بحـث
من أنا ؟
حقوقية، كاتبة، ناشطة في شؤون بلادي وشؤون المرأة، لي عدة منشورات ورقية وإلكترونية
المواضيع الأخيرة
كتب ميساء البشيتي الإلكترونية
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
أُمَّة تَنْتَحِر بسلاح التعصُّب!بقلم : جواد البشيتي
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
أُمَّة تَنْتَحِر بسلاح التعصُّب!بقلم : جواد البشيتي
أُمَّة تَنْتَحِر بسلاح التعصُّب!
جواد البشيتي
هل تريد أنْ تَعْرِف ماهيَّتك الحقيقية، ومَنْ أنتَ حقَّاً، أو أن ترى نفسكَ على حقيقتها العارية من كل ما خلعته عليها من ثياب وأقنعة جميلة؟
الإجابة في منتهى البساطة، فإنَّكَ يكفي أن تَعرِف ما الذي يَسْتَفِزُّكَ، ويهيِّجكَ، ويُخْرِجكَ عن طورك، ويجعل لكَ عيناً لا تُبْصِر، وأُذناً لا تَسمع، ورأساً من نارٍ حامية، حتى تَعْرِف مَنْ أنتَ.
إنَّ خَدْش عصبية (تستبدُّ بكَ) أصبحت، في عالم الأمم الحيَّة المتحضِّرة، أثراً بعد عين؛ لكنَّها جَعَلَت لها منكَ "مَتْحَفَاً"، هو ما يَسْتَفِزُّكَ، وهو، من ثمَّ، المفتاح الذي به نفتح المُغْلَق منكَ، انتماءً وهويةً ووعياً وشعوراً.
إنَّنا نتزيَّن ونتبرَّج بفكرٍ وثقافةٍ، من صُنْع غيرنا، ويَكْمُن فيهما "الرَّاقي" و"الحضاري" من "الانتماء" و"الانحياز" و"الهوية"؛ لكننا، في أوقات الضِّيق والشدة، أي عندما يُسْتَفَز "الجاهلي" الكامن فينا، نُسْرِع في الارتداد إلى الميِّت، الحي أبداً في نفوسنا ومشاعرنا، وفي "الباطن"، أي الحقيقي، من وعينا.
إننَّا نظلُّ في ثقافتنا الحقيقية من أحفاد عبس وذبيان مهما تسربلنا بسرابيل "القومية" و"الليبرالية" و"العلمانية" و"اليسارية"، فكلُّ متسربلٍ بسربال منها، أو من غيرها ممَّا يشبهها، يكفي أن تَسْتَفِزَّ "الجاهلي" الكامن فيه حتى يرجع القهقرى إلى "قبيلته" و"قبليته"، وإلى ما تفرَّع منهما من دولٍ وأوطان وأحزاب..
تعصَّبوا وانحازوا؛ لكن ليس لأشياء لم تختروها اختيارا، كالقبيلة والطائفة الدينية، وإنَّما لأشياء اخترتموها بأنفسكم، كالفكر الذي تتسربلون به تسربلاً.
"العصبية القبلية" هي، على ما يَعْلَم عَرَب القرن الحادي والعشرين جميعاً، ومنهم أولئك الذين لم يتحرَّروا منها بَعْد، هي من أخصِّ خواص "الجاهلية"، أي ما كان عليه العرب من جهالة، ومن أحوال سيئة أخرى قبل الإسلام.
"العصبية"، على وجه العموم، من "العُصْبَة"، وهي "الجماعة" من الناس، أو الحيوان، أو الطير.. "إذْ قَالُوا ليُوسُفُ وأخُوهُ أحَبُّ إلَى أبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةُ إِنَّ أبَانَا لَفِي ضلاَلٍ مُبينٍ".
أمَّا معناها فهو تمادي ومغالاة وإفراط المرء في الميل والانحياز والانتصار لعُصْبَته، أي للجماعة البشرية التي ينتمي إليها بالدم، أو بغيره؛ وهذا "التعصُّب" هو كالتعصُّب العشائري والقبلي، والتعصُّب الديني، والتعصُّب القومي.
"التعصُّب" مذموم، ولو كان من قبيل تعصُّب المرء لأفكاره، فالمرء المتعصِّب (المتعنِّت) لأفكاره، التي هي عادة، أو على وجه العموم، ليست من صُنْعه هو، يبدي دائماً إعجاباً شديداً بها، لا يتنازل عنها ولو ثَبُت لديه بالدليل القاطع بطلانها؛ إنَّه من مدرسة "عنزة ولو طارت"!
وإيَّاكم أن تظنُّوا أنَّ "الآخر" لا وجود له حيث تسود وتزدهر "العصبية" و"التعصُّب"؛ إنَّه موجود دائماً؛ لكن على هيئة "عدوٍّ لدود"، أو "شيطان رجيم"؛ وبعض المتعصِّبين قد يوظِّفون "السماء" في "شيطنة" هذا "الآخر"، حتى يَسْهُل عليهم تحرير "الطاقة الإيمانية الدينية" لدى أتباعهم في معركة "القضاء على الآخر".
وإيَّاكم أن تظنُّوا أيضاً أنَّ مجتمعاً تستبدُّ بأبنائه عصبية عشائرية، أو قبلية، أو دينية، أو قومية، ويَنْظُر إلى "الآخر"، ويعامله، على أنَّه "عدوٌّ مبين"، أو "محتَمَل"، يمكن أن يُنْجِب أشخاصاً من أمثال القائل "قد أخالفكَ الرأي؛ لكنني لن أتردَّد في أن أدفع حياتي ثمناً لحرِّية رأيكَ"، فمجتمع كهذا لا يُنْجِب إلاَّ من هم على شاكلة القائل "مَنْ ليس مِنَّا ومعنا، فهو ضدَّنا وعلينا".
والـ "الدولة العربية الحديثة"، عباءةً ارتدت أم بنطالاً، والتي قلَّما ترى لها نظيراً لجهة كونها ثمرة اغتصاب للسلطة، هي "الانتهازية بعينها" لجهة علاقتها بـ "موروث اجتماعي وتاريخي وثقافي.."، يكفي أن يظل على قيد الحياة، وأن ترعاه الدولة وتحفظه وتصونه وتهادنه وتتصالح معه حتى يصبح "المجتمع المُنْتِج للدولة الحقيقية" ميتاً، أو شبه ميت، أو عرضة للموت، وحتى يتضاءل وزن وحجم "الدولة الحقيقية" في داخل كل دولة عربية.
وإنَّه لتناقضٌ لا نظير له لجهة سخفه وافتقاره إلى العقلانية أنْ ترى الدولة عندنا، والتي هي، في كثيرٍ من المعاني، غريبة، تزداد غربةً، عن مجتمعنا، في سعيٍ دائمٍ لتحالُفٍ زائفٍ مع كل ما يشتمل عليه مجتمعنا من مضادات لتطوُّره في اتِّجاه المجتمع الحر الديمقراطي المنفتح، والذي مع غيابه تغيب "الدولة الحقيقية"، أي الدولة في مفهومها الغربي (الأوروبي).
و"انتهازية" الدولة عندنا، وفي هذا المعنى للانتهازية، تَقْتَرِن بنهج (تنتهجه في علاقتها بالمجتمع) لا يختلف كثيراً عن "سياسة فرِّقْ تَسُدْ"، فالمجتمع الزاخِر بعصبيات وانتماءات وهويات ضدَّ تطوُّره في اتِّجاه القرن الحادي والعشرين، يجب أن يتَّحِد وينقسم، أن يستقرَّ ويضطَّرِب، أن يتصارع ويتصالح، بما يعود بالنفع والفائدة على "الدولة"، بصفة كونها فئة ضئيلة، منفصلة، بمصالحها وأهدافها الحقيقية، عن المجتمع، لا شيء يستأثر باهتمامها سوى الاحتفاظ بسلطةٍ اغتصبتها اغتصاباً، أو ورَّثتها إيَّاها قوى أجنبية!
إنَّ "الحضارة"، و"الحرِّية"، و"الديمقراطية"، هي أشياء ثلاثة تَحْضُر، وتزداد حضوراً، إذا ما غاب شيء رابع، وازداد غياباً، ألا وهو "التعصُّب" بأنواعه، وفي مقدَّمها "التعصُّب الدِّيني"، و"التعصُّب للدم"، فإنَّ هذا التعصُّب، أو ذاك، هو الذي فيه، وبه، تنمو وتقوى وتشتد "الوحشية" في البشر.
و"التعصُّب" يتضمَّن "الانتماء" و"الانحياز"؛ لكنَّه لا يَعْدِلهما، فكل "تعصُّب" يكمن فيه "الانتماء"، أو "الانحياز"؛ لكن ليس كل "انتماء"، أو "انحياز"، يجب أن يكمن فيه "التعصُّب"، فالمرء إذا "تعصَّب" لـ "عُصْبَتِه"، أي لجماعته، فلا بدَّ له من أن يصبح أعمى البصر والبصيرة، له عين لا تبصر، وعقل لا يعقل؛ ولا بدَّ له، أيضاً، من أن يغدو كالجاهِل لجهة عدائه لنفسه (الجاهِل عدو نفسه) ذلك لأنَّ "التعصُّب" لا يسمح له بوعي حقوقه ومصالحه الحقيقية (ومَنْ لا يعي حقوقه ومصالحه لا يمكنه أبداً الدفاع عنها) ويَزُجَّ به في كل صراعٍ أو حرب؛ لكن بصفة كونه وقوداً له أو لها، أي يجعله (هذا التعصُّب) جندياً دائماً في معارِك لا ناقة له فيها ولا جَمَل، إذا لم يكن هو نفسه الناقة أو الجَمَل.
و"سؤال الانتماء"، الذي بحسب إجابة المجيب عنه نميِّز "الانتماء الحضاري" من "نقيض هذا الانتماء"، إنَّما هو: هل أنتمي (أنا ابن القرن الحادي والعشرين بعد وليس قبل الميلاد) إلى ما لم أخْتَر، وما لم أُرِدْ، أم إلى ما أختار، وما أُريد؟
أنتَ لم تَخْتَر، ولم تُرِدْ، أن تكون من عُصْبَةٍ ما (من عشيرة أو قبيلة أو جماعة دينية..) لكن يمكنكَ أن تختار، وأن تريد، انتماءً آخر، فيه، وبه، تُحقِّق، أو تتحقَّق، ذاتكَ.
في "التعصُّب"، وبه، يرتفع (حتماً) منسوب الوحشية في علاقتنا بـ "الآخر"، أي المختلِف عنا، المخالِف لنا، في ما نتعصَّب له، فـ "الآخر" لا يَظْهَر في مرآة المتعصِّب إلاَّ على هيئة شيطان رجيم، أو على هيئة عدوٍّ مبين، نَسْتَحِلُّ، بفضل "ثقافة التعصُّب" التي رضعناها رضاعةً، حتى قتله، فنقتله وكأنَّنا نقتل حشرةً ضارةً، ونخترع لتمجيد قتله ما تطمئنُّ له نفوسنا من أخلاق وعقائد، فهذه "الثقافة" لا أهمية تُذْكَر لها إنْ هي لم تجعل أصحابها (أي ضحاياها) مؤمنين بأنَّ الخير، كل الخير، يكمن في هذا الشر الإنساني، أي في معاملة "الآخر"، وجوداً وحقوقاً، على أنَّه الشيطان الرجيم.
إنَّ عصبيتا "الدَّم" و"الدِّين"، واللتين ذُقْنا منهما الأمرَّين، لا يمكن فهمهما وتفسيرهما إلاَّ على أنَّهما "الثقافة" التي بفضلها تُلْبَس المصالح الفئوية الضيِّقة لبوس المصالح العامة الواسعة (مصالح الشعب والأمَّة) فيَسْهُل على عُصْبَة ضئيلة من الأسياد (في الاقتصاد والمال والسياسة..) زجَّ العامَّة من الناس في كل صراعٍ (أو حرب) لهم هم مصلحة حقيقية (لا وهمية) فيه، وكأنَّهما، أي العصبيتان، الأفيون للدهماء.
قديماً، كان ممكناً أن نرى شيئاً من الواقعية في وحدة العصبة من الناس بالدَّم؛ أمَّا الآن فتلاشت ونفدت تلك الواقعية، متحوِّلةً إلى نقيضها، وهو الوهم والخرافة، فالأعراق، صغيرها وكبيرها، اختلطت وامتزجت، حتى أصبح "النقي" منها كالعنقاء، التي هي طائر وهمي لا وجود له إلاَّ في تصوُّر الإنسان وخياله.
ومع عَوْلَمة، وتنامي عَوْلَمة، الزواج (الذي من خلال الإنجاب يمعن في "تعكير" صفو ونقاء الأعراق والدماء) ستتأكَّد، حتى للمستعبَدين أكثر من غيرهم بعصبية الدَّم، خرافة "الجماعة المتَّحِدة بالدَّم"، أي المتَّحِدة بصفاتها الوراثية.
إنَّنا نَسْتَنْفِد الجهد والوقت في معرفة "شَجَر العائلات" عندنا، أصولاً وفروعاً؛ أمَّا هُمْ فقد توصَّلوا في اكتشافهم العلمي الجديد إلى أنَّ الهرمون الأنثوي المسمَّى بروجسترون Progesterone موجودٌ، أيضاً، في الشجر (النبات) وكأنَّ شيئاً من الوحدة يوجد بين النساء والنبات.
كلتا العصبيتين إنَّما هي اجتماع "المصلحة" و"اللاعقل"، فمخترعوها، وناشروها، ومؤجِّجوها، والمتحكِّمون فيها، صعوداً وهبوطاً، إنَّما هم ذوو المصلحة الحقيقية فيها؛ أمَّا ضحاياها من الدهماء فهم الذين يخطُّون بدمائهم وآلامهم وبؤسهم حقيقة أنَّ مصالح فئوية ضيِّقة هي التي تبقي "المنافي للعقل" حيَّاً يُرْزَق، فيستمر ويتوطَّد حُكْم الأموات للأحياء!
ويكفي أن تجرى الانتخابات حتى نرى الحجوم والأوزان على حقيقتها، فكثرة الانتخابات تجتمع مع قلَّة الديمقراطية، وكثرة الناخبين والمرشَّحين تجتمع مع قلَّة المواطنين، وكثرة الصغير من الانتماء والهوية تجتمع مع قلَّة المواطنة والانتماء الأعلى والأسمى، وكثرة العشائرية والطائفية.. تجتمع مع قلَّة الحزبية، وكثرة التصويت تجتمع مع قلَّة التمثيل، وكِبَر الدائرة الانتخابية يجتمع مع صِغَر المجتمع والوطن.
وفي آخر المطاف ننتخب في حرِّية تامة كل من يجتمع فيه "الإفراط في تمثيل أوهامنا" و"التفريط في تمثيل مصالحنا"!
إنَّ كل الأغاني والأناشيد والقصائد والخُطَب.. لا تؤسِّس، وحدها، للمواطَنة، فهذا الانتماء، يُزْرَع ويُغْرَس، ويضرب جذوره عميقاً في تربة الحياة الواقعية للبشر، قبل أن يغدو شعوراً ووعياً وثقافةً.. واستعداداً للتضحية بالغالي والنفيس.
"المواطَنة" لا تتحوَّل إلى قضية سياسية، في برامج وشعارات الحكومات والأحزاب والقادة السياسيين، إلاَّ حيث نقيضها، "اللا مواطَنة" بصورها وأشكالها المختلفة، يؤكِّد وجوده وحضوره القويين في حياة المجتمع، بأوجهها كافة، فلا تُفْهَم "المواطَنة"، بالتالي، إلاَّ على أنَّها صراع دائم ضد هذا النقيض، المتعدد الوجه والشكل، ينبغي لها فيه أن تُحْرِز الغلبة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا؛ لكن من غير أن يعلِّل دعاتها وأنصارها أنفسهم بوهم القضاء المبرم على كل ما ينتمي إلى "اللا مواطَنة"؛ ذلك لأنَّ جُلَّ ما يمكن أن يتوصَّل إليه هؤلاء هو أن تسود "المواطَنة"، وتُهَيْمِن، كابحةً جماح "اللا مواطَنة".
وهذا الذي قُلْنا، ونقول به، هو ما يفسِّر ظاهرة سياسية وثقافية وفكرية جديدة في عالمنا العربي، ودولنا ومجتمعاتنا العربية، هي اشتداد الحاجة لدى الحكومات والأحزاب والقوى السياسية (وغير السياسية) إلى الحديث عن أهمية وضرورة "المواطَنة"، لجهة جعلها حقيقة واقعة، فهي ما زالت أقرب إلى عالم المُثُل الأفلاطوني منها إلى الواقع، الذي فيه من القوى (الموضوعية والذاتية) المضادة لـ "المواطَنة" ما يَحُول بين مجتمعاتنا العربية وبين التطوُّر بما يُوافِق "المواطَنة".
وإنَّها دول وحكومات لا تستطيع العيش إلاَّ في إسار تناقُض، أحد طرفيه هو تغذية كل ما يُضْعِف وينفي "المواطَنة"، أي تعزيز وتقوية قوى وبُنى "اللا مواطَنة"، دفاعاً عن مصالحها الفئوية الضيِّقة، فإذا تمخَّض هذا النهج عن نتائج تَذْهب، أو توشِك أن تذهب، بما أرادته، ورغبت فيه، انتقلت إلى الطرف الآخر من التناقض وهو الانحياز إلى "المواطَنة" ضدَّ "اللا مواطَنة"، والتسلُّح بسلاح "المواطَنة"، توصُّلاً إلى الغاية نفسها!
إذا كان حضور "الحرية" و"الديمقراطية" ممكناً في غياب "الأحرار" و"الديمقراطييين"، أو ضآلة وجودهم وعددهم، فإنَّ حضور "المواطَنة" ممكناً في غياب "المواطنين"، أو ضآلة وجودهم وعددهم.
و"المواطِن" إنَّما هو شيء يُصْنَع صُنْعاً، فالمرء لا يُوْلَد "مواطِناً"، إنَّما "يصبح" مواطناً.
ولن يصبح "مواطِناً" إلاَّ إذا نال من "المواطَنة" حقوقه كافَّة، ومن "الديمقراطية" حقوقه كافَّة، ومن "الإنسانية" حقوقه كافَّة، فـ "الوطن" يعطي أبناءه قبل، ومن أجل، أن يأخذ منهم.
يعطيهم ما هو في الأصل حقٌّ لهم عليه؛ فحيث ينتشر الفقر والجوع والبطالة، ويزدهر الاستبداد، وتُغْتَصَب حقوق المواطَنة، والحقوق الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتتلاشى في الحكومات صفة التمثيل للحقوق والمصالح والقضايا القومية لشعوبها، تختفي حتماً ثلاثة أشياء: الوطن، والمواطِن، والمواطَنة.
قديماً، أي في العصر الذهبي للثقافة والوعي السياسيين العربيين، كُنَّا نتحدَّث عن أهمية وضرورة وحتمية ومزايا الوحدة القومية العربية، وعن صلتها بخيار آخر هو "الاشتراكية"، فخيار "الديمقراطية" لم يكن بالأهمية "الجدلية" التي هو عليها الآن؛ وكان الخلاف بين النُخَب السياسية والفكرية اليسارية العربية (أكانت قومية أم شيوعية وماركسية) يتركَّز في إجابة سؤال "عَبْر الوحدة نحو الاشتراكية أم عَبْر الاشتراكية نحو الوحدة؟".
لقد هُزِمَت "القومية العربية"، فكراً واتِّجاهاً وهدفاً وشعاراً، شرَّ هزيمة، إذ هُزِم بطلها وزعيمها جمال عبد الناصر في الخامس من حزيران 1967؛ وسرعان ما خرجت من رحم هذه الهزيمة قوى سياسية عربية جديدة، تُغَلِّب، في فكرها وبرنامجها وشعارها، "الوطن الصغير" على "الوطن الكبير"، و"الانتماء دون القومي" على "الانتماء القومي"؛ ثمَّ مني اليسار العربي، مع خياره الاشتراكي، بهزيمته التاريخية إذ انهار وتفكَّك على حين غرة الاتحاد السوفياتي؛ ثمَّ غزت الولايات المتحدة واحتلت العراق، فدشَّن سقوط بغداد عصر تجزئة المجزَّأ، فبعد تجزئة "الوطن الكبير" بدأت تجزئة "الأوطان الصغيرة"؛ وكانت "قوى اللا مواطَنة"، على اختلافها، والمتسربلة بـ "الديمقراطية" ومشتقَّاتها، هي "المقص" في أيدي أحفاد سايكس وبيكو.
"القومية الواحدة"، وبما يتَّفِق مع مصالح القوى النفطية الغربية، والمصالح الإستراتيجية للدولة اليهودية، قُصْقِصَت، وسُدَّت الطريق إلى "الدولة القومية"، عربياً، والتي كانت طريق الأوروبيين إلى القِمَم في كل شيء، وابْتُني من أشلائها أكثر من عشرين دولة؛ ثمَّ شرعوا يضربون كل جزء من أجزاء "القومية العربية"، فكل جماعة قومية غير عربية، في كل دولة عربية، أصبح لها الحق في أن تنفصل وتستقل، أو في أن تحكم نفسها بنفسها؛ لكن بما يجعلها، واقعياً، دولة ضِمْن دولة؛ أمَّا ذلك الجزء من الجماعة القومية العربية، كعرب العراق، فأمعنوا في تجزئته بقوى التعصُّب دون القومي، متِّخِذين من "صندوق الاقتراع الديمقراطي" مقَصَّاً جديداً يقصقصون به كل جزء من "القومية العربية"، فالانتماء دون القومي هو الذي ينبغي له أن يغلب الانتماء القومي لدى العربي في كل دولة عربية.
وفي مناخ عالمي وإقليمي يتعذَّر فيه أن تنمو وتزدهر الروح القومية العربية، أصبح لـ "غير العربي"، في كل دولة عربية، من "الحقوق القومية" ما يَعْدِل، أو ما يكاد يَعْدِل، "الأطماع القومية"، التي فيها تكمن مصالح لقوى دولية وإقليمية تناصب "القومية العربية" عداءً تاريخياً؛ أمَّا العربي (في كل دولة عربية) فتضاءل شعوره بالانتماء القومي؛ بل تلاشى، وأصبحت "الهوية دون القومية" هي هويته التي دفاعاً عنها يضحِّي بالغالي والنفيس.
إنَّ "الأوطان العربية الصغيرة"، والتي بعضها من الصِّغَر، بمعانية كافَّة، ما يجعله مَسْخَاً لمفاهيم "الوطن" و"المجتمع" و"الدولة"، هي التي تكتشف الآن أهمية وضرورة أن تتسلَّح بسلاح "المواطَنة"، فإذا كانت "القومية العربية" مع "الوطن العربي الكبير"، هي عدوها القديم، فإنَّ تجزئة المجزَّأ بقوى التعصب من "النمط العراقي" هي عدوها الجديد.
إنَّني مع "المواطَنة" في كل دولة عربية، أي في كل "الأوطان العربية الصغيرة"، و"المتناهية في الصِغَر"، على أن تتحقَّق وتنمو وتزدهر بما يشحن "الانتماء القومي العربي" بمزيد من الطاقة والقوَّة، فـ "الأوطان الصغيرة"، ومهما بدت لنا جميلة، تظل كالنقد المزوَّر الذي لولا وجود النقد الحقيقي (وهو كناية عن الوطن العربي الكبير) لَمَا وُجِد، وعلى أن تكون الدول والحكومات نفسها مثلاً أعلى لشعوبها ومجتمعاتها ورعاياها في "المواطَنة"، فإنَّها ما زالت بخواص سياسية تجعلها متخلِّفة عن مواطنيها في "المواطَنة الحقَّة". إنَّها، والحقُّ يقال، دول وحكومات لا تعيش إلاَّ بـ "اللا مواطَنة"، وفيها، فكيف لفاقِد الشيء أن يعطيه؟!
لقد عاب عليها أردوغان ذلك إذ خاطب إسرائيل قائلاً: "إنَّ تركيا ليست دولة قبيلة"!
في مجتمعاتنا ما أصعب أن تُشْعِل فتيل صراع يتسامى عن كل عصبية كريهة منافية للانتماء القومي، ولحقِّنا في التطوُّر الديمقراطي، وما أسهل أن تُخْرِج هذا الصراع، إذا ما بدأ، عن سكَّته بقوى العصبية الحيوانية والعمياء، فيتحوَّل هذا الصراع، الذي تكمن فيها مصلحة عامة، ويضرُّ بذوي المصالح الفئوية الضيقة، إلى ما يشبه "حرب الكل ضد الكل".
اسألْ أي عراقي أو لبناني.. عن رأيه في العصبية الطائفية والمذهبية، وعن موقفه منها، تسمع كلاماً يجعلك تعتقد أنَّ أُمَّتنا في خير وعافية، وأن لا خوف عليها من أن تقع في فخِّ اقتتال طائفي أو مذهبي..
على أنَّ هذا ليس سوى أحد طرفي تناقضنا الداخلي، ففي طرفه الآخر نرى أنَّ كل من يسمعكَ كلاماً من هذا القبيل يمكنه أن يتحوَّل سريعاً إلى وقود في "حرب الكل ضد الكل"؛ ولديه من قوَّة الدافع إلى التضحية بالنفس، وبذل الغالي والنفيس، في الحرب ضد المختلف عنه، قبلياً وطائفياً ومذهبياً، ما يفوق أضعافاً مضاعفة قوَّة دافعه إلى خوض الصراع الذي له مصلحة حقيقية، وليس مصلحة وهمية، في خوضه والفوز فيه.
ويكفي أن تشوِّه وتمسخ صراعاً ما بقوى العصبية القبلية والطائفية والمذهبية حتى تَخْرُج من أجداثها سِراعاً قيادات من النمط الذي بفضله يستمر حُكْم الأموات للأحياء، فترى القيادة تأتي إلى زعماء القبائل والطوائف والمذاهب منقادة، إليهم تجرجر أذيالها!
في العراق، الذي ما عاد للعروبة فيه (أي الانتماء القومي العربي) من وجود إلاَّ على هيئة "قبر" أو "متحف" رأيتُ وسمعتُ (عبر منابر إعلامية لوحوش التعصُّب) ما تقشعر له الأبدان، فالشيعي والسنِّي من عربه البائدة يتبادلان "التكفير"؛ و"التكفير" عندنا إنَّما يَعْدِل "الوحشية التي لا تضاهيها وحشية" في علاقة "المُكفِّر" بـ "المُكفَّر"، فهو ليس برأيٍ يُرى؛ بل ثقافةٌ نتصوَّر فيها "الآخر"، أي "المُكفَّر"، على أنَّه مخلوق من مخلوقات إبليس، وينبغي لنا، بالتالي، أن نستأصِل من نفوسنا كل رادِعٍ يمكن أن يردعنا عن الإفراط في إيذائه، أو عن قتله.
إذا رأيته فقيراً معدماً، أو ناطقاً بلغة الضاد، أو يدين بدين المسلمين، أو طفلاً، أو امرأةً، أو شيخاً، فلا تأخذكَ به رأفةً ولا رحمة، وتذكَّر، بعد أن تنسى كل ما في هذا الذي ترى من روادع يمكن أن تردعكَ عن إيذائه أو قتله، أنَّه "كافِرٌ"، يحقُّ لكَ، وينبغي، أنْ "تفوز" بإيذائه أو قتله!
ذات يوم، وفي بيروت، كنتُ جالساً مع أصدقاء، بعضهم لبنانيين، فحدَّثني أحدهم (وهو سني بيروتي) عن شخص، فامتدحه قائلاً: "مع أنَّه شيعي، فهو.."!
صديق ثانٍ، يبغض هذا اللون من العصبية والتعصُّب؛ لكنَّه شرع يحدِّثني عن مناقب ومزايا وفضائل عشيرته حتى كدتُ أظن أنَّهم من أبناء السماء، فسألته "لماذا أنتَ متعصِّب لعشيرتك هذا التعصُّب؟"، فأجابني على البديهة قائلاً "وكيف لي ألاَّ أتعصَّب لها، فهي الدم الذي يسري في عروقي.. والدم لا يصبح ماءً"!
لقد حِرْتُ في أمرهما، فصديقي اللبناني المتعصِّب لطائفته الدينية (السنة) لا يُصلِّي ولا يصوم، ولا يعرف شيئاً من التديُّن الإسلامي؛ أكان سنياً أم شيعياً؛ فهل من صلة سببية بين التعصُّب الديني، أو التعصُّب الطائفي الديني، وبين "قِلَّة التديُّن"؟
أمَّا صديقي الذي يتصوَّر العالم كله على أنَّه مؤلَّف من فسطاطين اثنين لا غير، هما عشيرته، وسائر العالم، فقد أقنعني بأنَّ "الجهل" يولِّد التعصُّب كما يولِّد الفسفور اللمعان.
ولو أمعنت النظر في "المواطَنة" لجهة الداعين إليها، والمنتصرين لها، الآن لتوصَّلْتَ إلى فَهْم "المواطَنة"، دعوةً ودعاةً، على أنَّها شعار (أو خطاب) التظلُّم الفئوي، والذي يعكس بروز صُدُوع دينية وطائفية ومذهبية وعرقية، أي "العصبية دون القومية" بأوجهها كافة، فـ "الجماعة العربية دون القومية" تميل، ولو بدايةً، إلى أن تعبِّر عمَّا تشعر به من ظُلْم لَحِقَ ويَلْحَق بما تعده حقوقاً لها بالدعوة، عبر ممثِّليها السياسيين، إلى "المواطَنة"، و"المساواة في الحقوق بين المواطنين جميعاً".
وكلَّما وَعَت جماعة عربية ما "وجودها دون القومي"، كالطائفي أو المذهبي، وظَنَّت أنَّ ريحاً (إقليمية أو دولية) ستجري بما تشتهي "سفينتها"، برزت "الدعوة إلى المواطَنة" على هيئة دعوة إلى إعادة توزيع السلطة والثروة على أُسِسٍ طائفية أو مذهبية أو عرقية.. فـ "المواطَنة"، في وجهيها "الديمقراطي" و"القومي"، والتي هي في حرب لا هوادة فيها على كل عصبية تستمدُّ حياةً من "الموات الديمقراطي والقومي"، لم تَغْدُ بعد فكرة تجتذب إليها من العقول والقلوب ما يكفي لجعلها حقيقة واقعة في حياتنا السياسية.
إنَّ "المواطَنة" التي إليها نحتاج هي "المواطَنة" التي في وسعها أن تَجُبَّ ما قبلها من كل تعصُّب ديني أو طائفي أو مذهبي أو عرقي.. أو عشائري، وتبتني للمجتمع وحدة منيعة من انقسامه على أسُسٍ سياسية وحزبية وفكرية واجتماعية ـ اقتصادية، فنرى "الأكثرية" و"الأقلية" فيه عابرةً مخترِقةً للحدود الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية، فنوع وحدتنا من نوع انقسامنا.
وأنتَ يكفي أن تَنْظُر إلى "المعترَك السياسي" عندنا حتى تُدْرِك افتقاره المتزايد إلى "جيوش منظَّمة تقاتِل في سبيل حقوق ومطالب وقضايا ديمقراطية وقومية واجتماعية وطبقية"، فهو معتَرَكٌ يَغُصُّ بجيوش الطائفة والعشيرة والقبيلة.. التي ليس في طبعها وطبيعتها ما يردعها عن التحالف مع "جيوش أجنبية"، تقودها سياسة العداء للحق الديمقراطي والقومي للعرب، وتَتَّخِذ من أولئك ما يشبه "حصان طروادة".
ذات مرَّة، انتقد رئيس وزراء لبنان الأسبق الدكتور سليم الحص النظام السياسي اللبناني قائلاً إنَّه نظامٌ يقوم على "ديمقراطية أقل وحرِّية أكثر".
لا أريد هنا أن انتقد هذا الانتقاد الصحيح في أحد نصفيه، وأن أسعى إلى إثبات أنَّ "الحرِّية"، مفهوماً وممارَسة، أوسع وأغنى وأعمق وأهم من "الديمقراطية"، التي مهما اتَّسعت وتوطَّدت تظل درجة في "سلَّم الحرِّية"، الذي كلما صعدت فيه درجة زادت درجاته درجات.
لقد أراد الدكتور الحص أن يقول، في انتقاده هذا، إنَّ التمثيل السياسي لطوائف دينية، ومهما لبس من لبوس الديمقراطية كالانتخاب الحر، هو نفي لكل ما تُمثِّله الديمقراطية، في جوهرها، من قيم ومبادئ.
قد نرى عشيرة يجتمع أبناؤها في هيئة ناخبين، لينتخبوا، في حرِّية تامة، مجلساً يُمثِّلهم ويقودهم ويدير أمورهم، التي يخالطها، في بعض مجتمعاتنا العربية، كثير من الأمر السياسي؛ وقد نرى، أيضاً، تنافساً حقيقياً بين مرشَّحين، وفوزاً، من ثمَّ، عبر صندوق اقتراع شفَّاف، لبعضٍ منهم؛ فهل يقودنا هذا إلى استنتاج مؤدَّاه أنَّ مجتمعنا قد اختار "الديمقراطية" نمط عيش وتفكير له، وطريقاً إلى تطوُّره السياسي، وإلى تطوُّره على وجه العموم؟!
"الانتخابات" شيء، و"الديمقراطية" شيء؛ ولن تكون الانتخابات جزءاً من الحياة الديمقراطية للمجتمع إلاَّ إذا غُرِسَت انتخاباته في تربة مختلفة تماماً هي "الأمَّة" و"المواطنة".
أمَّا تلك "الظاهرة" التي التبست على الدكتور الحص حتى اعتقد أنَّها هي "الحرية"، وأنَّ النظام السياسي في لبنان يقوم على "إفراط في الحرِّية" و"تفريط في الديمقراطية"، فهي ظاهرة "حرِّية التعبير"، التي تظل في الحفظ والصون ما بقيت غائبة تماماً "حرِّية التغيير".
وتختلف مجتمعاتنا العربية لجهة منسوب "حرِّية التعبير"، التي لا تحضر، أي لا يسمح لها بالحضور، إلاَّ إذا غابت "حرية التغيير"، التي بعضها يسمَّى "التداول السلمي والديمقراطي للسلطة". وهذا الاختلاف إنَّما يشبه الاختلاف بين أن تَصْرُخ ألماً إذا ما عضَّك كلب، وبين أن يُحْظَر عليك هذا الصراخ، فالمواطن الصالح هو الذي يتألَّم ويعاني في صمت!
وقد يغدقون عليك مزيداً من هذه الديمقراطية كأن يسمح لك بتلقي العلاج، فالعضَّة قد تكون مضرَّة بصحتك.
لقد أسبغوا علينا نعمة الحرِّية، في معناها هذا فحسب، إذ أقنعتهم التجربة أنَّ النباح، ولو كان مزعجاً، لا يمكنه وقف سير القافلة!
وإنَّ بعضاً من "المعارضين"، مِمَّن تطرَّفوا في معارضتهم لحكَّامهم وحكوماتهم في البلاد العربية حتى استبدَّ بهم الشعور باليأس والقنوط والإحباط، و"تحرَّروا"، بالتالي، من كل ما كان يردعهم عن بيع أنفسهم، بأثمان زهيدة رخيصة، في أسواق النخاسة السياسية، امتطوا الآن صهوة "معارَضة" تنجيهم من عذاب أليم، فـ "الشعوب العربية"، التي لا حول لها ولا قوَّة، والمغلوب على أمرها، هي التي يستسهلون ويستطيبون صبَّ جام غضبهم عليها، غير متورِّعين عن سَبِّها وشَتْمِها وتحقيرها.
إنَّنا نحن العرب، أو الشعوب أو الأمة العربية، نحتاج إلى شيء من جلد الذات، وإلى بعضٍ من الشعور بالكراهية لأنفسنا، فكيف للمرء ألاَّ يكره نفسه عندما يموت كل من وما يحبه في هذه الحياة.
لكنَّ هذا الذي أقول بحاجتنا إليه لا يمكن قبوله وفهمه إلاَّ بصفة كونه جزءاً من حاجة أوسع وأهم هي حاجتنا إلى أن نتَّخِذ من الحجارة المتأتية من هذا الهدم حجارة لإعادة البناء، أي لإعادة بناء الأمة بما يجعلها مستوفية شروط الانتماء إلى مجتمع الأمم الحيَّة في القرن الحادي والعشرين، فالأمم التي يُنْفَث في روعها أنَّها في حالٍ تسرُّ الصديق وتغيظ العدى لا يمكنها أبداً أن تَصْعَد في سُلَّم التطوُّر الحضاري والديمقراطي للأمم.
هذا النمط من "المعارضين" الذين ابْتُلينا بهم، والذين "يتفأرنون" في مواجهة حكوماتهم الأُوتوقراطية الاستبدادية الإرهابية، لـ "يستأسدوا" على الشعوب العربية، التي كانت في أحسن تقويم فردَّتها حكوماتها تلك أسفل سافلين، لا يُحقِّر، ويمعن في تحقير، الأمة العربية إلاَّ ليمجِّد ويُعظِّم في الوقت نفسه كل عصبية تسبَّبت بما آلت إليه الأمة من سوء وتردٍّ في أحوالها كافة.
إنَّه ينتشي من سبِّه وشتمه وتحقيره للعرب، ويطيب له المضي قُدُماً في هذا النمط من "المعارَضة"؛ لكنَّه يخرج عن طوره، ويستشيط غضباً، وتثور ثائرته، وكأنَّ عرضه انْتُهِك، إذا ما تعرَّضت هويته الصغرى أو الصغيرة للسبِّ والشتم والتحقير.
إنَّنا لا نجادل في حقيقة أنَّ شعوبنا العربية هي الآن، ومنذ زمن بعيد، في سلبية سياسية وتاريخية، تتعصَّب لأشياء يجدر بها أن تتعصَّب عليها أو ضدَّها، وتتعصَّب ضدَّ أشياء يجدر بها أن تتعصَّب لها؛ تنتصر بالملايين لتوافه وصغائر الأمور بحسب موازين الأمم الحيَّة المتحضِّرة الحرة؛ لكنها ما أن يتحدَّاها التاريخ أن تفعل الممكن والضروري حتى تنكمش وتتضاءل، وكأنَّها فقاعة وُخِزَت بإبرة.
ولا نجادل في حقيقة مُرَّة أخرى هي أنَّ شعوبنا العربية، ومن فرط كراهيتها لحكوماتها الاستبدادية، ومن فرط خوفها من بطش تلك الحكومات، يمكن أن تُظْهِر شيئاً ممَّا يشبه الحُبَّ لجلاَّديها، فالمرء الذي تتلاشى وتنهار مقاومته للظلم الذي يتعرَّض له، ويستبدُّ به الشعور باليأس والإحباط، يمكن أن تضطَّرِب مشاعره وتفسد، فتشتدُّ لديه الحاجة إلى سلوكٍ، نقف على معانيه في قول الخضوع "اليد التي لا تستطيع ردَّ أذاها عنك، قَبِّلْها، وادْعو عليها بالكسر"!
على أنَّ كل هذا الذي لا نجادل فيه، وهو غيض من فيض الحقائق المُرَّة، لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ شعوبنا العربية هي كذلك بالفطرة، فالأمم كالأفراد لجهة فسادها؛ إنَّها لا تُوْلَد فاسدةً، بل تصبح، أو يمكن أن تصبح، كذلك.
لقد حاروا في فهم الصلة السببية بين فساد الحكومات وفساد رعاياها، فقال بعضهم إنَّ فساد الحكومة من فساد شعبها، فاعترض آخرون قائلين إنَّ فساد الشعب من فساد حكومته؛ ونحن نقول إنَّ مجتمعاً فاسِداً، يَلِد، حتماً، حكومة فاسِدةً، تُولِّد، حتماً، مزيداً من الفساد فيه.
وحاروا أيضاً في فهم الصلة السببية بين استبداد الحكومات وسلبية الشعوب، فقال بعضهم إنَّ استبداد الحكم من سلبية الأمَّة، فليس من مُنْجِب للدكتاتور والطاغية سوى "القطيع"، أي الأمَّة التي ارتضت أن تُساس كما يُساس القطيع، فاعترض آخرون قائلين إنَّ ما تمارسه الحكومات من استبداد وقمع وإرهاب هو الذي يجعل الشعوب قطعاناً من الماشية، ويخلق فيها وينمِّي روح السلبية السياسية والتاريخية؛ ونحن نقول إنَّ الحُكم بالقمع والإرهاب والحديد والنار.. لا يمكن فهمه إلاَّ على أنَّه دليل على أنَّ المحكوم يقاوِم، ويبدي مزيداً من المقاوَمة، فهذا الحكم لا يظهر إلى حيِّز الوجود إلاَّ بصفة كونه كائناً لا يعيش، ولا يمكنه أن يعيش، إلاَّ في الصراع، وبالصراع، مع المحكوم، فالعلاقة بين حجمي الاستبداد والمقاوَمة هي دائماً علاقة تناسب طردي.
--------------------------------
الوجه الآخر لي
إصداري الورقي الثاني
رد: أُمَّة تَنْتَحِر بسلاح التعصُّب!بقلم : جواد البشيتي
ؤصلت هنا متأخرة لكنني حمدت الله اني بلغت هذا الإبداع الأدبي السياسي الرائع
انها مقالة فحوية تتسم بالموضوعية والواقعية الشديدتين ...تفضح خبايا قهقرتنا
وتسلخ جلود جماجمنا الممتدة علي سفح الأرجوحة ...
والمتراقصة بين اصداح ملهاة من صنع اجنبي بحت...
{"يعطيهم ما هو في الأصل حقٌّ لهم عليه؛ فحيث ينتشر الفقر والجوع والبطالة، ويزدهر الاستبداد، وتُغْتَصَب حقوق المواطَنة، والحقوق الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتتلاشى في الحكومات صفة التمثيل للحقوق والمصالح والقضايا القومية لشعوبها، تختفي حتماً ثلاثة أشياء: الوطن، والمواطِن، والمواطَنة."}
وكأن الكاتب كان يتنبأ بما سيؤل له الحال من الإمعان في تقزيم فوضاوية البطالة وصم الآذان عن سيمفونية الجوع الصادحة بين امعاء الشعب ...
{و"التعصُّب" يتضمَّن "الانتماء" و"الانحياز"؛ لكنَّه لا يَعْدِلهما، فكل "تعصُّب" يكمن فيه "الانتماء"، أو "الانحياز"؛ لكن ليس كل "انتماء"، أو "انحياز"، يجب أن يكمن فيه "التعصُّب"، فالمرء إذا "تعصَّب" لـ "عُصْبَتِه"، أي لجماعته، فلا بدَّ له من أن يصبح أعمى البصر والبصيرة، له عين لا تبصر، وعقل لا يعقل؛ ولا بدَّ له، أيضاً، من أن يغدو كالجاهِل لجهة عدائه لنفسه (الجاهِل عدو نفسه) ذلك لأنَّ "التعصُّب" لا يسمح له بوعي حقوقه ومصالحه الحقيقية (ومَنْ لا يعي حقوقه ومصالحه لا يمكنه أبداً الدفاع عنها) ويَزُجَّ به في كل صراعٍ أو حرب؛ لكن بصفة كونه وقوداً له أو لها، أي يجعله (هذا التعصُّب) جندياً دائماً في معارِك لا ناقة له فيها ولا جَمَل، إذا لم يكن هو نفسه الناقة أو الجَمَل.}
وكم من حرب دخلناها لا ناقة لنا فيها ولاجمل...سوي اننا قوم نمتاز بالتربع فوق قمم الجهل
والتبعية اللامنتهية ، وهو ما ابلغنا حد السفه التفكيري ؛وبلادة وبلاهة الوعي ؛ ناهيك عن التدني الأخلاقي المتفشي بين انفاسنا الضئيلة ؛ ونحن الذين كنا نسطر من سماحتنا وبهاء ارواحنا دواوين ودواوين.
في النهاية ابارك هذا الأديب السياسي الرائع...وارفع له قبعتي إجلالا واحتراما
انها مقالة فحوية تتسم بالموضوعية والواقعية الشديدتين ...تفضح خبايا قهقرتنا
وتسلخ جلود جماجمنا الممتدة علي سفح الأرجوحة ...
والمتراقصة بين اصداح ملهاة من صنع اجنبي بحت...
{"يعطيهم ما هو في الأصل حقٌّ لهم عليه؛ فحيث ينتشر الفقر والجوع والبطالة، ويزدهر الاستبداد، وتُغْتَصَب حقوق المواطَنة، والحقوق الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتتلاشى في الحكومات صفة التمثيل للحقوق والمصالح والقضايا القومية لشعوبها، تختفي حتماً ثلاثة أشياء: الوطن، والمواطِن، والمواطَنة."}
وكأن الكاتب كان يتنبأ بما سيؤل له الحال من الإمعان في تقزيم فوضاوية البطالة وصم الآذان عن سيمفونية الجوع الصادحة بين امعاء الشعب ...
{و"التعصُّب" يتضمَّن "الانتماء" و"الانحياز"؛ لكنَّه لا يَعْدِلهما، فكل "تعصُّب" يكمن فيه "الانتماء"، أو "الانحياز"؛ لكن ليس كل "انتماء"، أو "انحياز"، يجب أن يكمن فيه "التعصُّب"، فالمرء إذا "تعصَّب" لـ "عُصْبَتِه"، أي لجماعته، فلا بدَّ له من أن يصبح أعمى البصر والبصيرة، له عين لا تبصر، وعقل لا يعقل؛ ولا بدَّ له، أيضاً، من أن يغدو كالجاهِل لجهة عدائه لنفسه (الجاهِل عدو نفسه) ذلك لأنَّ "التعصُّب" لا يسمح له بوعي حقوقه ومصالحه الحقيقية (ومَنْ لا يعي حقوقه ومصالحه لا يمكنه أبداً الدفاع عنها) ويَزُجَّ به في كل صراعٍ أو حرب؛ لكن بصفة كونه وقوداً له أو لها، أي يجعله (هذا التعصُّب) جندياً دائماً في معارِك لا ناقة له فيها ولا جَمَل، إذا لم يكن هو نفسه الناقة أو الجَمَل.}
وكم من حرب دخلناها لا ناقة لنا فيها ولاجمل...سوي اننا قوم نمتاز بالتربع فوق قمم الجهل
والتبعية اللامنتهية ، وهو ما ابلغنا حد السفه التفكيري ؛وبلادة وبلاهة الوعي ؛ ناهيك عن التدني الأخلاقي المتفشي بين انفاسنا الضئيلة ؛ ونحن الذين كنا نسطر من سماحتنا وبهاء ارواحنا دواوين ودواوين.
في النهاية ابارك هذا الأديب السياسي الرائع...وارفع له قبعتي إجلالا واحتراما
غادة البشاري- عضو متميز
- عدد المساهمات : 210
تاريخ التسجيل : 05/02/2010
مواضيع مماثلة
» هل نحن أهْلٌ للديمقراطية؟ بقلم جواد البشيتي
» "الأقصى".. من التناسي إلى النسيان!بقلم:جواد البشيتي
» أنا المالك الحقيقي لكنيس الخراب .. بقلم : جواد البشيتي
» سيِّد نتنياهو.. اسْمَعْ ما سأقول!بقلم:جواد البشيتي
» لماذا غابت "فلسطين" عن إعلام "الربيع العربي"؟ بقلم:جواد البشيتي
» "الأقصى".. من التناسي إلى النسيان!بقلم:جواد البشيتي
» أنا المالك الحقيقي لكنيس الخراب .. بقلم : جواد البشيتي
» سيِّد نتنياهو.. اسْمَعْ ما سأقول!بقلم:جواد البشيتي
» لماذا غابت "فلسطين" عن إعلام "الربيع العربي"؟ بقلم:جواد البشيتي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» بعد إذن الغضب في الذكرى الثالثة عشر لوفاة امي
الأحد 3 نوفمبر 2024 - 11:53 من طرف ميساء البشيتي
» من روائع الأدب الروسي أمي لأنطون تشيخوف
الخميس 17 أكتوبر 2024 - 11:18 من طرف هبة الله فرغلي
» مشوار الصمت ... إلى روح أبي الطاهرة في ذكرى رحيله الثالثة عشر
الخميس 3 أكتوبر 2024 - 12:13 من طرف ميساء البشيتي
» في الذكرى الثانية لرحيل الوالد عام مرَّ .
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 12:15 من طرف ميساء البشيتي
» عيد ميلاد ابنتي دينا
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 - 11:13 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل إلى أمي
السبت 28 سبتمبر 2024 - 13:05 من طرف ميساء البشيتي
» رسائل في الهواء
السبت 7 سبتمبر 2024 - 12:30 من طرف ميساء البشيتي
» أن تملك مكتبة - أن تخسر مكتبة ..شجاع الصفدي
الخميس 5 سبتمبر 2024 - 11:27 من طرف خيمة العودة
» طباق إلى إدوارد سعيد ..محمود درويش
السبت 31 أغسطس 2024 - 12:05 من طرف حاتم أبو زيد
» سلسلة حلقات جاهلية .
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 12:10 من طرف ميساء البشيتي
» لمن يهمه الأمر
الثلاثاء 27 أغسطس 2024 - 11:52 من طرف هبة الله فرغلي
» عندما تنتهي الحرب بقلم شجاع الصفدي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:17 من طرف خيمة العودة
» شجرة التين بقلم نور دكرلي
السبت 24 أغسطس 2024 - 12:11 من طرف خيمة العودة
» عيد ميلاد سعيد يا فرح
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 12:49 من طرف ميساء البشيتي
» مطر أسود
الإثنين 12 أغسطس 2024 - 10:29 من طرف ميساء البشيتي
» بـــ أحس الآن ــــــــ
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» أنا .. أنت .. نحن كلمة ( مشاركة عامة )
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:27 من طرف حاتم أبو زيد
» فقلْ يا رب للشاعر الفلسطيني صبحي ياسين
الأربعاء 31 يوليو 2024 - 10:24 من طرف خيمة العودة
» ثورة صامتة
الإثنين 29 يوليو 2024 - 10:53 من طرف مؤيد السالم
» فضل شهر الله المحرّم وصيام عاشوراء
الثلاثاء 16 يوليو 2024 - 11:14 من طرف فاطمة شكري
» "عيون جاهلية" إصدار ميساء البشيتي الإلكتروني السادس
الإثنين 15 يوليو 2024 - 17:53 من طرف ميساء البشيتي
» سيد الصمت .. إلى أبي في ذكرى رحيله السادسة
الأحد 7 يوليو 2024 - 14:45 من طرف ميساء البشيتي
» ليلاي ومعتصمها
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:24 من طرف مريومة
» غزلك حلو
الأربعاء 3 يوليو 2024 - 11:21 من طرف ريما مجد الكيال