بصوت مسموع أمـريكـا والـعـربـان.